رومانسيّة الاغتراب

فـي شعر حبيب الصايغ

د. رضا عطية

في شعر الإماراتي حبيب الصّايغ (1955- 2019) تبديات لشعور بغربة مستدامة، بحث دائم عن مكان يُشعر الذات بالألفة، رحيل لاهث في الزمن، محاولة تلمس مستقبل ومكان يوتوبي يداعب الذات في أحلامها ولكن هذا الحلم المنشود يبقى طريداً تلاحقه الذات في الأماكن، إحساس متجدد باللاتوافق مع العالم.
في رؤية العالم في شعر حبيب الصايغ نجد حساً رومانسيّاً بادياً في الشعور بالحزن المهيمن على الذات، وفي علاقة الذات بالطبيعة وعناصرها كالبحر والأشجار وغيرها من المكونات البارزة في الطبيعة حد مناجتها والتماهي معها لتصير هي الموضوع الرئيس والشاغل الأكبر للهم الوجودي لدى الذات.

استعمل حبيب الصايغ قالب شعر التفعيلة واستطاع ترويض موسيقاه لتناسب معانيه وصوره الشعرية. في نص الصايغ نسمع صوت حكميم يتحدث بنبرة هادئة، بمعرفة الخبير الذي عرف الوجود أسئلة تتوالد أكثر من كونها معرفة يقينية محسومة أو حقائق مدركة ثابتة.
في شعر الحبيب الصايغ غنائية طاغية تتبدى في أحادية المنظور الذي تعاين من خلاله الذات نفسها والعالم، مع استثمار للبنى الموسيقية كالتقفية، شعر تغلب عليه كلاسيكية التشكيل الفني.

استكشاف العالم

يتبدّى في الخطاب الشّعري لدى حبيب الصايغ شغف ما لاستكشاف العالم وسعي مستدام لفك ألغاز الوجود، محاولات حثيثة لفهم مغزى الوجود واستكناه أسراره، لذا تبدو الذات كأنّها تطل على العالم من نافذة:
النوافذ تأخذنا معها
وتسافر في شغف شاهقٍ
كم تغير هذا الزجاج المعشق
ذاك الإطار الصديقْ؟
وكم من خلال النوافذ ضاع طريق!
تلك ذاكرة للزمان العصي على اللمسِ
...... ...... ......
نافذتان ووجهان من لهفة
والهواء يمر نقياً وطفلاً على صفحات
السنين.

النوافذ تشير لإطلالة الذات على العالم، رغبة من الداخل في الانفتاح على الخارج، والاتصال بالآخر، ولقد استحال الشعور بالنوافذ وفضاءاتها من شعور مكاني إلى زمني، في إحساس مثقل بوطأة الزمن وتسربه وانفلاته وعصيانه على الإدراك المادي الملموس.
وتستثمر الصياغة الشعرية بلاغة الصمت وكثافته عبر السطرين المنقوطين لبيان المسافة الزمكانية التي تقطعها الذوات عبر النوافذ أو لبيان جريان الزمن ومرور السنين في إطلالة الذوات من خلال النوافذ. أما في التمثل لثنائية النوافد والوجه (نافذتان ووجهان من لهفة) فهل يعكس شعوراً ما لدى الذات بانشطارها وتبدّل النافذة كعلامة على التحوّلات الزمكانية التي تعاينها الذات عبر النافذة؟ هل يكون الوجهان تبدياً من تبديات الوعي الشقي الذي يحس من خلال الإطلات عبر النافذة بتبدد الطرق التي كانت الذات تراها أم أنَّهما وجها الذات وآخرها/ المرأة، الرفيقة؟
وتشتبك علاقة الذات بالآخر/ المرأة في تمثّل علاقتها بالوجود كأنّ الآخر/ المرأة والوجود وجهان متلازمان:
أيتها السيدة التي- ما لاسمك الموصول
لا يوصلني إليكِ كي أتمّ موتي فيكِ
أو أعلك صوتي بين أسناني وأشلاء المرايا
وجهان نحن للبذور والسقيا
وجهان للفجأة
وجهان للتجربة النيئة
ووجهان غريبان من النفي الذي
ما لا سميَ الموصول ينفيني
ويلغي صخب الروح
ووجهان بعيدان
كأنّنا نحن اخترعنا أول اللون
رسمنا لغة الخرائط القديمه
كأنّنا نحن اللذان

ثمة شعور بحاجز ما أو مسافة ما تباعد بين الذات وآخرها، إحساس بانقطاع ما ينبغي أن يُوصل. ويستعمل الخطاب الشعري بلاغة المفارقة في كون الذات وآخرها يفقدان صلة الموصول، ليمسيا بحاجة إلى إكمال هويتهما المنقوصة.
يعمل الخطاب الشعري لدى حبيب الصايغ على تنويع مصادر صناعة موسيقاه ومنها التدويم التكراري، كما في تكرار كلمة (وجهان) في مستهل أربعة أسطر شعرية متتالية بما يخلق تزقيعاً نغميّاً يتوازى مع التركيز الدلالي الملحاح باستعمال كلمة (وجهان) للدلالة على تنوع أحوال التشارك بين الذات وآخرها (المرأة).

غياب الألفة

ثمة ترسيم نفساني في نصوص حبيب الصائغ لما يعتمل بدواخل الذات من مشاعر متدافعة وأحاسيس متلاحقة، وخواطر متناسلة، تسائل الذات نفسها والعالم عن وجودها وعلاقتها بالعالم الذي تحيا فيه:
ملامح وجهي مصادرة
فاسكبوا في مسامات جلدي
رماد المرايا

في شعر حبيب الصايغ تعيش الذات في حالة استكشاف مرآوية لأناها. يساكن الذات شعور ما بالاستلاب، تبدى في الإحساس بانمحاء الملامح، في تنامي الشعور بفقدان خصوصية الهوية. ولكن لِمَ تطالب الذات الآخرين بأن يسكبوا في مسامات جلدها رماد المرايا؟ هل تشعر الذات باستلاب المرايا لملامحها فتريد أن تستعيدها بفعل الامتلاء برماد تلك المرايا التي طالما انعكست ملامح الذات عليها؟ فكأنّ الذات تريد أن تقوم بعملية استعادة لهويتها في فعل أشبه بفعل العنقاء، التي يعاد بعثها وخلقها مجدداً بحسب الوعي الأسطوري.
يتجدد الشعور بالغربة على امتداد نصوص حبيب الصايغ حتى تستحيل وسماً يلازم الذات أبداً:
موطني ليلة باردة
ألوذ بها حين تسلبني غرفتي ولحافي
الثقيل
وتتركني ذاوياً كالغصون
تذوبني في قناعي
تخلفني لاكتراثي، فلا أكترث

ثمة إحالة بتمكين الزمن، فيصبح الزمن هو مكان الذات الشاعرة بالاغتراب وببرودة العالم، في ليلة باردة، شعور بالشتات يبعثر الذات، وفي تشبيه الذات نفسها بالغصون تأكيد للإحساس بالتمزُّق. أما في الشعور بالذوبان في القناع فيبرز فقدان القدرة على مواجهة العالم بوجه حقيقي للذات لعدم مواتاة العالم لها، ما يفضي بالذات لمسلك لا كتراثي تأكيداً لحالة اللاانتماء في علاقتها بالعالم.
في الخطاب الشعري لحبيب الصايغ ثمة هيمنة كبيرة لضمير المتكلِّم المفرد، الضمير السردي الأول، "الأنا"، في تأكيد لمركزية الذات وشعورها بالاكتفاء بنفسها في تمثّل العالم الذي تحس بالاغتراب فيه.

وحدة الوجود

في علاقة الذات بموجودات العالم، كما يتبدى في شعر حبيب الصايغ، ميل ما نحو التماهي بل التوحد مع بعض عناصر الوجود، كما في علاقة الذات مع البحر:
أنا والبحر بحران في واحدٍ
ومكانان في واحد
ضجة الموج في الروح، كل ارتطام
بين كل اختتام وكل اختتام
كنت والبحر
أنحت أشكاله بأظافر روحيَ قبل الولادة
ثم تحولت عنه إلى نحت روحي
بعد الفطام.

تتوحد الذات مع البحر بما يمثله البحر من علامات الاتساع والفساحة وأيضاً التموج والجدل حتى تحس الذات نفسها بحراً، وتشعر بوجود زمني لها قبل ولادتها كأنّ زمن وجودها ملازم لوجود البحر. فالمكان لدى الذات هو تعيين نفساني قبل أن يكون تشكيلاً مادياً وترسيماً طبوغرافياً، في شعر حبيب الصايغ ثمة ترجمة ميتافيزيقية للعالم.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها