إرثُ ريكاردو بيجليا.. وتَذَكّر الرسائل الأرجنتينية الحالمة

بقلم: كارلوس فونسيكا سواريز

ترجمة: طارق فراج

ما يراه الآخرون تناقضاً، يراه كبار الكتاب تشابكاً لمسارات متشعّبة. مثل الأطفال أمام صورة مجسمة، فإنهم قادرون على تغيير نظرتهم بطرق تسمح لهم بقراءة تاريخ الأدب بشكل مختلف. ريكاردو بيجليا Ricardo Piglia؛ الكاتب الأرجنتيني البارز الذي تزامنت وفاته الأخيرة مع الاعتراف المتزايد بعمله في العالم هو -بلا شك- أحد هؤلاء الحالمين العظماء2.
 

لسنوات عديدة، في الستينيات والسبعينيات، بدا أدب أمريكا اللاتينية محصوراً في المنطقة التي حددها عمل خورخي لويس بورخيس، الكاتب الأرجنتيني الذي تنبئ قصصه عن المكتبات والموسوعات والمرايا أيضاً؛ رواية ما بعد الحداثة التي ميَّزت الكتاب والفلاسفة من فوكو إلى فوستر والاس، ومن توماس بينشون إلى إيتالو كالفينو. بورخيس، الذي تكثر في قصصه متاهات مفاهيمية، رسم مثل هذه المتاهة المثالية في عمله لدرجة أن كُتَّاب أمريكا اللاتينية شعروا بأن عليهم الكتابة إما معه أو ضده. إما الكتابة المعرفية الواسعة والمفاهيمية على المسار ذاته الذي رسمه المعلم، أو الشكل المتعارف عليه للواقعية السحرية التي لم تكن سوى النسل البائس من رواية جارثيا ماركيز "مائة عام من العزلة".


روبرتو بولانيو
 

في الأجواء المضطربة في السبعينيات في أمريكا اللاتينية، كان يُنظر إلى علاقة كاتب ما بـ"بورخيس" ليس فقط كخيار بين المثقف المتفرّد والمثقف المبتذل، بل كقرار سياسي أيضاً. كان يُنظَر إلى بورخيس، المُعلم الأعمى الطاعن في السن الذي فشل في إدانة الفظائع التي ارتكبتها الديكتاتورية الأرجنتينية، من قبل الأجيال الشابة التقدمية على أنه أمين المكتبة المغبَّر بتقاليد رجعية. فقط قارئ وكاتب له قدرة بورخيس ذاتها يستطيع إنقاذ نفسه من الضريح الذي بدا عازماً على بنائه حول نفسه. ذلك الأمر استغرق ريكاردو بيجليا ليثبت أنه ـــ بعيداً عن المعارضة الزائفة بين بورخيس واليسار، بين بورخيس والشعب ـــ كانت هناك منطقة خيالية غير مستكشفة. اليوم، عندما يواجه اسم "روبرتو بولانيو"3. خطر الترويض من خلال التبجيل والتقديس، يبدو أنه من الضروري العودة إلى بيجليا، لأننا نجد في أعماله مفاتيح لتحرير أدب أمريكا اللاتينية من الصور النمطية التي تهدد دائماً بسجن إمكاناته الراديكالية. في عام 1988 في أطروحاته عن القصة القصيرة، ذكر ريكاردو بيجليا، بشكل عام، أن كل قصة قصيرة تروي قصتين: واحدة مرئية وأخرى باطنية. كل قصة هي قصة مزدوجة، ذات قراءة سِرية خفية. قبل ثمانية عشر عاماً، اقتحمَ المشهد الأدبي الأرجنتيني برواية لأول مرة توضح هذا المبدأ. فتحتْ روايته "تنفس صناعي"، التي نُشرت لأول مرة في الأرجنتين في عام 1980 خلال الديكتاتورية العسكرية، الاحتمال غير المتوقع للكتابة (مع) بورخيس وما (بعد) بورخيس في وقت واحد.

بيجليا -الذي كان مولعاً بعبارة فوكنر الشهيرة "لقد كتبتُ رواية الصخب والعُنف وبعدها تعلمتُ كيفية الكتابة"- أعاد تخيل التاريخ الأدبي في رواياته. في اتصال بورخيس بالواقع اليومي، كشف الكُتَّاب البُعد السياسيّ الكامن لأعماله. في السنوات القادمة، في روايات مثل: "المدينة الغائبة" 2000، أو "المال المحترق" 2004، أو "الهدف الليلي" 2015، سوف يستمر بيجليا في استكشاف الاحتمالات الكامنة في هذا التقليد المزدوج بينما ظهر في الوقت نفسه كواحد من النقاد الأدبيين الأساسيين لجيله. "النقد شكل من أشكال السيرة الذاتية، يكتب الناقد حياته عندما يصف قراءاته"؛ غالباً ما يذكر بيجليا ذلك في كتبه ودروسه. تشهد رواياته ومقالاته، التي يكون فيها البطل هو القارئ، على حياة مكرسة لاستكشاف الحدود السياسية للرواية. وفقاً لتقليد التجريبين العظماء الآخرين في أمريكا اللاتينية مثل: "سيرجيو بيتول" و"سيلفيا مولوي" و"روبرتو بولانيو"، تجبر كتابات بيجليا القارئ على إعادة تعريف تلك الحدود الدقيقة التي تفصل الخيال عن النقد والتاريخ الأدبي. بالنسبة للكاتب الطليعي المهتم بالإزاحة والإحلال والازدواجية وإعادة السياق، فليس من المستغرب أن يكون التحول الأول وربما الأكثر أهمية في مسيرته الأدبية قد حدث على مستوى اسمه. إنه "ريكاردو إيمليو بيجليا رينزي"، الذي قرر -في وقت مبكر من عام 1967- أن يكتب، تحت اسم "إميليو رينزي"، الأنا المتغيرة التي ستنتقل فيما بعد إلى رواياته كبطل لها. من خلال متابعة ملحمة رينزي الفكرية، رسمت أعماله سيرة ذاتية تحت الأرض نمت جاذبيتها بشكل كبير على مر السنين، لا سيما فيما يتعلق بشائعات بدأت تنتشر عبر الأوساط الأدبية في أمريكا اللاتينية وإسبانيا. قيل إن هناك شيئاً مخفياً أكثر إثارة للإعجاب من رواياته المخالفة للسائد أو مقالاته النقدية اللامعة، وهو عمل سري أكثر تفوقًا: إنها يومياته.

بحلول الوقت الذي دخلتُ فيه فصله الدراسي بخجل كطالب في جامعة "برينستون"، حيث كان يُدرّس دورة عن الرواية الطليعية، كان بالفعل كلاسيكياً حياً. الأسطورة الذي كان يقضي كل عام شهرين في بلدة صغيرة في نيوجيرسي، ربما في محاولة للاختباء من الشهرة التي بدا أنها تضطهده في أمريكا اللاتينية. بتواضعه المميز في برينستو بدا عازماً على إخفاء هويته. لم يتحدث أبداً عن نفسه كمؤلف، ولم يشر أبداً إلى كتاباته. ومع ذلك، لم يستطع معظمنا -طلابه- الشعور بأننا كنا في حضرة المحبوب (idol). كنا نعرف "سِرّه"، وكنا نراهُ في كل إيماءة تصدر منه. في الوقت الذي التقيتُ به، كان بيجليا قد أصبح بالفعل بيجليا: رمز الأدب الذي كتب بعضاً من أهم الكتب في أدب أمريكا اللاتينية. الرجل الذي غيَّر طريقة قراءة قارة بأكملها، وكان أشهر وريث لـ"بورخيس". وهكذا، عندما سمعناه يتحدث عن بورخيس جويس، أو كافكا -مصحوباً بإيماءات اليد التي كانت بلا شك تميزه – لم نستطع تجنب التفكير في أن التاريخ الأدبي كان يحدُث أمام أعيننا. كان الأدب، كما قال، يرسم مخططاً لمجتمع موازٍ: مجتمع سري تآمر على الثقافة الرسمية. سراً، شعرنا جميعاً بجزءٍ من مؤامرة بيجليا لتجاوز المؤسسة الأدبية.

خلال تلك السنوات التي سبقت تقاعده، سمعناه يخطط -بعبارته الكلاسيكية "سيكون من المثير للاهتمام أن تكتب يوماً ما..." - مئات الكتب غير المرئية، كما لو كان يسلمنا مهمة كتابتها بأنفسنا. بطريقة ما، كان يعلم أن الوقت قد حان للتعامل مع العمل الوحيد الذي من شأنه أن يكرسه باعتباره العمل الكلاسيكي الذي كان عليه بالفعل. حان الوقت لمراجعة 327 مفكرة كانت تتألف من مذكراته، والتي كان قد بدأ في كتابتها قبل أكثر من نصف قرن؛ في عام 1956. بحلول ذلك الوقت، وصلت اليوميات إلى مكانة أسطورية: لقد عرفناها جميعاً، وتكهنا بها جميعاً، لكن لم يقرأها أي منا، باستثناء جزء موجز كان قد نشره قبل سنوات في كتاب من المقالات، بجرأة من الصياد الذي يترك السمكة التي تم صيدها معلقة من أجل صيد واحدة أكبر. نظم بيجليا عمله المرئي كذريعة للعمل الوحيد الذي يكمن وراء كل شيء، وهو العمل الوحيد الذي جعل أخيراً "إيمليو رينزي" و"ريكاردو بيجليا" متطابقين في تقليد لـ"تشيزاري بافيزي" و"كافكا" و"فيتولد غومبروفيتش"، كانت اليوميات تتويجاً لحياة مُكرسة للتفكير في الأدب كأسلوب حياة.

في هذه الأيام التي أعقبت وفاته، كنت أقوم بمراجعة دفاتر الملاحظات التي تحتوي على الملاحظات التي أخذتها خلال العامين اللذين عمل فيهما أستاذاً في جامعة برينستون قبل تقاعده. في تلك الدفاتر، وجدت صفحة تحتوي على عنوان تحته خط وثيق الصلة بشكل مؤلم اليوم: "الفصل الأخير مع بيجليا"، تحته عبارة لا لبس فيها تقول: "ما هو على المحك في النهايات هو إنتاج المعنى". عندما قرأت الجملة، فهمت أن بيجليا قد قرأ وحرر قصة حياته كما لو كانت رواية. منتبهاً دائماً إلى الشكل، مدركاً دائماً أن الأدب هو شكل من أشكال الحياة، ظل بيجليا معاصراً حتى النهاية. وحيث استسلم الكتاب الآخرون للشيخوخة والضعف الذي يصاحب الظهور العام أحياناً، فقد ظل واقعياً وملائماً، وبالتالي اعتبرته الأجيال الشابة تأثيراً مباشراً لها. لا يسعني إلا أن أفكر أنه تأكد، مدركًا أن النهايات تكثف المعنى، أن يترك حتى نهاية حياته نشر تلك اليوميات؛ لقد جمعت اليوميات بطريقة ما حياة مكرسة للتفكير من خلال هذا المشروع المركزي للطليعة: مشروع تحويل الحياة إلى فن.


ماسيدونيو فرنانديز
 

في نفس دفتر الملاحظات، وفي ملاحظة عن كاتبه المفضل Macedonio Fernández "ماسيدونيو فرنانديز" 4. -الكاتب الأرجنتيني الذي اعتبره المعلم الحقيقي لبورخيس وسلفه الطليعي- وجدتُ واحدة أخرى من أقوال بيجليا المميزة: "الوضوح الحقيقي يأتي دائماً بعد الوفاة، والقراءة دائماً مرتبطة بالأجيال القادمة". عندما بدأ في عام 2015، يمرض بالفعل نشر يومياته تحت عنوان: "يوميات إيمليو رينزي" الصادر من (Restless Books)، كان بيجليا يضع الشروط لإعادة قراءة أعماله بعد وفاته. دائماً ما يكون على وشك الفاصل بين السيرة الذاتية والرواية دون أن يقع على الإطلاق سجيناً في الطريق المسدود "للرواية الذاتية"، تاركاً وراءه أدلة للسيرة الذاتية من أجل فهم الحياة المكرسة لقراءة التاريخ الأدبي بطريقة أخرى. حياة مكرسة لقراءة الأدب ضد التيار.

"كل عصر يحلم بالعصر الذي سيعقبه"5. هذا ما أحب بيجليا الاقتباس منه، مشيراً إلى عمل أحد فلاسفته المفضلين "والتر بنجامين" اليوم، في غيابه، أشعر أن الوقت قد حان أخيراً لكي نقرأه ونعيد قراءته جيداً؛ لأن كتاباته واجهت المستقبل دائماً وليس الماضي. مجموعة من الأعمال التي يبدو أنها تهدف إلى فتح أبواب المؤسسة الأدبية ومساعدتنا في الاستيقاظ من الكابوس التاريخي الذي تخيله "جيمس جويس" ذات مرة، والذي يهدد بأن يصبح حقيقة واقعة.


Carlos Fonseca on the Legacy of Ricardo Piglia ~ Remembering a Visionary of Argentine Letters
February 10, 2017https://lithub.com/carlos-fonseca-on-the-legacy-of-ricardo-piglia

 


كارلوس فونسيكا سواريز
هوامش
1. كاتب المقال كارلوس فونسيكا سواريز Carlos Fonseca Suárez (ولد عام 1987 في سان خوسيه كوستاريكا)، وهو كاتب وأكاديمي ومؤلف رواية "الكولونيل لاجريماس" و"متحف الحيوان".
في عام 2016، اختاره معرض "جوادالاخارا" الدولي للكتاب كواحد من أفضل عشرين مؤلفًا من أمريكا اللاتينية ولدوا في الثمانينيات. يعيش سواريز حالياً في لندن، ويعمل أستاذاً في جامعة كامبريدج. (م)
2. ريكاردو بيجليا (1941-2017): روائي وقاص وناقد وأكاديمي من الأرجنتين. وهو أحد أبرز أدباء اللغة الإسبانية في النصف الثاني من القرن العشرين. أصدر ما يزيد عن عشرين كتاباً بين الرواية والقصة والدراسات النقدية. وحصل على العديد من الجوائز الأدبية منها: جائزة بلانيطا الأرجنتينية، جائزة "رومولو جاييجوس" وجائزة "فومينتور". وقد تُرجمت أربعة كتب من أعمال ريكاردو بيجليا إلى اللغة العربية وهي: "الطريق إلى إيدا"، الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ القاهرة؛ 2015، "أرنستو جيفارا: قارئ بلا حدود"، مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2015، "تنفس صناعي"، الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ القاهرة؛ 2018، "الغزو"، ترجمة: أحمد عبد اللطيف؛ مراجعة: علي بونوا؛ سلسلة إبداعات عالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ الكويت؛ 2019. (م)
3. روبرتو بولانيو Roberto Bolaño: كاتب وشاعر تشيلي ولد بمدينة سانتياغو في 28 أبريل عام 1953، وتوفي في مدينة برشلونة الإسبانية في 15 يوليو عام 2003م، حصلت روايته المخبرون المتوحشون على جائزة "هيرالدي" عام 1998، وجائزة "رومولو جايجوس" عام 1999. تحول بولانيو بعد وفاته إلى أحد أكثر الكتاب المؤثرين في الأدب الإسباني، وهذا ما تؤكده العديد من المنشورات المخصصة لأعماله كما يؤكده انضمام ثلاثة من رواياته، وهي: 2666، نجم بعيد، والمخبرون المتوحشون، لقائمة أفضل مائة كتاب في الخمسة والعشرين سنة الأخيرة، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات. (م) 
4. ماسيدونيو فرنانديز Macedonio Fernández: كاتب وفيلسوف أرجنتيني. تضمنت كتاباته الروايات والقصص والشعر والصحافة، كان معلماً لخورخي لويس بورخيس وغيره من الكتاب الأرجنتينيين الطليعيين، سبعة عشر عاماً من مراسلاته مع بورخيس نُشرت في عام 2000. (م)
5. في إشارة إلى كتاب والتر بنجامين: "العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي" الصادر 1936م
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها