سِجلماسة.. من الازدهار إلى الخراب

د. أحمد سوالم



تُعدُّ مدينة سجلماسة من أهم المدن المغربية المندثرة شهرة، فهي ثاني مدينة إسلامية بالغرب الإسلامي بعد القيروان، وهي أهم مركز اقتصادي في مغرب العصر الوسيط، وكانت صلة الاتصال السياسي والفكري والروحي بين المغرب وإفريقيا ما وراء الصحراء.



سجلماسة: الإنسان والمجال

تقع مدينة سجلماسة حسب البكري "في أول الصحراء"، وهي: "منطقة سهلية وحولها أرباض كثيرة وفيها دور كثيرة..."، وحسب ياقوت الحموي تقع "في جنوب المغرب وفي منقطع جبل درن"، وحددها اليعقوبي "على نهر يقال له زيز". والمعروف حالياً أن سجلماسة تقع كيلومترات عن مدينة الريصاني بتافيلالت. فهي إذن تقع في المناطق الجنوبية المغربية على مشارف الصحراء الكبرى بين خطي 20 36 و31 شمال خط الاستواء، ويحدها شمالا الأطلس الكبير الشرقي، وجنوباً حمادة كم كم، وغرباً الأطلس الصغير وشرقاً حمادة كير.

ويلف الغموض بدايات تأسيس مدينة سجلماسة، حيث تنقسم الروايات حوله إلى قسمين:
- أن بناءها تم في مرحلة حكم الرومان.
- أن بناءها يعود إلى فترة العصر الإسلامي1.

إلا أن أغلب الدراسات ترجع تأسيس مدينة سجلماسة إلى سنة 140ه/ 758م، على يد أبي القاسم سمغو بن واسول المكناسي الصفري، الذي كان صاحب ماشية فانتجع بموقع سجلماسة، والتفت حوله قبائل البربر فاستغل ذلك ونشر المذهب الصفري، فأقبلوا عليه وأعلنوا عن قيام دولة عاصمتها سجلماسة، ورفعوا يزيد بن الأسود زعيماً لهم. وتشييد سجلماسة لم يتم دفعة واحدة بل استغرق عدة سنوات، وساهمت في تغيير حياة سكان المنطقة من البداوة والترحال إلى الاستيطان والاستقرار.

ويمتاز موقع سجلماسة بوجود ثلاث وحدات تضاريسية: هي الأطلس الكبير والأطلس الصغير الشرقي والحمادات، وبها ممرات مهمة منها: ممر تيزي تافللت الذي يوجد بجبال باني في الأطلس الصغير الشرقي، ويعد أهم منفذ يربط واحات سجلماسة بواحات درعة.
أما مناخ سجلماسة فهو مناخ جاف قاري وفي ذلك يقول المقدسي: "إن سجلماسة شديدة الحر والبرد جميعاً صحيحة الهواء"2.
وتدخل تربتها في مجال السبخات (السبخة هي تربة شديدة الملوحة)، وفي ذلك يقول البكري: "ومدينة سجلماسة مدينة سهلية، أرضها سبخة بها أرباضٌ كثيرةٌ"3. إذن فالظروف المناخية والطبيعية جعلت الغطاء النباتي بالمدينة ضعيفاً.

أما في ما يخص العناصر البشرية التي استوطنت المدينة فتمتاز بتنوعها، وهي:
- الأفارقة السود: تواجدوا بشكل مكثف خلال النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، بدليل أن أول أمير للخوارج الصفرية هو عيسى بن يزيد الأسود.
- الأمازيغ: يجهل تاريخ دخولهم مناطق الصحراء، إلا أنه من المحتمل أن يكون ذلك سنة 622ه، وشكل دخولهم سجلماسة ضغطاً على العناصر السوداء التي تراجعت نحو أقصى الجنوب تاركة مجالاتها للعناصر البيضاء التي أسست الواحات والقصور4. ويمكن أن نُبين ثلاث قبائل أمازيغية استوطنت مجالات سجلماسة:
الصنهاجيون: كثيرو العدد، استقروا بالمدينة بعد سيطرة المرابطين على سجلماسة سنة 1054م.
الزناتيون: لعبوا دوراً في تعمير واحات درعة وساعد تأسيس قبيلة مكناسة لسجلماسة في استقرار العنصر الزناتي بها، واستطاعت تكوين إمارة بني مدرار.
المصموديين: قليلو العدد، استقروا بالمدينة بعد سيطرة الموحدين عليها.
- العرب: يمكن أن نميز فيهم بين ثلاث فئات: الأولى التي وصلت في عهد الفتوحات الإسلامية والتي كان لها فضل نشر الإسلام بالمنطقة، والثانية التي كانت تعيش حياة الترحال ووجدت في المنطقة مكاناً للاستقرار وتتكون من بني هلال وبني معقل. أما الفئة الثالثة فيمثلها الأشراف الذين ظهروا بالمنطقة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، عند وصول جد الأسرة العلوية التي تحكم المغرب حالياً إلى سجلماسة سنة 1256م.
- اليهود: عرف عنهم امتهان الأعمال التجارية وصياغة الحلي، إلا أنهم في سجلماسة امتهنوا حرفاً أخرى كالبناء، وفي ذلك يقول البكري: "والبناؤون عندهم يهود لا يتجاوزون بهم هذه الصناعة"5.
- الأندلسيون: عددهم قليل، امتهنوا الحرف والتجارة، كما كان منهم العلماء.
- أهل الذمة: لم تنقل المصادر التاريخية عنهم شيئاً خصوصاً في عهد بني مدرار6.

إشعاع سياسي وازدهار اقتصادي

كان لمدينة سجلماسة إشعاع سياسي في المغرب الوسيط إلى جانب أهميتها التجارية، فقد اتخذها بنو مدرار عاصمة لدولتهم الصفرية.
كما كانت عبر تاريخها هدفاً للقوى السياسية المتصارعة حول الحكم، من المرابطين والموحدين والمرينيين، ولعبت دوراً في الصراع بين بني مرين بفاس وبني عبد الواد بتلمسان لكونها كانت مقصداً للخارجين عن نفوذهم، وما شكله عرب المعقل من بني منصور المستقرين بمجالاتها للدولة المرينية من مشاكل بسبب انتفاضاتهم المتكررة واعتراضهم القوافل التجارية في رحلتها من السودان الغربي إلى فاس. كما شكلت سجلماسة المجال الذي انطلقت منه الدولة العلوية، فقد وصلها الحسن الداخل جد العلويين سنة 1256م.

اكتسبت مدينة سجلماسة أهمية اقتصادية في المغرب الوسيط في شتى المجالات، فأهميتها الفلاحية تعزى إلى فائدة نهري: زيز وغريس من تخصيب للتربة وتوفير لمياه الري، مما ساعد على تجاوز حدة وقع الظروف المناخية القاسية بالمنطقة، كما اهتم بنو مدرار بحفر الترع والقنوات لاستغلال نهر زيز والاستفادة من الآبار والعيون. وقد تحدث أغلب الجغرافيين أن سجلماسة لم تعان من مشكل في المياه الجارية خلال العصر الوسيط، وهو ما مكن من نشاط زراعي مكثف في وسط صحراوي شبه جاف.

ومن أهم المنتوجات الفلاحية بسجلماسة نذكر:
- الحبوب: قمح سجلماسة من النوع الجيد، فهو حسب ابن حوقل "ما بين الحنطة والشعير".
- التمور: الأكثر انتشاراً في المناطق الجافة، اتسمت بوفرتها وجودتها، نقلها التجار إلى مختلف الحواضر المغربية وبلاد السودان وأوروبا. قال عنها ابن حوقل: "سجلماسة لها نخيل وبساتين حسنة"، والبكري: "إن سجلماسة كثيرة النخل"7، والإدريسي: "وبها نخل كثير، وأنواع من التمر لا يشبه بعضها"8، وذهب ابن بطوطة أن تمرها "لا نظير له في البلاد"، في حين تحدث ياقوت الحموي عن منتوجه "وفير كثير بهذه المناطق، لكن غلة أهلها من المزروعات قليلة"9.
وهناك منتجات أخرى عرفت بها سجلماسة منها: القطن والكمون والكرويا والحناء، كما اشتهروا بزراعة التين والزيتون واللوز والرمان.

كما اهتم أهل سجلماسة بتربية الماشية، رغم ما تعانيه المجالات الجافة من ضيق مساحة المراعي، ولكن الحاجة للحومها وألبانها وجلودها لاستخدامها في مختلف الأعمال المتعلقة بالزراعة، جعلت هذا النشاط مهماً حيث تنتقل القبائل الرحل عبر مناطق متعددة بقطعانها (الإبل والغنم والماعز...)، كما يمكن أن نميز بين قطعان المستقرين وقطعان الرحل.

أما الصناعة، فقد عرفت سجلماسة نشوء بعض الحرف والصناعات اليدوية نذكر منها: صناعة المنسوجات المعتمدة على قطن الواحة والمتوفر بمنطقة تافيلالت، وصناعة الأواني الخشبية والفخار، وصك العملة، وصياغة الحلي التي اشتهر بها اليهود والروم، وصناعة الحديد التي أتقنها الأندلسيون المقيمون بسجلماسة حيث استعملوه لصناعة الأبواب الحديدية والأسلحة.

كما تميزت سجلماسة بكونها مدينة تجارية بامتياز، لموقعها على طريق القوافل المتجهة نحو السودان، وكان التجار هم مصدر القوة المالية والسياسية والعسكرية للإمارة المدرارية الصفرية. وكانت أسواقها مركزاً للنشاط التجاري ومظهراً من مظاهر ازدهار الحياة الاقتصادية فيها، ما جعل أهلها يعيشون حياة الترف، وعن ذلك يقول ياقوت الحموي: "وأهل هذه المدينة من أغنى الناس وأكثرهم مالا؛ لأنها على طريق من يريد غانة التي هي معدن الذهب ولأهلها جرأة على دخولها"10.

وكانت أهم صادرات سجلماسة من المنتجات الزراعية ومنتجات الحرف اليدوية المختلفة، توجه نحو بلاد السودان خاصة أودغست وغانة وتكرور، وتجلب من بلاد السودان الذهب والرقيق والعنبر والملح، وأشجار الصمغ التي تصدر إلى الأندلس عن طريق سجلماسة.

أهل سجلماسة وتدبير الماء

يمتاز المجال الواحي ومن ضمنه مدينة سجلماسة بشح الماء، وبالتالي حاجة السكان إليه ما جعلهم أكثر من غيرهم مؤهلين لابتكار تقنيات استنباط الماء، لتوفر الحافز المتمثل في قلته وكثرة الحاجة إليه بسبب الظروف المناخية، كقلة الأمطار وعدم انتظامها وارتفاع درجات الحرارة اليومية وهبوب رياح الشرقي الجافة، كلها ظروف جعلت من الماء عنصراً حيوياً وأساسياً لدى السكان وبالتالي ابتكروا أساليب لتدبيره منها:
- الناعورة: مصنوعة من الخشب تدار بواسطة حصان أو جمل، أو طاقة مائية في حالة بنائها على مجرى الوادي.
- الخطارة: تقنية فارسية انتشرت بشكل واسع في المغرب والأندلس وإفريقيا، وحسب الشريف الإدريسي إنشاء الخطارات بالجنوب المغربي، تم في عهد يوسف بن تاشفين على يد المهندس الأندلسي عبيد الله بن يونس. والخطارة هي عبارة عن آبار عديدة تتصل فيما بينها بنفق يحمل المياه عبر مسافة طويلة من منابعه إلى مقاصده، واستغلال مياهها يتطلب توفر ثلاثة شروط:
- وجود مياه جوفية على عمق غير بعيد عن سطح الأرض.
- وجود انحدار التضاريس.
- وجود تربة صلبة نسبياً11.
وهذه الشروط متوفرة في سجلماسة، وتعود أقدم خطارة بالمدينة إلى القرن العاشر الهجري، وآخرها تم بناؤها في عهد حكم الحسن الأول.
- أغرور: ويعني البئر والدلو وتتخذ الجرارة موضعاً وسطاً في أعلى البئر.

من الازدهار إلى التراجع

لا يكتنف الغموض تأسيس مدينة سجلماسة فقط، بل يتعداه إلى تاريخ خرابها وانهيارها في ظل قلة الأبحاث الأثرية الكفيلة بسبر أسراره، إلا أن أغلب الدراسات التاريخية ترجعه إلى تراجع دور المدينة الاقتصادي منذ منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، نتيجة تحول وتغير المحاور التجارية الصحراوية وانحرافها نحو الشرق، وظهور مراكز تجارية بالمغرب الأقصى آمنة سلكتها القوافل التجارية بعيداً عن النهب الذي كان يقوم به الأعراب (عرب المعقل)، الذين سيطروا على الطرق التجارية بسجلماسة، وتدخلوا بشكل مباشر في شؤونها السياسية وفي القوى المحلية التي كانت تحكم مجالاتها.

فإذا كان تراجع دور المدينة التجاري له ما يدعمه من مبررات؛ فإن خرابها يكتنفه الغموض رغم تعدد الافتراضات حوله، والتي تحتاج إلى البحث والتقصي عن طريق البحث الأثري.

أرجع حسن علوي حافظي -أستاذ التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط- خراب سجلماسة إلى احتمالين:
- أن يكون حدث ذلك أواخر ق14 م/ 8ه بعد ثورة أهاليها سنة796 ه/ 1393م، وتهديمهم للسور الخارجي وانتقالهم للسكن في القصور حسب الحسن الوزان.
- أن تكون ثورة الأهالي هذه هي بداية لأعمال تخريب متوالية عرفتها المدينة، ما أدى إلى اختفاء معالمها المعمارية بالتدريج12.

أما لحسن تاوشيخت، فقد أرجع خراب سجلماسة إلى أربعة عوامل هي:
- هيمنة القبائل العربية، وما سببته من القلاقل التي أثرت على الحياة الاقتصادية للمدينة حيث تدهورت التجارة الصحراوية وضعفت سجلماسة وانتهى بها المطاف إلى الاندثار.
- تحول مسالك التجارة الصحراوية نحو موانئ المحيط الأطلسي ونحو المناطق الأكثر أمناً كتلمسان وإفريقية ودرعة.
- سياسة سلاطين بني مرين تجاه سكان سجلماسة، خاصة في وقت الأزمات التي عرفها المغرب في القرن الرابع عشر بسبب تعاقب سنوات الجفاف والمجاعة.
- الظروف المناخية القاسية من جفاف وأوبئة خاصة الطاعون الأسود13.

أصبحت سجلماسة منذ القرن السادس عشر في عداد الأطلال، لينتقل المجال من نمط عمراني مديني تمثله سجلماسة إلى نمط ريفي تمثله القصور المندرسة والخالية.
 

خلاصة القول

لقد ساهمت سجلماسة في التطور الحضاري للمغرب في العصر الوسيط، لمكانتها التجارية ودورها السياسي في التحولات التي عرفتها البلاد، إلا أن أهميتها تصطدم بالغموض الذي يكتنف العديد من محطاتها التاريخية خصوصاً مرحلتي التأسيس والخراب، مما يتطلب من الباحثين في المجال الأثري مزيداً من البحث لسبر أغوارها، ومن الدولة الاهتمام بما تبقى من أطلال هذه المدينة التاريخية حفظاً لذاكرة وتاريخ المغاربة.


الهوامش:
1. علوي حافظي حسن: سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط، مطبعة فضالة، المحمدية،1997،ص: 85. / 2. المقدسي: نقلاً عن علوي حافظي حسن، مرجع سابق، ص: 42. / 3. علوي حافظي: م.س، ص: 48. / 4. علوي حافظي: م.س، ص: 136. / 5. علوي حافظي: م.س، ص: 145. / 6. الجنحاني الحبيب: الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سجلماسة عاصمة بني مدرار، مجلة المؤرخ العربي، العدد الخامس، ص: 154. / 7. البكري: نقلاً عن الجنحاني، م.س، ص: 141. / 8. الإدريسي الشريف: وصف إفريقيا الشمالية والصحراوية، الشركة المغربية للتأليف والنشر، الرباط، 1986، ص: 38. / 9. ياقوت الحموي شهاب الدين: معجم البلدان، دار صادر، بيروت 1986، ص: 192. / 10 .الجنحاني: م.س، ص: 144. / 11. علوي حافظي: م.س، ص: 73. / 12. علوي حافظي: م.س، ص: 413. / 13. تاوشيخت لحسن: سجلماسة من المدينة إلى القصور، دورية كان التاريخية، العدد الثامن والعشرون، يونيو 2015، ص: 55. // الصور: آثار سجلماسة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها