الأسطورة الشخصية واللاّوعي الجمعي

في رواية (الحديقة المحرمة)

د. رشا الفوال



على افتراض أن الأدب هو الذي يضيء التحليل النفسي، فاللاوعي الجمعي يُعد نوعًا من الإرث العالمي، وإذا كان الأثر الأدبي يجد تجانسه في روح عاطفي يسري في بنياته، فالسيكولوجيا هي قبل كل شيء فهم للعاطفي1؛ ولأن العمل الأدبي وفقًا لــ"فرويد" موقع أثري له طبقات متراكمة من الدلالات، سنعتمد في القراءة الحالية لكشف أسرار رواية: الحديقة المحرمة، الصادرة عام 2021م، عن: المجموعة الدولية للنشر والتوزيع، للكاتبة د. سهير المصادفة، على منهج يعمل على تطبيق الأدب على التحليل النفسي، الذي عليه أن يعيد النظر في تصوراته، فبينما تهتم سائر القراءات بالتراكيب أو الأسلوب، أو البلاغة، تهتم القراءة النفسانية بالعلاقات التي تنسج في الآثار الأدبية شبكة موضوعية متماسكة من الدلالات، نصل من ورائها إلى اكتشاف الصور الأسطورية عند الكاتب2، من خلال التساؤل المنطقي: من أين تستمد الرواية قوتها؟ ذلك أن المحكيات الروائية التي تعتمد الحكاية القائمة على اللغز -كمحكي عائلي- تدفعنا للإجابة عن التساؤل من خلال المباحث التالية:
 

المبحث الأول: الشيزو_رغبة وجدل (العبد/ السيد)

انطلاقًا من مقولة "جاك لاكان" أن الرغبة في الأصل علاقة مع آخر3، فالرغبة من المفاهيم التي نستطيع من خلالها ولوج عالم الرواية، وإضاءة المنطق الأساسي في المحكي باعتباره -يلعب دوره الكاشف في عالم الرغبات-؛ ولأنه من "الماركيز دو ساد" إلى "سيجموند فرويد"، لم يستطع أحد إلى الآن أن يحيط بكل متاهات النفس البشرية ورغباتها، فالرغبة لا يمكن أن تكون صافية؛ إذ إن هناك اعتبارات دائمة لتاريخ الكتابة، وزمن الحكاية، ومكانها، تبدأ أحداث الرواية الحالية من (كوجيتو النقص) الذي مثله مفهوم الرغبة في التقليد الفلسفي الكلاسيكي، نقص مبدئي في تكوين الحكاية فــ"وحيدة" بطلة الرواية، القائمة بدور الراوية العليمة، التي تحكي لنا قصة اختفاء عمها "ألهم" اعتمادًا على آلية "الفلاش باك"، تخبرنا أن "سيرة عمها ألهم من المحرمات"، وأن عائلتها تُعرف في "نجع الزرايب" بأنها "عائلة مفترية غامضة".

فأمها "مريم" اختفت أيضًا كأن الأرض انشقت وبلعتها؛ ولأن خطاب "فرويد" قائم على لعبة معرفية تعرف فيها (الرغبة) على أنها ضد العقلانية الصارمة، كانت أحداث الرواية التي تقع بين (الرغبة) في البحث، و(اللذة) في الإيجاد. فـــ"ألهم" المتهم بقتل ثلاثة من أبناء "منيرة المقدسة" هربته أمه "وحيدة" هاتفة: "احذر من الحيات من النساء يا وليدي"، ليظل أربع سنوات هائمًا في الصحراء، ربما كان اعتقاده أنه موجود في مكان ما، هو ما يجعل ذاته تقوم بهذا السعي، لتنتقل بنا الكاتبة من "نجع الزرايب" كمكان أول، إلى "أرض النبع المقدس" كمكان جديد، أهله لم يخرجوا منه أبدًا، تتضح هنا (الرغبة) باعتبارها نهم الحياة، فإذا كان "فرويد" يرجع الإنسانية إلى غريزة الجنس، والرغبة، وغريزة الموت، تلك الغريزة التي يقصد بها أن في كل إنسان دوافع تضاد، تهدف إلى الفناء والموت، من جرائها يسعى إلى الهروب بمحاولة إعادة الحياة"4.

يفسر ذلك (رغبة) "ألهم" في الوصول إلى (المكانة الاجتماعية) أولًا، و(محاكاة الآخر) ثانيًا، و(الرغبة المحاكاتية) وفق "رونيه جيرار" هي مصدر (الصراع) في "أرض النبع المقدس"، فإذا كان الإنسان يُعرف بما هو راغب، فالمعرفة ليست هي التي تحدد الرغبة، بل استعمال الرغبة هو الذي يحددها، لذا برز (الصراع) الذي نراه في جدلية (العبد/ السيد)، فـــها هو "ألهم" العبد يفرض قيمه على (الآخر/ السيد) شيخ قبيلة سعدون "سلطان"، لنقف هنا بين وعي السيد المؤكد لمكانته الاجتماعية، ووعي العبد الذي حول رضوخه إلى انتصار ليتبدل شكل اللعبة، فالمواهب، والكفايات في التطبيب أنقذته من الموت، كأن المحكي الروائي منح الحق لــ"ألهم" الضحية في أن يصبح سيدًا، لا غرابة في ذلك، فالرغبات التي ترتبط أساسًا بنهم الحياة وفقًا لـ(ــمبدأ اللذة)، نراها وهي تتحول إلى الرغبة في الحصول على المكانة الاجتماعية وفقًا لـــ(مبدأ الواقع)، لذا تحمل في طياتها دواعي الهدم، هنا اعتمد البطل على آلية (التذكر) التي تفسر رغبته في أن يتملص جسده من التصرفات الآلية كوسيلة أو كمنطقة انتقالية نحو الغاية.

ولأن (الرغبات) لا بُدّ أن تكون محملة بالواقعية الجنسية، يقع "ألهم" في غرام "جميلة" ابنة "سلطان" شيخ القبيلة، فهي "الوشامة حافظة خارطة أجساد أهل النبع وأقدارهم"، لينتقل بعد السجن لمدة خمسة أقمار، إلى (الرغبات المحرمة) كبنية أساسية، تزامنت مع غموض المكان الثالث "الحديقة المحرمة"، ذلك الذي نكتشف من خلاله عودة (الرغبات الصارمة) كحافز أساسي في حياة "ألهم"، هنا تتضح فاعلية الرغبة، التي بإمكانها وحدها أن تجعله من جديد مفعمًا بإرادة القوة، كأن موضوع (الرغبة في محاكاة الآخر) بعيد عنه/ ويعيش بداخله، فإذا به يقتل "سلطان" شيخ القبيلة، ثم يقتل زوجته "جميلة" خنقًا بعد أن علم بمعرفتها باب الخروج من أرض النبع، اتباعًا لآلية (التمرد) ضد كل ما يعترض الرغبة من معوقات، ورسم حدود مجتمعه كالقوانين وبناء السجن وممارسة طقوس الغُسل والدفن؛ ولأن الإحساس بالنقص هو قوام (الرغبة)، الذي لا يختفي إلا عند الانتقال إلى (اللذة)، تقع في غرامه العرافة "لبيبة" التي يقول عنها "أقوى من في أرض النبع المقدس"، فمن طاقة الرغبة الممزوجة بالمعاناة في الحياة إلى الرغبات الحرة الطليقة، الممثلة في العطش إلى الملذات الجسدية فكل شهوة فيها تطلع إلى هدف ما، ومن الرغبة في مجرد النجاة من الموت إلى محاكاة الآخر، وصولًا إلى الرغبة في إبادة كل من يخالف قوانينه، فيقول: "التغيير لا يتحرك إلا بالدماء".
 

المبحث الثاني: اللاوعي الجمعي والنموذج الصراعي

إذا كان التحليل النفسي للظاهرة الأدبية يعتبر "المعنى بنية رمزية حافلة بأبعاد لها دقة خاصة رغم تعميتها وتحريفها"5، فالرواية محل القراءة وضعتنا أمام اختبار (الأنا) في قدرتها على التعايش بعيدًا عن الغيرة والحسد والكراهية6، ذلك الاختبار الذي غاب عنه منطق الوجود الإنساني أصلًا، فأول (خيوط الصراع الدرامي) اتضحت في جريمة القتل التي بدأت بها أحداث الرواية، ثم بدأت (المحركات الدرامية للصراع) تتضح في (العقد النفسية) باعتبارها اتجاهاً لا شعورياً، يؤثر في التفكير والسلوك، فإذا كان "فرويد" مؤسس التحليل النفسي قد استوحى (العقد النفسية) من النصوص الأدبية، والأسطورية، والدينية، هذا أيضًا ما فعلته الكاتبة، في روايتها الحافلة بالعقد النفسية، والتي سنذكر منها (عقدة قابيل)، والتي نطلق عليها عقدة الإخوة، تلك التي تتلخص في كراهية الأخ والرغبة في التخلص منه؛ ولأن الغيرة تخفي عنفًا ما، فإن الأخ "عبد القادر" هو المنافس (القرين النرجسي)، والذي يقول عنه "ألهم" بطل الرواية بعد أن نجا من التماسيح: "أكانت إلى هذا الحد شبعانة، أم أنها كانت أحن علي من أخي الذي ألقاني في هذا الجب"؟!

في هذا القول تناص أيضًا مع قصة نبي الله "يوسف"، لا غرابة إذن في أن تستبدل الكاتبة "قميص يوسف" بــ"كتاب ألهم"، (عقدة الإخوة) في الرواية تُعد تنظيمًا جوهريًا للرغبات العاطفية والنرجسية في علاقتها بالآخر، وتسمح لنا بأن نتجاوز القصور الفرويدي، إذ إن هناك علاقةً أهم في تشكيل عقدة الإخوة -كعقدة أساسية- في الرواية، قائمة على (وظيفة الصراع الإغرائية)7، وما يحويه من علاقات عاطفية شبقية تعبر عنه، فــ"ألهم" يعشق "مريم"، ويقيم معها علاقة ينتج عنها "وحيدة"، التي تتربى في بيت عمها "عبد القادر"، وتُنسب إليه بعد زواجه من أمها حبيبة أخيه، كأن أطراف الصراع وعناصره النصية تبرهن للمتلقي على (التنافس) الأزلي بين الخير والشر.

تنتقل بنا الكاتبة أيضًا للتناص مع مسرحية "عطيل" التراجيدية، والكيفية التي تحول بها من إنسان بسيط إلى قاتل، فـــ"ألهم" يغرم بــ"جميلة" البيضاء ابنة "سلطان" حاكم القبيلة، يغرم "عطيل" بــ"ديدمونة" البيضاء، إلا أن الشك في إخلاصها؛ أي"جميلة" عندما علم بمعرفتها باب الخروج، أدى به إلى قتلها خنقًا.

في أحداث الرواية تتضح أيضًا (عقدة التسلط)، والرغبة في أن تمتلك (الأنا) ما يمتلكه (الآخر) بحثًا عن المكانة الاجتماعية؛ ولأن (الصراع) في الأعمال الأدبية من الموضوعات الأساسية في النظرية السيكولوجية عمومًا، فآلياته النفسية التي تنمو مع بطل الرواية منذ الطفولة، أو التي يلجأ إليها لحل أزماته، ولو وقتيًا أثناء الأحداث تجلت في:

أولًا: (التسامي) بطاقته الداخلية عن السلوك العدواني المباشر، وتحويلها إلى سلوك اجتماعي مقبول، فعلى المستوى الذاتي أشبع رغبته في النيل من"سلطان"، وعلى المستوى الاجتماعي لم يخيب رجاء القبيلة فيه، وقدم لهم تنظيمات قانوينة تلبي احتياجاتهم، وفي ذلك يمكننا الحديث عن (الوظيفة التطهرية) للنفس من أدران (الرغبة).

ثانيًا: (القلب) كآلية نفسية لا شعورية لجأ إليها "ألهم"، ليتجاوز حالة النفي في الصحراء التي فرضت عليه.

ثالثًا: (طلب الإسناد الانفعالي) الذي بدا في محاولة "ألهم" الحصول على مساعدة الآخرين اجتماعيًا أو نفسيًا، تبعًا لتقدير أوضاعهم الاجتماعية"8.
 

خاتمة

انطلقت دراستي لرواية: الحديقة المحرمة، بعد قراءات عديدة، لتشكل قناعة لديّ، تتمثل في أن أحداث الرواية ذاتها (صراعية)، بداية من أهمية الحدث السيكولوجي العنيف الذي أنتجها (جريمة القتل)، عبورًا بأجواء (الصراع) وقدرتها على توجيه نظر المتلقي إلى الداخل والخارج، حيث التحول من عالم الواقع إلى الحلم، ثم التحول من الحب الثنائي إلى حب الجماعة، ومنه إلى حب الذات كموضوع للرغبة.

ولأن موضوع الحب في الرواية هو (حب الذات)، جاءت المرأة كحضور شهواني في الفضاء السردي باستثناء (الأم/ الابنة "وحيدة")، والحبيبة "مريم" التي تبقى محجوبة حتى نهاية الأحداث، والحقيقة أن علاقة "ألهم" بأمه "وحيدة" جوهرية، فهي التي دفعت به إلى العالم، وهي التي أنقذته رغبتها في الامتلاك (بقطع عقلة من أصبعه السبابة).

الرواية الحالية تحكي لنا عن الانتقال من (النفي) إلى (الإثبات)، من أجل هذا الانتقال كان لا بُدّ من تفكيك علاقة "ألهم" الحفيد بــ"ألهم" الجد، تلك العلاقة المركزية، لينتقل البطل من ذوبان ذاته في ذات الجد، إلى تحقيق ذاته الأساسية، اتسمت الرواية بالأحداث ذات الكثافة العاطفية، تلك التي لونتها الكاتبة، من واقعية الحدث إلى (هلوسة المخيلة)، فجاءت كلوحة رائعة لحركية الحياة فيها:
أولا: من خلال تطابق النمط الحلمي مع الواقعي لاضفاء مزيد من الإثارة.
ثانياً: من خلال الارتكاز على (الشيء ورمزه)، حيث جعلت الكاتبة (الرمز) يحل محل (الموضوع)، فكتاب "ألهم" هو الذي يثلج صدر "وحيدة".
ثالثاً: رصد العنف الذي يغير ترتيب السلوك الإنساني؛ فإذا بنا أمام سلوكيات اجتماعية منطقية مقبولة ظاهريًا/ مرفوضة ضمنيًا، فالبطل الهائم على وجهه في الصحاري يمكننا اعتباره مجموع علاقات قائمة على الرغبات، فالسعي إلى "عبور حقول الألغام بتدريب الجرذان بالسير أمامه" رغبة في النجاة، والسعي إلى المكانة الاجتماعية بقتل "سلطان" شيخ القبيلة، وإعادة إنتاجها من خلال بناء السجن، وعقاب من يخالفه رغبة في الاستمرارية، الزواج بــ"جميلة" مع الطمع في الاقتراب من "لبيبة" رغبة في الملذات، اندفاع "ألهم" هنا اجتمع فيه الإنساني بالإلهي، فالجسد لا ينفصل عن الروح عبر مساره الأيروسي الطويل، كما أن البحث عن قيمة الموت التي استبدلها شيخ القبيلة بفكرة القربان رغبة في الهدم، فكأننا أمام الإنسان الحقيقي الذي لا يطلب من الحياة سوى المخاطرة لتأكيد مكانته الاجتماعية، واللعب لتحقيق رغباته.

قراءة معمقة لأحداث الرواية؛ وضعتنا أمام علاقة الكاتبة بالراوية العليمة، من حيث الإفصاح عن تقاليد المجتمع وعاداته الموروثة التي تقلل من شأن المرأة، وتؤكد على أن حواء مصدر الغواية، وثانيًا التركيز على فكرة الرغبات الإنسانية بشكل أعم، تلك الرغبات التي تم دفعها إلى لغة الحكي باعتبارها علة كونية عميقة، أولًا: من خلال منح الحق للجسد بشكل كامل، بذلك يؤسس البطل إلى حالة من التسامح الكوني، وثانيًا: من خلال الإباحية التي تسخر من الممنوعات والأعراف القيمية في ذهنه، وثالثًا: من خلال السلطة والحكم والقوة، انطلاقًا إلى التمييزات القاتلة وتأسيس السياسات والإيديولوجيات، فرغبات "ألهم" جميعها تعلن عن ميلاد مجتمع إنساني، تحولت فيه (اليوتيوبيا) إلى (أيديلوجيا).


الهوامش:
1. حبيب موسى (د.ت)، "فلسفة القراءة وإشكالية المعنى"، دار الغرب للنشر، وهران، الجزائر، ص: 158.
2. حسين الواد (1984)، "مناهج الدراسات الأدبية"، منشورات الجامعة المغربية، ص: 13.
3_ Jacques Lacan, "Subversion du Sujet et dialectique du desir dans l'inconscient Freudien" in Ecrits ii, Coll."points" ed. Du Seuil
4. محمد غنيمي هلال (د.ت)، "النقد الأدبي الحديث"، دار نهضة مصر، القاهرة، ص: 351.
5. مصطفى ناصف (1983)، "دراسة الأدب العربي"، ط: 3، دار الأندلس، لبنان ص: 131.
6_ Girard, Je Vois Satan tomber comme L'éclair, ct Rcnc Kacs Le Complexe Fraternal, Psychismcs(Paris; Dunod, 2008)
7. حسن المودن (2014)، "قراءة نفسانية في قصة النبي يوسف: عقدة الإخوة أولى من عقدة أوديب"، مجلة تبين للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية، مج3، ع11.
8. ميشيل آرجايل (1982)، "علم النفس ومشكلات الحياة الاجتماعية"، ترجمة: عبد الستار إبراهيم، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص: 81.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها