"Passing" ما بين الأسود والأبيض!

هايدي ياسر سليم عبده


سلّطَ الفيلم الأمريكي Passing الضوءَ على ظاهرةٍ قديمةٍ وحساسة، حدثت في عشرينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، تُعرف بالعبور العرقي؛ إذ يتمكن أصحاب البشرة السوداء الفاتحة من إخفاء أصولهم العرقية، والاندماج في مجتمع أصحاب البشرة البيضاء بشكل طبيعي، دون أن تتم معاملتهم على أنهم أشخاص مختلفون، مما يضمن لهم حياةً اجتماعية أوفرَ حظاً عن باقي أبناء المجتمع الأسود، الذي كان يعيش معظمه في الأحياء الفقيرة في ذلك الوقت، ويعاني من العنصرية الصريحة.
 

البحث عن الحقيقة

أخرجت وكتبت وشاركت في عملية إنتاج الفيلم الممثلة البريطانية الأمريكية، صاحبة البشرة البيضاء ربيكا هول، وهي تجربة الإخراج الأولى لها، وجاء إصرارها على صنع هذا الفيلم، بعدما اكتشفت قبل سنوات أن جدها من الأم ينتمي في الأصل لأصحاب البشرة السوداء الفاتحة، وقام في شبابه بالعبور العرقي، وظل يحتفظ بهذا السر لنفسه حتى وفاته، لذا كان صُنع هذا الفيلم بمثابة حلم للمخرجة منذ خمسة عشر عاماً، بعد اكتشاف حقيقة جدها، وقراءة الرواية القصيرة (عبور) المقتبس عنها الفيلم، والتي كتبتها نيلا لارسن عام ١٩٢٩.

لذلك؛ كانت عملية إعداد الفيلم بمثابة رحلة لم تسعَ المخرجة من خلالها لإطلاق الأحكام على ما فعله جدها، بل لتتعرف على تاريخ عائلتها وأصلها العرقي، وإيجاد الأجوبة التي لم يصرح بها جدها، الذي ترك الدنيا مخلفاً وراءه أربع بنات وأحفاد وحفيدات من أصحاب البشرة البيضاء، لذا كان الفيلم بمثابة كسر لجدار الصمت عن كل ما يتعلق بالعبور العرقي، وأسبابه والتعايش معه.

لِقاءٌ مربكٌ

تبدأ وتستمر أحداث الفيلم باللونين الأبيض والأسود فقط، حيث نشاهد آيرين ريدفيلد صاحبة البشرة الفاتحة التي تلعب دورها تيسا تومبسون، وهي تحاول بحذر وحرص شراء كتاب التلوين، الذي طلبه منها ولدها الصغير كهدية لعيد ميلاده، لكنها تفشل في العثور عليه في محلات الألعاب التي يزورها ذوو البشرة البيضاء فقط، وخلال نهار شديد الحرارة تذهب آيرين بعد توصية من سائق الأجرة إلى المطعم الموجود على سطح فندق الدرايتون، والذي يتردد عليه بشكل حصري أصحاب البشرة البيضاء من الطبقات الاجتماعية الراقية. داخل المطعم تشعر آيرين بالحرج والتوتر بسبب نظرات السيدة البيضاء الجالسة على الطاولة الأمامية؛ إذ أخذت تحدق فيها لوقت طويل، ورغم تعمد آيرين طوال هذا النهار إخفاء وجهها بقبعة بيضاء شفافة متوسطة الحجم، ووضع بعض البودرة الفاتحة من وقت لآخر، إلا أن توترها بدأ في التزايد.

تبادر السيدة بالذهاب إلى طاولة آيرين، وبعد محادثة قصيرة بينهما تعرف آيرين أن هذه السيدة ما هي إلا كلير كندري، صديقتها في المرحلة الثانوية التي لم تقابلها منذ اثني عشر عاماً.

يتبين للمشاهد بعد دقائق من معرفة كلير، التي تُعرف عن نفسها للجميع على أنها بيضاء، مدى سعيها نحو إعادة الصداقة القديمة بينها وبين آيرين، بينما تحاول الأخيرة التملص من دعوة كلير إلى غرفتها في الفندق، لكنها لا تفلح وتذهب معها لتحكي لها كلير التي لعبت دورها روث نيجا، عن حياتها مع العبور العرقي، وكيف تزوجت من جون الرجل الأبيض الذي لا يعرف حقيقة انتماء زوجته للعرق الأسود، وتشكر الله أن أمرها لم يفضح بعد إنجابها لابنتها الوحيدة صاحبة البشرة الفاتحة.

تتعقد الأمور بالنسبة لشخصية آيرين عند دخول زوج كلير إلى الغرفة، وقد اعتقد طوال فترة جلوسه أن آيرين بيضاء مثله، ليتضح بعد بضع كلمات من حديثه مدى احتقاره لأصحاب البشرة السوداء، خاصة بعد الدعابة التي قالها في حق زوجته ونعتها في بعض الأحيان "بالزنجية"؛ لأن بشرتها تصير داكنة مع مرور الزمن، تخفي آيرين الإحساس بالإهانة المختلط بالسخرية من غفلة جون عن حقيقة زوجته بضحكة صاخبة شرسة، بينما تتعمد كلير التظاهر أن ما يحدث أمر طبيعي؛ وكأنها نسيت انتماءها الحقيقي.

الحياة المثالية

تعود آيرين لمنزلها الكبير في هارلم محملة بتساؤلات، وبقليل من الغبطة مع صراعات عديدة تدور في ذهنها، فهي صاحبة البشرة الفاتحة بين زوجها برايان ريدفيلد الذي يعمل طبيباً، وولديها براين جونيور وثيودور، وكان بإمكانها العبور مثلما فعلت كلير، التي ظنت في بداية اللقاء بينهما أن آيرين عبرت مثلها.

تتوالى بعد ذلك زيارات كلير إلى منزل آيرين لتصبح صديقة مقربة من العائلة، رغم اعتراض برايان زوج آيرين في البداية، وسخريته من الخطابات التي كانت ترسلها كلير إليها، إلا أنه سرعان ما يتقبل وجودها. وتقع كلير جراء هذه الصحبة في غرام الحفلات التي تشرف عليها آيرين والسهرات المختلطة بين السود والبيض، وتجد نفسها على طبيعتها بعيداً عن حضور زوجها، ودون الحاجة إلى التظاهر بعد الآن، لتمرح وترقص بصحبة رجال من البشرة السوداء.

بعد أيام تجد كلير في حياة آيرين، المثالية التي كانت تحلم بها؛ زوج متعلم يعمل طبيباً، والعيش داخل منزلٍ راقٍ مكون من طابقين، تهتم به خادمة شابة نشيطة، حياة هادئة واضحة مستقرة لا صراع فيها أو أكاذيب، تقع في قلب الحي الذي كانت تنظر له كلير سابقاً باحتقار، حي هارلم، وهو أحد أشهر أحياء مدينة نيويورك حيث تتخلل جدرانه وطرقاته الثقافة الإفريقية الأمريكية، وأندية الجاز.

أما آيرين فتحاول التصرف أحياناً كامرأة بيضاء، وتفضل أن يسلك أبناؤها طريقاً مختلفاً، لا يشعرون فيه بالنقص بسبب لون بشرتهم، وتتجلى هذه المحاولة عندما منعت زوجها من الحديث أمام الولدين عن نظرة البيض للسود، باعتبارهم أقل شأناً ومجرمين، رغم رأي الزوج بضرورة معرفة الطفلين بحقيقة هذه النظرة الدونية تجاه العرق الأسود.

الأمر الذي جعل آيرين تتساءل! كيف كانت ستصبح حياتها لو اختارت العبور العرقي، لكن الإجابة الصادمة كانت لدى كلير، عندما اعترفت لآيرين في النصف الثاني من الفيلم بشعورها بعدم الأمان، والندم بسبب الحياة التي اختارتها.

بعدما تتأكد آيرين من إحساس صديقتها، تبدأ في الشعور بالغيرة والخوف من ذهاب حياتها وزوجها إلى كلير، لتتعمد رد اعتبارها العرقي عندما تقابل عن طريق الصدفة في الشارع جون زوج كلير، وتعرف بنفسها بشكل غير مباشر على أنها امرأة سوداء.

تكامل العناصر السينمائية

في عالم مكون فقط من اللونين الأبيض والأسود، يقع اللون الرمادي المراوغ الذي يقدر على الانتماء إلى كلا اللونين بكل أريحية وهذا ما فعلته كلير، التظاهر بأنها امرأة بيضاء البشرة لتبعد عن نفسها، وعن أبنائها في المستقبل نظرات العنصرية والأحكام المسبقة، لكن ما ظنته كلير سبباً في نجاتها كان هو أحد أسباب هلاكها في نهاية الفيلم، بعد اكتشاف زوجها حقيقة عِرقها.

نسجت المخرجة بعناية فائقة، وولاء لا يتزعزع للرواية المقتبس عنها الفيلم، من خلال زوايا التصوير والموسيقى التصويرية التي سيطر الجاز عليها، والأزياء الفاخرة المنتقاة بعناية، وتحركات الممثلين المحسوبة بدقة، معايشة لأجواء العشرينيات داخل المجتمع الأسود في نهاره الشاق، وليله المليء بالصخب والحفلات، والأهم هو درجات اللونين الأسود والأبيض والتداخل بينهما، وغلبة أحدهما على الآخر في مختلف اللوحات السينمائية التي قدمها الفيلم، واختتمها بالمشهد الذي يتلاشى فيه الجميع تحت سماء تنهمر منها الثلوج البيضاء الكثيفة مع عزف على البيانو، وهي الآلة الموسيقية المكونة مفاتيحها من اللونين الأبيض والأسود.

لينتهي المشاهد من الفيلم، وقد لمعت في ذهنه عدة تساؤلات عما إذا كان يجب محاسبة العابرين عرقياً؟ أم محاسبة المجتمع الذي اختار التمييز العنصري كبديل للتعايش؟ وهل فكر المرء في طبيعة أصوله العرقية، وكيف تكيف معها على مر الزمن كما فعلت المخرجة!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها