الفن والحياة.. كيف يحلم الفنانون بتغيير العالم؟

د. عبد الرحمان إكيدر


شكلت العلاقة بين الفن والحياة موضوع نقاش بين الفلاسفة والفنانين لما يقارب قرنين من الزمن. وعلاوة على ذلك؛ فإن المنظرين ليسوا وحدهم الذين يطرحون التساؤلات حول هذه العلاقة. يشكك الفنانون أنفسهم في علاقتهم بالوجود، والحياة اليومية، والحياة الاجتماعية والسياسية. وبالتالي فإن السؤال يكمن في العديد من الممارسات الفنية، ويثير العديد من القضايا التي لا تضيء دائماً هدفها، من قبيل: "يجب على الفن أن ينزل إلى الشارع"، و"الفن هو ما يجعل الحياة أكثر إثارة للاهتمام". لقد سبق أن أشار إلى ذلك روبرت فيليو Robert Filliou، في سنة 1970: "لقد أصبح من الضروري الآن دمج درس الفن كحرية روح في نسيج حياة الجميع، بحيث يصبح فناً للعيش".

 

إن إرساء الجسور بين الفن والحياة هي من شأن الجميع، وليست فقط خاصة ببعض المتخصصين ذوي المكانة المعترف بها. لماذا؟ لأن هذه الروابط المتصورة على أنها معارضة، ترتبط بلا شك بتقسيم العمل واقتصاد السوق، ولكن أيضًا مع مشاركة عدد من المواطنات والمواطنين في تنظيم وجودهم. لكن هذا لا يشير بعدُ إلى كيفية الإجابة عن السؤال المطروح -كيف و(لأي) أغراض نروم إعادة تشكيل العلاقة بين الفن والحياة-؟ إن أهم شرط لذلك يكمن في أنه يجب أن يتم المزج بين الفن والحياة الآن، فهل يتعلق الأمر ببساطة أن يبتعد الفن من المساحات المخصصة عادة للعروض (المتاحف والمعارض)؟ وهل يجب أن يكون ذلك مستمداً من موارد الوجود ويضفي قوة وحيوية جديدة؟ هذه من بين التساؤلات التي يحاول موريس فريشوري Maurice Fréchuret الإجابة عنها في كتابه "الفن والحياة - كيف يحلم الفنانون بتغيير العالم"؟ يتكون هذا العمل من خمسة عشر فصلاً تعرض المواقف وتحللها، خصوصاً ما ارتبط بالعلاقة القائمة بين الفن والحياة، والغرض منها (السعادة، النظام الجديد، التعديل الذاتي، وما إلى ذلك). متوقفاً عند عدد من الفنانين الفرديين، أو المجموعات الفنية الرافضة للفن السائد (الدادائية Dada، السريالية Surréalisme، التفوقية Suprématisme، فلوكسوس Fluxus...)، وذلك في عدد من بقاع العالم : أوروبا، والبرازيل، واليابان.

ومع ذلك؛ فإن كل هذه القضايا ليست لها أهمية إلا إذا عدنا أولاً إلى شروط هذا النقاش، حتى لو افترضنا أن المصطلحات وضعت في وقت ما. إن من المسلم به أن المؤاخذات الموجهة معروفة جيدًا: سيتم الفصل بين الفن والحياة، سواء من خلال التصور الذي يقدمه الفنانون النخبويون، أو عن طريق الوجهة التي ستُقاد إليها تلك الأعمال: المكاتب الخاصة لجامعي القطع الفنية، أو إلى مؤسسات الدولة التي تجزئ الثقافة الشرعية، أو التجارية أو الأكاديمية.

لقد وجه الفنانون عتاباً ونقداً لاذعاً لتلك المؤسسات والنخب الداعية للفصل بين الفن والحياة، بدل المصالحة والمزاوجة، ليشرع هؤلاء الفنانون في محاولة جدية لتحقيق هذا التقارب، وذلك من خلال تحويل المتاحف إلى مراكز للحياة، والتي من المفروض أن تولي الاهتمام بالظروف المعيشة "للشعب"، والسعي إلى إحداث ثورة في الفن والحياة على حد سواء. إن العديد من الحركات الفنية المعروفة جيدًا تشترك في هذه المعركة. وبطريقة ما، فإن الفن الجديد، بأشكاله الثعبانية وخطوطه المقوسة -منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- يعتبر نموذجاً؛ لأنه يدفع للبحث عن التمزق الضروري مع النماذج الفنية السالفة. إن لدى فناني هذه الحركة موارد جديدة: الصور المطبوعة، وتقنيات التصوير الفوتوغرافي، وتنويع فضاءات العرض... وتنبع الفكرة من إيجاد الفن في كل شيء. وستسير على النهج نفسه حركات مستوحاة بشكل مباشر من رفض الفصل بين الفن والحياة، خصوصاً: الفن الاجتماعي، وباوهاوس Bauhaus، والمستقبلية Futurism... والتي تنظم عمل بعض الفنانين المتشددين الراغبين في ترسيخ الأسئلة الفنية في الحركة الاجتماعية... لكن يبقى السؤال ما إذا كانت هذه المواضيع تسهم حقًا في تغيير الوضع الاجتماعي للفنون (ولماذا؟)، أو إذا كانت تشكل مجرد قوة يمكن من خلالها (أو كانت) من خلالها تظهر أعمال جديدة.


 

صفحة جديدة من الفن

يهدف عمل موريس فريشوري إلى تسهيل دراسة المصادر الفنية لهذا الموضوع، سواء أكان ذلك على مستوى الانفصال أم المصالحة بين الفن والحياة، وبيان ذلك في أعمال الفنانين، وذلك ضمن السياق التاريخي المخصص (القرنان 20-21). متسائلاً لماذا و(كيف) نريد أن نتجاوز الممارسة الفنية المنفصلة عن الحياة بتحويلها إلى شكل من أشكال الحياة؟ ومع ذلك، يجب أن نميز: هل هذه الأشكال من حياة الفنان تؤخذ كوديعة للفن؟ يقول دوشامب Duchamp: "فني سيكون للعيش"، ويقول فرانسيس بيكابيا Francis Picabia "أنا شاعر حياتي"، ويكتب ماليفيتش Malevitch "إنني أبتكر وسيلة للعيش". هل هذه الأشكال من الحياة تقدم للجمهور؟ تجدر الإشارة إلى أن هذه التوقعات ستفضي في نهاية المطاف إلى أساليب بسيطة، وذلك في وقت وجيز لتقييم التمييز الاجتماعي.

يقدم لنا الكتاب أيضاً أمثلة لهذه المزاوجة؛ ففي سنة 1908، أطلقت المستقبلية Futurism ذات التوجه نحو المستقبل حوافزها ضد المجتمع، راغبة في التخلص من العديد من الشوائب، وبدء ثقافة جديدة والانفصال عن الماضي، فقد حاول المستقبليون التعبير عن الحركة الكونية ورسم الإنسان والمرئيات في حالة الحركة، وذلك عن طريق تتابع الخطوط والمساحات والألوان، وكذلك شملت محاولاتهم التعبير عن حركات السيارات وضوضاء المدن وأجوائها المزدحمة... داعية إلى التفكير في تعزيز القيم الجديدة: الخطر، والطاقة، والإجهاد، والشجاعة، والجرأة. إنه من الضروري القيام باجتياح نظيف للماضي وتقييم المستقبل. لا يريد المستقبليون إثبات حساسية فنية جديدة فحسب، بل أيضًا الأمل في تغيير عميق للحياة من خلال التقدم. يجب تجاوز الفن لصالح حياة جديدة، وهي ليست بالضبط تحول الحياة بالفن. ومع ذلك، نعلم أن المستقبلية ستكون قادرة أخيرًا على شغل مقعد في التاريخ الاجتماعي والسياسي.

ولكن ماذا عن الدادائية؟ (وفقًا للكلمة الرومانية المزدوجة، "دا، دا"، "نعم، نعم")، تدعي هذه الحركة أنها تتجاوز الفن كممارسة منفصلة عن الحياة. كان هذا هو الهدف المحدد لهذه الحركة من قبل الفنانين الذين يمارسون الضحك والسخرية. نحن نعرف نقطة البداية: زيوريخ وكاباريه فولتير، حيث كان الاحتفال بأحدث الفنون في صرخة صاخبة ضد الحرب، ثم ضد المعتقدات، والأخلاق البرجوازية، وهلم جرا. وكان يجب الجمع كذلك بين النقد والحرية. بالنسبة للدادائيين، يجب أن تسود الحياة على أي تعبير عن الحياة. وبالتالي يعارضون الفن (المحصور) الذي يحتفظ بهالته المرموقة. هذا هو الذي يجب على المرء أن يحاربه بأسلحة النقد الأكثر حسمًا ... الفن هو نتيجة تجربة حية وفرحة في العيش، فالفن جزء من الحياة. ومن هنا جاءت فكرة تحويل الفن إلى مجال الحياة اليومية. يحلم هؤلاء الفنانون بإنتاج فن لا يتعارض مع الحياة، لكن يمكن أن يكشف عن طاقته الجميلة. إنه الفن الذي يتم تنشيطه من خلال الحياة وليس العكس.
 

البحث عن الحياة.. لأن الحياة الحقيقية مفقودة

إننا نعيش في حياة رمادية تحفها من كل الجوانب العوائق ومظاهر العزلة والاغتراب. لقد أدت الحياة اليومية تدريجياً إلى إعادة تسريع نمط حياة البشر، وتمكنت القيمة السوقية من السيطرة على جميع القيم الأخرى. هذه الملاحظة هي التي أدت إلى تبني فكرة مفادها أن الفن يجب أن يحتكر الحياة ليتمكن بعد ذلك من تغييرها. يسوق الكاتب في هذا الصدد مثال الاتجاه السريالي. فبالنسبة للسرياليين، فمن الضروري ربط الممارسات الفنية بتدفق الوجود. ومع ذلك، يجب أن يبقى الفن في علاقة شك بهذا الوجود، فالحياة ليست سوى منصة يمكن من خلالها استخلاص العناصر، وهكذا سعت السوريالية، كما ذهب إلى ذلك غاي ديبورد Guy Debord إلى صنع الفن دون قمعه.
 

الجمع بين الفن والحياة

هناك أيضاً أولئك الذين لديهم مشروع لمزج الفن بالحياة، وذلك من خلال استغلال الفضاء العام والمساحة السكنية واستثمارها. إنهم يريدون التواصل مع الإنسان الجديد، هكذا يعبر بيت موندريان Piet Mondrian عن سعادته لظهور عالم جديد. ولكن لتصوير عالم جديد لا يعني ذلك إدراكه تماماً. إن الفن بمثابة بلسم طالما أن جمال الحياة غير كافٍ. وتشكل الباوهاوس طفرة نوعية في إرساء هذه العلاقة الوثيقة بين الفن والحياة؛ إذ لم يعد الفن نتاج نشاط منفصل عن الحياة، ولكنه ثمرة ممارسة مولودة في الحياة. إن الفن بيئة يعيش فيها المرء، ولذلك من المستحسن إعطاء شكل لأنشطة الحياة عن طريق استخدام الأعمال الفنية. وإذا كان المجتمع الذي يحلم به البوهاوس لن يتحقق بالشكل المتوخى، فمن الضروري أن ندرك أنه على المستوى الرسمي تمكن من إغواء الحرفيين والمعماريين.

يخبرنا موريس فريشوري في كتابه عن ألف طريقة وطريقة لإغواء كل من الفن والحياة، وإعادة التفكير في هذا الزواج، وكذا دور الفنانين في المجتمع. وأيا كان ما يعتقده المرء، فمن الواضح أن الفن له علاقة بالحياة (الوجود الفردي والوجود الاجتماعي والسياسي). وعلى أية حال، فإن المؤلف يؤكد غير ما مرة أن القضية لم تغلق بعد، وأن النقاش ما زال قائماً، وسوف يُطرح الموضوع مراراً، وسيَعرض المزيد من الأسئلة والعديد من المواقف ووجهات النظر.


• جاءت تسمية باوهاوس من الاسم الألماني "باو"بالألمانية : Bau والذي يعني بناء، و"هاوس "بالألمانية: haus  والتي تعني بيت.
• تعني "الفلوكسوس" التغيير أو التدفّق to flow، وهي مأخوذة من مصادر، أو مفهوم لاتيني "بانتا ري" Panta rei،  تختصر فلسفة "هيرقليطس" كما ظهرت في مقتطفات من شعره (النهر). الفلوكسوس كالدادائيّة تطمح إلى التحرّر من مختلف أنواع الكبت الجسديّ والعقلي والسياسيّ، تعبّر عن الفوضى، وترفض الحواجز المصطنعة بين مختلف الفنون، وبين الفن والحياة.
مصدر: موقع ‣ www.nonfiction.fr

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها