علم الأصوات.. وعلم الأصوات الوظيفي؟! La phonétique et la phonologie

جون ديبوا وآخرون

ترجمة: عبد الله بن ناجي

يُعتبر المكون الصوتي أحد المستويات اللسانية الأساسية، وهو الوجه الجلي للغة، وخلف هذا الوجه الجلي تكمن البنية الذهنية لهذا الصوت، حيث يمكن التمييز بين اعتباره جزءاً من نظام اللسان العام للجماعة اللغوية، وبين بروزه في الكلام على شكل تحقق ذي طبيعة فردية خاصة؛ فأي العلوم، من بين العلوم اللسانية، اهتم بدراسة الصوت ضمن الكلام، وأيها اهتم بدراسة الصوت ضمن اللسان؟ في هذا السياق، عمدتُ إلى ترجمة مقالين في الموضوع من معجم اللسانيات1. لمؤلفه جون ديبوا وآخرين، يتناول المقال الأول: علم الأصوات من حيث موضوعه وفروعه وسياقه التاريخي؛ والمقال الثاني يستعرض: علم الأصوات الوظيفي من حيث العناصر نفسُها؛ وبناءً على مضمونهما، توجهتُ إلى استخلاص أهم أوجه الاختلاف والائتلاف بين علم الأصوات وعلم الأصوات الوظيفي؛ وفيما يأتي ترجمة المقالين:
 

1. علم الأصوات2:

الفونيطيقا، أوعلم الأصوات، تدرس الأصوات اللغوية من زاوية التحقق، بمعزل عن وظيفتها اللسانية؛ فما يحدد بدقة الفونيطيقا هو أننا نقصي كل علاقة بين العنصر الصوتي موضوع الدراسة ودلالته اللسانية. إنها العلم الذي يهتم بدراسة الجانب المادي للأصوات اللغوية الإنسانية3؛ ويمكن أن نميز داخل هذا العلم بين مجموعة من الفروع:
◂ علم الأصوات العام: يدرس مجموع الإمكانات الصوتية للإنسان في جميع اللغات الطبيعية.
◂ علم الأصوات المقارن: يدرس، عن طريق المقارنة، الأصوات التي تظهر في لغتين، أو مجموعة من اللغات.
◂ علم الأصوات التاريخي: وهو العلم الذي يتتبع تطور الأصوات عبر مراحل التاريخ اللغوي.
◂ علم الأصوات الوصفي: وهو الذي يدرس الأصوات في مرحلة معينة من مراحل التطور اللغوي.
◂ علم الأصوات الخاص: يدرس الأصوات ضمن نسق صوتي محدد، سواء كان لغة أو لهجة.
وعلة التمايز بين هذه الفروع، ترجع بالأساس إلى الطبيعة المعقدة للملفوظ الصوتي من جهة، وإلى تنوع المناهج المعتمدة من جهة أخرى؛ وبشكل عام، يمكن تمييز صنفين أساسين داخل علم الفونيطيقا:
◂ علم الأصوات الفيزيولوجي: يدرس حركات الأعضاء المصوتة (الجهاز الصوتي أو الآلة المصوتة) أثناء عملية التلفظ.
◂ علم الأصوات الفيزيائي: يدرس انتقال الملفوظ عبر الهواء، والطريقة التي يصل بها إلى أذن المستمع.

وهناك جانب من الدراسة الفونيطيقية، مستثمر بشكل أقل [في حدود تاريخ نشر المعجم 1973]4، يمت بصلة إلى علم النفس وعلم النفس العصبي، وهو الذي يدرس الآليات الذهنية التي يتم بها تشفير، وحل شفرات الملفوظ عند المتكلم والمخاطب.

 أما على مستوى أدوات الاشتغال، فإن علم الأصوات التجريبي (البنيوي) phonétique expérimentale (instrumentale) يستعمل آلات وأجهزة تتمم عمل الأذن، والملاحظة المباشرة لسيرورة إنتاج واستقبال الصوت، ونطلق عليه، أحياناً، علم الأصوات الحديث phonétique moderne في مقابل علم الأصوات الكلاسيكي phonétique classique الذي يفضل الاكتفاء بالملاحظة المباشرة [عن طريق الحواس]. وكانت الآلة الناطقة La machine parlante للهنغاري Von Kempelen أول محاولة في الموضوع بتاريخ 1975. لكن البداية الحقيقية تحتسب منذ 1847 مع اختراع مِرْسام الموجات الصوتية Kymographe من طرف العالم الفزيولوجي الألماني Karl Ludwige، حيث أصبح لعلم الأصوات التجريبي قيمة هامة، خاصة بعد ظهور المسجلات الصوتية الكهربائية عالية الجودة سنة 1930، وتطور مناهج الدراسات اللغوية.

2. علم الأصوات الوظيفي5:

 الفونولوجيا، أو علم الأصوات الوظيفي، هو العلم الذي يدرس الأصوات اللغوية من زاوية وظائفها داخل النسق التواصلي اللغوي؛ أي يدرس الوحدات الصوتية التي تتميز داخل اللغة نفسها، والتي تشكل ملفوظين بمعنيين مختلفين، مثال ذلك من اللغة الفرنسية: (Pain et Bain)؛ كما يدرس العناصر التي تمكننا من التعرف على نفس الملفوظ رغم التحققات الفردية المختلفة؛ وهي بهذا تتميز عن الفونطيقا؛ العلم الذي يدرس العناصر الصوتية باستقلالية عن وظيفتها داخل التواصل اللغوي6.

 ونميز، عادة، في الدراسات الفونولوجية بين علمين:
◂ علم التحليل الوظيفي للأصوات: يدرس الوحدات الصوتية الصغرى، أي الفونيم Phonème، في عدد محدود داخل كل لغة، والقواعد التي تتحكم في ترابط الفونيمات داخل السلسلة الكلامية.
◂​ علم العروض: يدرس العناصر الصوتية المصاحبة لتحقق وحدتين صوتيتين أو أكثر، والتي لها وظائف أساسية كالنبرة L’accent، والنغمة Le ton، والتنغيم L'intonation.
◂​ العناصر التي لها قيمة صواتية ليست واحدة في كل اللغات، لذلك نميز، بالإضافة إلى الفونولوجيا الخاصة بلغة معينة، الفروع الآتية:
◂​ علم الأصوات الوظيفي العام: يدرس مبادئ النسق الصواتي العلمي، والقوانين العامة لوظائفها.
◂​ علم الأصوات الوظيفي التقابلي: يدرس اختلافات النسق الصواتي للغتين أو أكثر.
◂​ علم الأصوات التزامني: يدرس النسق الصواتي في حالة لغوية معينة [أي العلاقات الصوتية المتعايشة، أو كل ما له صلة بالحالة السكونية لعلم الأصوات].
◂​ علم الأصوات التعاقبي: يدرس التغيرات الصواتية، والتحولات التي تطرأ على النسق الصِّواتي عند المرور من حالة لغوية إلى أخرى.

وقد ظل علم الأصوات وعلم الأصوات الوظيفي متداخلان لمدة طويلة من الزمن، فحين بُدئ باستعمال مصطلح الفونولوجيا حوالي سنة 1850، كان يستعمل بالتوازي مع مصطلح الفونطيقا، فكانت كل مدرسة لسانية، وأحياناً كل لساني يقحم المصطلحين في دراساته بمفاهيم مختلفة، رغم أن لهما نفس المعنى التأثيلي (أي دراسة الأصوات)؛ هذا الخلط في المصطلح كان نتيجة الخلط في التصورات. وبدأ يختفي بعد أن أصبح علم الأصوات الوظيفي علماً ضمن العلوم اللسانية، وارتبط ذلك بتطور اللسانيات البنيوية في النصف الأول من القرن 20 [...]. فالانطلاقة الحقيقية لعلم الأصوات الوظيفي في أوروبا لم تكن ممكنة إلا مع التطبيقات النسقية لمفاهيم لسانية وضعها فرديناند دو سوسير7، وكذا أعمال حلقة براغ، خصوصاً أعمال جاكبسونوتر وبتزكوي8، وكارسوفسكي، الذين وضعوا، خلال المؤتمر العالمي الأول لعلماء اللسانيات (لاهاي 1928) محددات نهائية لعلم الأصوات الوظيفي ضمن العلوم اللسانية.

✦✦✦

إذا كانت الفونطيقا تهتم بتقطيع الأصوات من الناحية الفونطيقية، وتحديد مخارج الحروف ومواقعها من الجهاز الصوتي، فإن الفونولوجيا تبحث في عناصر التغاير الفارقة9، التي ترتبط في اللسان المدروس باختلاف الدلالة وتنوعها؛ وإذا كانت دراسة الصوت في الفونطيقا وصفية محضة؛ فإنها في الفونولوجيا دراسة للوظيفة اللسانية لهذا الصوت؛ فالخصائص السمعية والنطقية هي ذات أهمية في علم الأصوات، في حين أنها في الفونولوجيا هي أمور عارضة لا تؤدي وظيفة الأمارات والفروق المميزة للألفاظ؛ ألخص فيما يأتي أهم أوجه الاختلاف والتمايز التي تمت الإشارة إليها تصريحاً في المقالين، أو التي وردت في سياق التعريف بعلم الأصوات وعلم الأصوات الوظيفي:
علم الأصوات
◅ يدرس الصوت دون النظر إلى اللسان الذي ينتمي إليه.
◅ يسجل جميع الفروقات الصوتية المدركة حسياً.
◅ لا يهتم بالمدلول بل بالعناصر الصوتية للكلام، إذ يمكن أن ندرس صوتياً لساناً لا نفهمه.
◅ المنظور التعاقبي الدياكروني هو الأهم.

علم الأصوات الوظيفي
◅ يدرس الأصوات من منظور الوظيفة التي يشغلها في لسان معين.
◅ يظهر السمات الصوتية ذات القيمة التمييزية.
◅ يدرس الدال في علاقة بالمدلول.
◅ المنظور التزامني السانكروني هو الأهم.

ورغم استقلال علم الأصوات عن علم الأصوات الوظيفي وتمايزهما، فإن هناك بالضرورة بعض التقاطعات والاتصالات بينهما، منها: وحدة مادة الاشتغال، أي الصوت؛ والترابط بفعل تلازم ثنائية اللسان والكلام؛ والتفاعل الإيجابي على مستوى المفاهيم (مفهوم الجهر والهمس مثلاً)، وعلى مستوى الإفادة من التطبيقات وخلاصات الأبحاث.


الهوامش

1. Jean Dubois et autres - Dictionnaire de linguistique – Larousse - Paris 1973.
2. Jean Dubois et autres- PP : 373,374. 
3. المقصود بالجانب المادي للأصوات اللغوية: دراسة الآلة المصوتة والطريقة التي تنتج بها الأصوات، بمعنى أصوات اللسان كما تظهر متنوعة في الوقائع الكلامية، أي الجانب الفيزيائي والجانب الفزيولوجي للكلام. المترجم، مأخوذ عن: (بول فابر وكريستيان بايلون- مدخل إلى الألسنية (مع تمارين تطبيقية)- ترجمة طلال وهبة- المركز الثقافي العربي- ط 1 1992، ص: 120). المترجم.
4. إشارة للمترجم.
5. Jean Dubois et autres- PP : 375,376.
6. المقصود بوظيفة الصوت في اللسان: دراسة الدال في علاقة مع المدلول، حيث يعمل علم الأصوات الوظيفي بعملية انتقاء من بين غمرة أصوات اللسان المحققة بفعل الكلام، ولا يحتفظ إلا بالسمات الأساسية؛ والفكرة العامة التي يقوم عليها هذا العلم هي "أن الأشياء المتضادة تتقابل وتتناقض ولكنها تتكامل فيما بينها" (بول فابر وكريستيان بايلون- مدخل إلى الألسنية- ص: 121).، فالأصوات الإنسانية في تقطيعها ونطقها تتقابل فونولوجيا؛ والمقصود بالتقابل الفونولوجي كما عرفه تروبتزكوي هو: "كل تضاد تصويتي جائز في لسان معين شرط أن يميز الدلالات العقلية" (تروبتزكوي- مبادئ علم وظائف الأصوات- ترجمة عبد القادر قنيني- دار قرطبة- ط 1، 1994- البيضاء- ص: 1). المترجم.
7. ميز سوسير بين علم الأصوات وعلم الأصوات الوظيفي من خلال فروقات ثلاثة:
-يدرس علم الأصوات وعلم الأصوات الوظيفي الدال، فيما يدرس علم الأصوات الوظيفي الدال بالرجوع إلى المدلول.
-يدخل علم الأصوات في مجال الكلام، أما علم الأصوات الوظيفي فيدخل في مجال اللسان.
-يوازي كل من المنظورين التتابعي والتزامني قسمين في علم الأصوات وعلم الأصوات الوظيفي، ولكن علم الأصوات الوظيفي بدراسته وظيفة الأصوات في اللسان ينظر في نظم صوتية. فالمنظار التزامني هو إذا هو الأهم في علم الأصوات الوظيفي.
المترجم، مأخوذ عن: (بول فابر وكريستيان بايلون- مدخل إلى الألسنية- ص: 119).
8. لخص تروبتزكوي الاختلافات القائمة بين علم الأصوات وعلم الأصوات الوظيفي على الشكل الآتي:
علم الأصوات:
- علم أصوات الكلام؛
- علم الجانب المادي لأصوات اللغة البشرية؛
- منهجية العلوم الطبيعية.
علم الأصوات الوظيفي:
- علم أصوات اللسان؛
- علم الوظيفة اللسانية لأصوات اللغة؛
- المنهجية المستعملة لدراسة النظام النحوي في اللسان [المناهج اللسانية والسيكولوجية والاجتماعية..].
المترجم، مأخوذ عن: (تروبتزكوي- مبادئ علم وظائف الأصوات- ص: 120).
9. العناصر الفارقة، هي الأمارات الصوتية المميزة، حسب باهلر (Bµhler)- المترجم.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها