الكون.. عدد ونغم

فيثاغورس.. من رواد الفلسفة والعلم

محمد سيد بركة

 


•  فيثاغورس اسم معروف لدى معظم الأشخاص في العالم، واحد من أكبر علماء الإغريق ومن مؤسسي الثقافة الأوربية في غرب البحر الأبيض المتوسط. اسم خلده التاريخ الإنساني، فهو من أوائل فلاسفة الإغريق، الذين ترتكز عليهم مباحث الفلسفة، وهم أساس الحضارة الغربية الحديثة.
•  احتل فيثاغورس منزلة رفيعة في الفلسفة والرياضيات بصورة خاصة، ونظرياته ما زالت منذ آلاف السنين وحتى أيامنا هذه تدرس للتلاميذ في الصفوف المتأخرة من التعليم الأولي أو الصفوف الأولى من التعليم المتوسط في كل أنحاء العالم.
•  رفض فيثاغورس أن يطلق عليه حكيماً؛ وإنما رضي أن يكون فيلسوفاً، أي محباً للحكمة، بل ويقال إن لفظ الفلسفة هو واضعه.
•  انتشر صيت فيثاغورس وشاع في سائر بلاد اليونان وإيطاليا وكثر تلامذته، وقد صارت كلمتا فيلسوف وفيثاغورس في القرن السادس قبل الميلاد كلمتين مترادفتين.



أسطورة فيثاغورس

كان فيثاغورس شخصية غامضة تحيطها بها كثير من الأساطير، إذ كان مصلحاً دينياً وصاحب فرقة من الأتباع تجمعهم عقيدة دينية واحدة واتجاه فلسفي واحد..
وحقيقة الأمر ليس لدينا الكثير من المعلومات اليقينية عن فيثاغورس الذي ابتدأت أسطورته قبل حياته، حيث يحكى أنه حينما حملت أمه به تنبأ لها أحد العرافين بأنها ستلد ابناً يكون على قدر كبير من الحكمة والجمال وسيكون له تأثير عظيم على البشرية جمعاء.
وفي حياته نفسها لقد تم وضعه في جنس متوسط بين البشر والآلهة. ومن الأساطير التي تروى عنه أنه كان بهي الطلعة وله فخذ من ذهب وأن نهر نسوس أحياه إذ كان يعبره، وأنه زار هادس أو العالم السفلي ورجع منه كما فعل أورفيوس الذي تنسب له الديانة الأورفية، وقد شاهد فيثاغورس في هذا العالم نفس هوميروس وهزيود تعذبان فيه عذاباً أليماً عقاباً لهما على ما كانا يرويانه عن الآلهة.

فيثاغورس.. الميلاد والنشآة

ولد فيثاغورس بين سنتي 580 و570 ق.م على أرجح الروايات في جزيرة ساموس، حيث عاش فيها طفولته وشبابه وهاجر إلى كروتونا في اليونان الكبرى، وكانت تطلق على منطقة جنوب إيطاليا تمييزاً لها عن اليونان القارية وعن اليونان الآسيوية فراراً من الطاغية بوليكراتيس.
أسماه والده فيثاغورس أي حامل البشارة بعد أن تنبأت له كاهنة دلفي بمستقبل باهر لصالح الجنس البشري.
عاش طفولته الأولى مع أهله في صور حيث لجأت العائلة لتحمي وليدها من تلك الفوضى التي كانت تعم آنذاك أرض اليونان الوليدة.
كان فيثاغورس محباً للعلم والمعرفة فشد عصا الترحال طلباً للعلم يقول هيراقليطيس -وهو الرجل الذي كان يوصف بـأنه شديد الاقتصاد في المدح حسب تعبير ول ديورانت في مؤلفه الضخم قصة الحضارة-: كان فيثاغورس أكثر الباحثين مثابرة.
زار فيثاغورس سوريا وفينيقيا والهند ومصر وغيرها من البلدان، ومكث فيثاغورس في مصر ما لا يقل عن اثني عشر عاماً يدرس ويتعلم من الكهنة في المعابد المصرية التي ما زالت شاهدة على تقدم ورقي الحضارة المصرية القديمة، فتعلم فيثاغورس الكثير من علم الفلك والهندسة والرياضيات والديانة المصررية القديمة.
وبعد أن غزا قمبيز مصر سنة 525 ق.م أسر فيثاغورس وأخذه إلى بابل، وهناك درس الحساب والموسيقى وتعاليم المجوسية.
عاد فيثاغورس إلى مسقط رآسه ساموس لكنه لم يلبث أن استأنف التنقل، فرحل إلى ديلوس وكريت واليونان حتى بلغ كروتونا وفيها استقر وأسس مدرسته المشهورة.

الأعداد والرياضيات الفيثاغورية

كل شيء كان بالنسبة للفيثاغوريين عدداً. والحقُّ يقال، إنهم لم يكونوا ينظرون إلى العدد ككمية مجردة وإنما كتجل إلهي وكانعكاس للواحد الأحد الذي هو منبع وأساس التناغم الكوني. فالرياضيات عند فيثاغورس هي جسر بين عالم الشهادة وعالم الغيب؛ لذا فعلم الأعداد كان بالنسبة للفيثاغوريين جزء من عملية فهم القوى الحيَّة، إن لم نقل إنه جزء من عملية فهم ذلك الفيض الفاعل في جميع العوالم ومن بينها عالمنا الإنساني.
والأعداد الفيثاغورية كانت من حيث الأساس أعداداً صحيحة وموجبة ومرتبطة بالملموس. ففي البدء، لم يكن الفيثاغوريون -على ما يبدو- يميِّزون بين العدد وبين المحسوس؛ إنما حصل هذا التمايز لاحقاً على يد أفلاطون وجماعته. وأيضاً.. كانت الأعداد الفيثاغورية تنقسم إلى وتر (أعداد فردية) وشفع (أعداد زوجية)، وكانت تمثَّل بنقاط هندسية موزعة كمتتاليات بواسطة زوايا كما يلي:
.
.  .
.  .  .
.  .  .  .

حيث تمثل الأعداد الموجبة أو المربعة، شكلاً هندسياً متوازناً، إن لم نقل كاملاً من منطلق نسبتها التي هي n / n بينما تمثل الثانية أي الأرقام الفردية مستطيلاً، أي شكلاً هندسياً غير متوازن من خلال نسبتها التي هي n / n + 1.
وأيضاً، كان العدد الأول الـ1 يمثِّل بالنسبة لهم أول الأرقام ورمز الألوهة. فعنه ينبع كل شيء. وهو بحكم كونه رمزًا تحدُّه نسبيتنا ومحدوديَّتنا. منبثق عن العدم أو اللانهاية التي عبَّر عنها ابن عربي يومًا بـ"غيب الغيب" أو "الغيب المطلق" الذي ليس بوسعنا استيعابه. أما على مستوانا فيبقى الواحد "1" هو المنطلق والأساس لجميع الأعداد. فهو إذن محور الكون، وهو البداية ومنه ينبع الثنائي أو الـ2. والثنائي هو النسبي وهو الخليقة، ويُرمَز له عادة بخط مستقيم. ونتوصل مع الفيثاغوريين من بداية هذا النقاش الرقمي الرمزي إلى الجدول التالي الذي يمثِّل عدداً من الثنائيات الفيثاغورية.

1. لامحدود/ محدود
2. مفرد/ مزدوج
3. واحد/ عدد
4. يسار/ يمين
5. ذكر/ أنثى
6. سكون/ حركة
7. منحني/ مستقيم
8. ظلام/ ضوء
9. خير/ شرّ
10. مستطيل/ مربع

أما الثلاثي 3، وهو أول عدد كامل يلي الواحد، فقد كان يمثل عند الفيثاغوريين البداية والنهاية وما بينهما. وهو عدد فردي يجمع العددين الأول والثاني، وهو غير قابل للقسمة، ومن هنا يعيدنا إلى الألوهة كرمز. وأيضاً، من قلب ذلك الثلاثي 3 الذي عاد إلى البداية 1، و/أو من تلك الخليقة، إن لم نقل ذلك الثنائي 2 المتوالد، كان الرابوع أو الـ 4. رمز عالمنا المادي والمجسَّم من حيث الشكل. ونتذكر أبياتنا الذهبية التي تقسم بـ: ... الذي أعطانا الرابوع.. مبدأ الطبيعة الأزلية.
وأيضًا، فإن جمع الأرقام الأربع الأُوَل، 1 و2 و3 و4، يعطينا الـ10. الرابوع tetraktis المقدَّس عند الفيثاغوريين. وتلك، من خلال الرابوع، تعيدنا من جديد إلى الـ1. ففي الرابوع تتمثل حسب الفيثاغوري أرشيتياس التارانتي الأعداد والأبعاد والعناصر والأشكال والمواهب كما يلي:

ونتابع التحليق مع الأرقام الفيثاغورية، فنشير، باختصار شديد، إلى أن هذه المدرسة كانت أول من أعطانا ما نعرفه اليوم في الرياضيات بـنظرية النسب الرياضية (b -m = m - a) والنسب الهندسية (a / m = m / b) والتناغمية (m - a / b - m = a / b). وأيضاً، من خلال ما يعرفه العامة بنظرية فيثاغوراس، أو AB² +AC² = BC² أي مجموع مربعي ضلعي مثلث قائم يساوي مربع الوتر، توصَّل الفيثاغوريون إلى معرفة العدد غير الصحيح. الأمر الذي كان يشكِّل في حينه مأزقًا فلسفياً لا يمكن استيعابه، كما لا يستوعب الكثيرون اليوم القصد العميق لمفهوم الفوضى أو الـentropy في الكون. فالعدد غير الصحيح كان ربما أول تعبير فلسفي واقعي ملموس لهذه الفوضى المفترضة، وكما تبدو من منظورنا. ونسجِّل هنا أن هذا الاكتشاف تحديداً هو ما دفع زينون وجماعته في حينه إلى معارضة المدرسة الفيثاغورية ومفاهيمها الثورية. وأيضًا... كان الفيثاغوريون أول من عرف ما ندعوه اليوم بالنسبة الذهبية أو العدد الذهبي أو 1.618 الذي فتن العديد من العلماء، بدءاً من أفلاطون، مروراً بليوناردو دافنشي، وصولاً إلى المعماري المعاصر الكبير لوكوربوزييه. فالعدد الذهبي قد يكون أصدق تعبير رياضي لهذا التناغم الكوني الذي يستوعبنا.
 



الموسيقى وعلم الفلك الفيثاغوريين

اكتشف فيثاغوراس النوتة الموسيقية من خلال إصغائه ذات يوم إلى تواترات أنغام مطارق الحدَّادين. وهذا الحديث قد يكون صحيحاً، وقد يكون مجرَّد أقصوصة. ولكن، مما لا شك فيه أن الفيثاغوريين كانوا أول من اكتشف السرَّ وأول من وضع أسس النوتة الموسيقية التي أضحت معتمدة من بعد وبقيت حتى يومنا، وحيث الـ 

Ut = 1,    Re = (2/3)2,      Mi = (2/3)4,      Fa = 3/2,    Sol = 2/3,      La = (2/3)3,    Si = (2/3)5

من خلال اكتشاف نسبة الـ 2/3 وتشعباتها. وأيضاً... كما أوضح أفلاطون في مؤلفه الجمهورية، حاول الفيثاغوريون تعميم مفهوم التناغم الموسيقي على الكون برمَّته. فالكون، كمفهوم، كان بالنسبة لهم رديفاً للتناغم. أفلا تعني كلمة Kosmos -وهي تلك التسمية اليونانية التي أطلقوها على الكون- النظام والجمال؟ لذا نراهم يضعون فرضية تناغم الكرات التي تحدث عنها لاحقًا أفلاطون وأرسطو. وحيث كانت مجالات تباعد النوتات الموسيقية الأساسية السبع متوافقة مع حركة وتباعد الكواكب السبع عن الأرض وبعضها بالنسبة لبعض. فالعدد عندهم كان يسود في كل مكان ويسود في الكون.
ويلاحظ العلماء اليوم أن الفيثاغوريين قد تجاوزوا قطعاً ما كان متبعاً في زمانهم من حيث الرصد الظاهري للكواكب والنجوم وحركتها وتسجيلها. وأنهم توصَّلوا إلى فهم نظري متكامل تجاوز بكثير الفهم التقليدي الذي كان سائدًا في حينه والذي جعل من الأرض مركزًا للكون. فاستبدلوا به فهماً رياضياً هيأ منذ ذلك الحين الطريق للمفهوم اللامركزي الذي اعتمده كوبرنيكوس لاحقاً (أي بعد 2200 سنة). لا بل أكثر من ذلك، يعتقد بعض العلماء اليوم أن فيثاغوراس كان أول من تحدث عن كروية الأرض والكون. أفلم تكن الكرة بالنسبة له هي الجسم الأكمل؟ أو لم يكن تلميذه فيلولاوس أول من قدَّم فهماً كروياً مركزياً لكون تتحرك مكوِّناته في الأثير بتناغم موسيقي حول كرة نارية مركزية اعتبروها في حينه مركزاً للعالم؟
وأيضاً، مع مفهوم الأثير يكون الفيثاغوريون قد تجاوزوا في حينه مفهوم العناصر الأساسية الأربعة. فإذا كانت النار بالنسبة لهم ممثَّلة رمزًا بالإله آرِس (مارس)، وكانت الأرض ممثَّلة بهاذِس (العالم الأسفل)، والماء بكرونوس (الزمن)، والهواء بذيونيسوس؛ فإن الأثير الممثَّل رمزًا بزفس أبي الآلهة يستوعبها جميعها.

المدرسة الفيثاغورية

أنشأ فيثاغورس مدرسة كان لها عظيم الأثر في تاريخ الفكر الإنساني.. يرى برييه في كتابه تاريخ الفلسفة أنه لم تكن الفيثاغورية حركة عقلية فحسب بل كانت حركة دينية وأخلاقية وسياسية وقد تمكنت من إنشاء أخوة علمية وفكرية.
وكما ساد الغموض حياة فيثاغورس لم تخل تعاليمه من الغموض أيضاً، ومن خلال النصوص القليلة الباقية نستطيع أن نتبين أهم المبادئ التي كان يدعو إليها فيثاغورس ومنها:

تناسخ الأرواح

كان فيثاغورس يؤمن بفكرة تناسخ الأرواح وكان يدرس هذه الفكرة لأتباعه، ويبدو أن فكرة التناسخ هذه كانت تطوراً لعقيدة بدائية كان يؤمن بها فيثاغورس وهي عقيدة قرابة الناس والحيوانات، وكان هذا مرتبطاً بنوع من التحريم لبعض أنواع الطعام ولذلك عرفت الفيثاغورية بتحريم أنواع من الطعام.
ويروي بعض المؤرخين كيف رفض فيثاغورس أن يقدم قرابين إلا على أقدم مذبح وهو مذبح أبولون الأب ولم يقدم أي قربان دموي. كما أشيع عن الفيثاغورية أنها امتنعت عن أكل اللحوم وحرمت بعض الأطعمة، فيقال إن فيثاغورس امتنع عن أكل لحم الثور الذي يحرث الأرض ولحوم الأكباش، أما غير ذلك من اللحوم فلم يمتنع عنه ويذكر أيضاً أنه فضل البقول فحرمها. ويرجع بعض الباحثين السبب الذي دعا فيثاغورس إلى تحريم بعض أنواع الأطعمة إلى قوله بالقرابة بين الحيوان والإنسان.

الأخلاق الفيثاغورية

وضع فيثاغورس لطلابه قواعد تكاد تحول مدرسته إلى دير للراهبات، فقد كان من يدخلونها يقسمون يمين الولاء للأستاذ ولبعضهم بعضاً، وتجمع الروايات المأثورة على أنهم كانوا يشتركون على قدم المساواة في جميع طيبات الحياة ماداموا يعيشون في هذه الجماعة الفيثاغورية.

نادى فيثاغورس بمبدأ تكافؤ الفرص للذكور والإناث على السواء قبل أن ينادي بذلك أفلاطون بما لا يقل عن مائتي عام، ولم يناد به فيثاغورث فحسب بل نفذه عملياً على أنه مع ذلك لم يكن ينكر أن بين الجنسين فوارق طبيعية من حيث وظائف كل منهما، وكان يعلم الطالبات الشيء الكثير من الفلسفة والآداب؛ ولكنه كان يعلمهن أيضاً فن الأمومة والتدبير المنزلي؛ ومن أجل ذلك اشتهرت النساء الفيثاغوريات في الزمن القديم بأنهن أعلى نموذج في الأنوثة أخرجته بلاد اليونان في جميع العصور.

ينسب إلى فيثاغورس كما ذكرنا أنه أول من استخدم كلمة "فيلوسوفيا"؛ أي محبة الحكمة أو الجهد للوصول إلى الحكمة وينبغي أن نفهم الحكمة هنا بكل معانيها حيث يختلط فيها النظر بالعلم فليس الحكيم هو من يعرف أشياءَ كثيرة فقط، بل هو أيضاً من يسلك سلوك الحكيم، ومن ثم نضع أيدينا على فكرة أساسية للفيثاغورية شاركت في جعل تأثيرها يستمر خلال كل عصور الحضارة اليونانية وفي الحضارة المسيحية، بل وكذلك في الحضارة الإسلامية ألا وهو أن العلم إنما هو في النهاية أداة لتطهير النفس حينما تصل هذه إلى الحقيقة. ومن قواعد سلوك أعضاء الجماعة الفيثاغورية امتحان الضمير اليومي فكل مساء كان على العضو أن يسأل نفسه: فيم فشلت؟ ما الطيب الذي فعلت؟ وما الذي لم أفعل مما كان يجب علي أن أفعله؟

أما عند استيقاظه فكان عليه أن يحدد برامج يومه، ومن قواعد الفيثاغوريين الأخلاقية:
احترام الآلهة والخضوع لإرادتهم والبقاء في المركز الذي نحن فيه في الحياة وعدم تركه، وكذلك الولاء للأصدقاء وكل شيء مشترك بينهم، أيضاً الاعتدال والبساطة في استخدام خيرات الدنيا.

ولم يكن يباح للفيثاغوريين أن يقسموا بالآلهة؛ لأن من الواجب على كل إنسان أن يعيش عيشة تجعله خليقاً بأن يصدقه الناس دون أن يلجأ للقسم.

وقد أخذ فيثاغورس نفسه بالقواعد الأخلاقية التي نادى بها وطالب تلامذته باتباعها وراعاها أشد مما راعاها أي تلميذ من تلاميذه. وأن أسلوب حياته قد أكسبه من احترام طلابه وسلطانه عليهم ما جعلهم يحترمونه ويقدرونه تقديراً عظيماً. وكان فيثاغورس يعيش معظم أيامه على الخبز والعسل وحلواه كانت الخضر، وثوبه كان على الدوام ناصع البياض، ولم يعرف عنه قط أنه أفرط في الأكل أو عشق، كما أنه لم يغرق في الضحك أو المزاح ولم يعاقب إنساناً مطلقاً حتى ولوكان عبداً.

وكان الانضمام إلى المجتمع الفيثاغوري يتطلب فضلاً عن تطهير الجسم بالعفة وكبح الشهوات، تطهير العقل بدراسة العلم، وكان ينتظر من الطالب الجديد أن يلتزم الصمت الفيثاغوري مدى خمس سنوات، والمقصود بالصمت الفيثاغوري تقبل الأوامر من غير سؤال أو مناقشة قبل أن يتم الاعتراف به عضواً كاملاً في الجماعة، وقبل أن يسمح له أن يرى فيثاغورس أي أن يدرس عليه وها هو المذهب الفيثاغوري:
نحن غرباء في هذا العالم والجسد هو مقبرة النفس، ومع ذلك لا ينبغي أن نهرب منها بالانتحار؛ لأننا أغنام والله راعينا وبدون أمره لا حق لنا أن نهرب.

أبيات فيثاغوراس الذهبية

✧  بادئ ذي بدء، بَجِّل الآلهة بحسب المنزلة اللائقة بها، واحترم كلامك، وأكرِم الأبطال الشرفاء.
✧  أكرِم كذلك والديك والأقربين إليك بالدم، واتَّخذ لنفسك أحبَّة بين أهل الفضيلة من الآخرين.
✧  أصغِ لرقيق الكلام، ولا تُعَرقِل مفيدَ الأعمال، ولا تحقد على صديق من جراء خطأ طفيف.
وهذا بمقدار ما تطيق؛ لأن الممكن يجاور الضروري، وتشرَّب الوصايا المذكورة أعلاه، ولكنْ فلتضبط شهوتك ونومك، ثم أهواءك وغضبك، ولا ترتكب أي فعل مخجِل، وحدك أو بالاشتراك مع غيرك. فالأولى بك أن تحترم شخصك.
✧  ثم تمرَّس في فعل الحق في أفعالك وأقوالك، وتعلَّم أيضاً ألا تتصرف قط تصرُّفًا لم تمعن التفكير فيه، واعلم أن الموت ناموس لا مفرَّ منه للجميع، وتعوَّد على فقد الأشياء في أية لحظة بمقدار تعوُّدك على اقتنائها، وأمًّا المصائب التي يتحمَّلها البشر، من جراء التقادير الإلهية، فتحمَّل نصيبك منها بلا تذمُّر، ولكنْ اجتهد في تصويبها بما في وسعك، وقل لنفسك إن المصائب التي يُبتلى بها الإنسان الشريف ليست بهذه الكثرة.
✧  إن كلاماً كثيراً، فيه الطالح وفيه الصالح، يطرق مسامع البشر. فلا يساورنَّك خوف منه، ولا تَحِدْ كذلك عن دربك لكي تجتنب سماعه، والزم الهدوء إذا سمعت كلاماً كاذباً.
✧   بيد أن ما سأقول لك عليك أن تعمل به في كل الظروف: فلا تدعنَّ أحداً، قولاً أو فعلاً، يقودك إلى فعل أي شيء مما يتعارض مع طبيعتك الحقَّة، وتفكَّر قبل أن تفعل تجنُّباً للحماقات -فالفعل والكلام بلا تروٍّ صفة الجاهل- وأدِّ بالتحري ما لن يعود بالضرر عليك، ولا تفعل أي شيء بلا علم به، وتعلَّم ما ينبغي أن تعلم. تلكم قاعدة الحياة الهنيئة، ولا تهمل كذلك صحَّتك، وكن معتدلاً في شرابك وطعامك ورياضتك. وأقصد بالاعتدال فيما لن يضرَّ بك، ووطِّن نفسك على نظام صحيح، خال من الخمول، واجتنب فعل كل ما من شأنه أن يحرِّض الرغبة، واجتنب إنفاق المال في غير محلِّه، على غرار ما يفعل من لم يخبَر الأمانة قط؛ إنما كن متساهلاً، فإن الاعتدال في كل شيء هو الأفضل، وافعل ما لا يسيء إلى طبيعتك الحقَّة، وتفكَّر قبل أن تفعل، ولا تدع النوم يغزو عينيك المرهقتين قبل أن تفحص كل يوم ضميرك، متسائلاً: "فيم قصَّرتُ؟ وماذا فعلت؟ وأي واجباتي أغفلت"؟ وابدأ من البداية، مسائلاً نفسك عن هذه المسائل واحدة واحدة. فإذا أسأتَ التصرف، لُمْ مسلكك. أما إذا أحسنتَه فابتهج.
هذا ما يجب أن تجتهد فيه، وتوليه كل عنايتك. هذا ما يجب أن تتمسَّك به بكل قواك. فوحدها هذه الاهتمامات من شأنها أن تضعك على درب الحكمة الإلهية.
والذي أعطانا الرابوع، مبدأ الطبيعة الأزلية، على ما أقول شهيد.
ألا فباشر عملك بعد أن تسبِّح الآلهة حتى تتوفَّق فيه.
فإذا ملكتَ هذه المبادئ عرفتَ جوهر الآلهة الخالدة والآلهة الفانية، والفوارق بين الأشياء والروابط التي تشدُّها بعضها إلى بعض.
✧  ولسوف تعرف حدود الحلال، حيث الطبيعة هي هي في كل شيء، وبذلك لن تأمل فيما لا أمل منه ولن يخفى عليك شيء.
✧  ولسوف تعرف البشر، ضحايا المصائب التي ينزلونها بأنفسهم، وتعرف بؤسهم، وتعرف العاجزين، لا بالنظر ولا بالسمع، عن إدراك الخيرات القريبة منهم إلى هذا الحد، إذ قلة من بينهم تعرف كيف تنجو من الشقاء.
ذلكم هو القضاء النازل بنفوس الفانين. فهي كالكريَّات تتدحرج هنا وهناك معرَّضة لآلام لا تنتهي، فـالشقاق رفيقهم الفاجع، يودي بهم من حيث لا يدرون. الشقاق الذي يظهر لدى ولادتهم، والذي يجب الامتناع عن إثارته، وتجنُّبه بالانقياد له.
✧  آه، زفس، أيها الأب الكلِّي. إنك لتعتق الإنسان حقاً من الكثير من الأوجاع إذا دلَلت البشر على الشيطان الذي يخضعون له.
✧  أما أنتَ. فكن على ثقة، بما أن البشر من سلالة إلهية وأن الطبيعة المقدسة تدُّلهم وتكشف لهم كل الأسرار. فإذا أخذت نصيبك منها، عملت بوصاياي، وبفضل هذا الدواء، حرَّرت نفسك من هذه الهموم.
✧  ألا فامتنع عن المآكل التي ذكرنا، وفي التطهُّرات كما في انعتاق النفس بانفصالها عن البدن، أعمِل محاكمتك، وتفكَّر في كل شيء، متساميًا بعقلك الذي هو خير المرشدين، ولئن غادرتَ جسمك محلِّقاً حتى أعالي الأثير المطلقة، أصبحت إلهاً مخلَّداً، لا يلحق بك فساد، ولا يطالك الموت.


المصـادر: 1 – فيثاغورس.. فيلسوف علم الرياضيات للدكتور فاروق عبد المعطي، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان-الطبعة الأولى 1994. / 2 – التناغم الإلهي.. حياة فيثاغورس وتعاليمه لجون ستروميير وبيتر ويستبروك، ترجمة وتقديم شوقي جلال - المركز القومي للترجمة – القاهرة 2012. / 3 – قصة الحضارة لول ديورانت -المجلد الثالث- الجزء السادس- طبعة مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001. / 4 – ديموقريطس: فيلسوف الذرة وأثره في الفكر الفلسفي حتى عصورنا الحديثة للدكتور علي سامي النشار وآخرين –الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر –الاسكندرية. / 5 – عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة الجزء الأول –دار الثقافة بيروت –لبنان. / 6 – العلم الإغريقي لفارنتن: ترجمة أحمد شكري سالم – الجزء الأول سلسلة الألف كتاب – مكتبة النهضة المصرية 1958. / 7 – تاريخ العلم لسارتون: ترجمة نخبة من العلماء –الجزء الأول– دار المعارف القاهرة – الطبعة الرابعة 1979. / 8 – الفيلسوف وفن الموسيقى لبورتنوي: ترجمة الدكتور فؤاد زكريا - الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974. / 9 – فلاسفة الإغريق لريكس وونر- ترجمة عبد الحميد سليم- الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها