جدلية الفن والمحاكاة

رؤية فلسفية وجمالية

إسماعيل الموساوي

سينصب اهتمامنا في هذا المقال على مقاربة إشكال من بين الإشكالات التي اهتمت بها الفلسفة عبر تاريخها، ونقصد بالضبط فكرة المحاكاة وعلاقتها بالفن داخل الفلسفة، باعتبارها جوهر العمل الفني، ولسبر أغوار هذا الموضوع سنولي وجوهنا شطر مرحلة نعتبرها أساسية في هذا السياق؛ وهي المرحلة الأرسطية، وسنقدم في آخر هذه المرحلة نموذجاً من الشعر وهو قصيدة رباعيات الخيام لأحمد رامي، وما فعله الترنيم والتنغيم في إيصالها وغرسها في أذواق الناس وجمالياتهم. وسنحاور هذه المرحلة بموقفين أساسين في مجال البحث الجمالي والفني، ومحاولة النظر في كيفية تحويرها وإعادة مُساءلتها لهذا المفهوم من وجهة نظرنا.
 

أولاً: أرسطو "المحاكاة جوهر العمل الفني"

يقسم أرسطو أنواع الشعر إلى شعر الملاحم، والمأساة، والملهاة، ولعله استبعد الشعر الغنائي لأنه يدخل ضمن ما يسمى بفن الموسيقى، يقول أرسطو: "وفي هذا أسلك الترتيب الطبيعي فنبدأ بالمبادئ الأولى: الملحمة والمأساة، بل الملهاة والديثرامبوس1، وجل صناعة العزف بالناي والقتارة"2، فأرسطو يعتبر هذه الأنواع من الشعر هي كلها "أنواع من المحاكاة في مجموعها، لكنها فيما بينها تختلف على أنحاء ثلاثة: لأنها تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو موضوعات متباينة، أو بأسلوب متمايز"3. بمعنى أن التباين بين أنواع الشعر غالباً ما ينشأ عن اختلاف الوسائل، واختلاف الموضوعات؛ لأن بعض العلوم يحاكي بالألوان والرسوم والنحت، أما الموسيقى فهي تحاكي الأشياء والأحياء بواسطة الصوت، وكذلك الأمر بالنسبة للشعر تختلف أنواعه باختلاف وسائله، ولكن بالرغم من هذه الاختلافات الواردة بين هذه الفنون سواء التي تدخل على الشعر أولا كما هو الحال في الموسيقى فإن الأساس الذي يوحد ويجمع بينهما هو "المحاكاة"، والمحاكاة تحقق حسب أرسطو بواسطة "الإيقاع واللغة والانسجام"4. ويقدم أرسطو مثالا لتوضيح ذلك بقوله: "فالعزف بالناي مثلا والضرب بالقتارة وما أشبه هذا من الفنون، مثل الصفر تحاكى باللجوء إلى الإيقاع والانسجام وحدهما، بينما الرقص يحاكى بالإيقاع دون الانسجام، وذلك لأن الراقصين يستعينون بالإيقاعات التي تعبر عنها أشكال الرقص في محاكاة الأخلاق والوجدانيات والأفعال"5، أما الفن الذي يستعمل مادة المحاكاة التي تتمثل في اللغة حسب أرسطو هو "النثر أو الشعر"6. ويشير أرسطو في نفس الوقت كذلك إلى أن الطابع الخاص لهذه الفنون بمعنى التأثير الذي تلعبه هو "التطهير".
بعد هذا ينقلنا أرسطو إلى الحديث عن موضوع مهم هو أن اختلاف الفنون غالباً ما يكون باختلاف الموضوع، حيث يقول إن المحاكين لما كانوا يحاكون أفعالا، فإن الناس لابد أن يكونوا على نوعين: "أخيار أو أشرار"7. إذ تختلف أخلاق الناس إما بالرذيلة أو الفضيلة، فإن الشعراء هم كذلك على نوعين: نوع يحاكي أفعال الرذيلة ونوع يحاكي أفعال الفضيلة. ثم يتحدث أرسطو عن أسلوب المحاكاة الذي يميز بين أنواع الشعر، حيث نجد الشعر القصصي والمسرحي، الأول ينقسم إلى قصص مختلطة (هوميروس) وإلى قصص خالصة. فالأول إما نقص على لسان شخص آخر كما يفعل هوميروس في الأوديسا في رواية "أوديسوس"، أو يحكي المرء عن نفسه أو تحاكي الأشخاص وهم يفعلون.

إذن الاختلاف الوارد في المحاكاة كما أشرت مند البداية هو حسب أرسطو من خلال ثلاث مستويات وهي "الوسائل، والموضوعات والطريقة"8.

بعد هذا ينقلنا أرسطو إلى الحديث عن نشأة الشعر، حيث إن هذا الأخير نشأ عن سببين أساسين وهما: الأول "طبيعي فالمحاكاة غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة"9، أما السبب الثاني هو أن الناس غالباً ما يجدون "لذة في المحاكاة"10، ولهذا يقول أرسطو بأن "التعلم لذيذ: لا للفلاسفة وحدهم، بل أيضاً لسائر الناس"11. ولما كان الشعر غريزة طبيعية في الإنسان، فإن الناس في البدء قد ارتجلوا شعراً، ومع تقدم الوقت أصبحت هذه الارتجالات شعراً، فانقسم الشعر حسب طبائع الشعراء، فمنهم حسب أرسطو "ذوو النفوس النبيلة حاكوا الفعال النبيلة وأعمال الفضلاء"12، ومنهم كذلك "ذوو النفوس الخسيسة حاكوا الفعال الدنيئة فأنشأوا الهجاء"13. ويشير أرسطو بأنه يعرف بأن أسلاف هوميروس كانت لهم قصيدة من هذا النوع، وإن كان أرسطو واثقاً تمام الوثوق من هذا الأمر، وكل ما يمكن أن يذكره هو أن لهوميروس قصيدته "مرغيتس" وفي هذه القصيدة ظهر الوزن المعروف بالأيامبو، ويستخدم هذا الوزن في التراشق بالشتائم، وانطلاقاً من هذا يمكن القول إن الشعراء القدماء حسب أرسطو منهم من ألف بأوزان بطولية ومنهم من ألف بأوزان إيامبية.
ولما ظهرت المأساة والملهاة أصبح الشعراء الذين أخذوا أحد هذين النوعين وفقاً لطبائعهم الخاصة "شعراء ملاه بدلا من أن يكونوا شعراء إيامبيين، والبعض الآخر شعراء مآس بدلا من شعراء ملاحم"14؛ لأن هذه الفروع الأدبية كانت "أجل وأعلى مقاماً من الأولى"15.
وبهذا يرى أرسطو بأن الكوميديا (الملهاة) نشأت عن الشعر الأيامبو، وأن التراجيديا (المأساة) نشأة عن الملاحم، ولهذا كانت المآسي أجل وأعلى مقاماً من الملاهي. فالمأساة بدورها نشأة في الأصل ارتجالاً نفس الأمر بالنسبة للملهاة، فالأولى ترجع إلى مؤلفي الديثرامبوس، أما الملهاة ترفع إلى مؤلفي "الأناشيد الإحليلية"16.
فالملهاة حسب أرسطو "هي محاكاة الأراذل من الناس، لا في كل نقيص ولكن في الجانب الهزلي الذي هو قسم من القبيح"17، بمعنى أن المحاكاة حسب أرسطو هي محاكاة الجانب الذي يسعى إلى إثارة الضحك في الفعل القبيح أو الصفة القبيحة.
أما المأساة فهي "محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزين تختلف وفقاً لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات"18، وفي المأساة حسب أرسطو ستة أشياء تتألف منها هي "الخرافة والأخلاق، والمقولة والفكر، والمنظر المسرحي، والنشيد"19. بمعنى أن جميع المآسي تتضمن جهازاً مسرحياً، وأخلاقاً، وخرافة، ومقولة، ونشيداً وفكراً.
وأهم هذه الأجزاء تركيب الأفعال، لأن المأساة في نظر أرسطو لا تحاكي الناس، بل تحاكي "الفعل والحياة"20، والسعادة والشقاوة هما نتائج الفعل، وغاية الحياة كيفية عمل لا كيفية وجود، والناس هم ما هم بسبب أخلاقهم، ولكنهم يكونون سعداء أو غير سعداء بسبب أفعالهم، فلا توجد مأساة بدون فعل وأخلاق. أما الخرافة فهي المأساة وروحها، وتتلوها في المرتبة الثانية الأخلاق، وفي المقام الثالث تأتي الفكرة التي يعني بها أرسطو القدرة على إيجاد اللغة التي يقتضيها الموقف وتتلاءم معه.

 كما ينظر أرسطو كذلك إلى أن الفعل يجب أن يكون له مدى معين أي طول مناسب للمأساة، والمحاكاة يجب أن تكون حكاية كاملة، لا مجموعة من الأحداث العارضة ولكن أن تكون الحكاية حكاية جميلة.

وبما أن المحاكاة هي محاكاة فعل تام له مدى معلوم، والتام هو ما له بداية ووسط ونهاية، والبداية حسب أرسطو "ما لا يعقب بذاته وبضرورة شيئاً آخر، ولكن بعده شيء آخر يوجد أو يحدث بالطبيعة نفسها"21، أما النهاية فهي حسب أرسطو على عكس ذلك بحيث هي "ما بذاته وبالطبيعة يعقب شيئاً آخر، ضرورة أو في معظم الأحيان، ولكن ليس بعده شيء آخر"22. أما الوسط فهو "ما بذاته يعقب شيئا آخر ويعقبه شيء آخر"23.
بعد هذا ينقلنا أرسطو إلى الحديث عن مسألة يعتبرها خطيرة وهي ما يسمى بوحدة الفعل، وهي الوحدة التي يقتضيها تعريفه للمأساة بأنها تكون له بداية ووسيط ونهائية، فيميز خصوصاً بين وحدة الفعل الحقيقية وبين الوحدة الزائفة الناشئة عن انتساب الأفعال إلى شخص واحد، إذ هذه الوحدة الأخيرة ليست مجرد ارتباط واقعي يمكن أن يكون موضوعاً للتاريخ، لا موضوعاً للشعر، ففي سائر الفنون تنشأ وحدة المحاكاة من وحدة الموضوع كذلك الخرافة، لأنها محاكاة الفعل، وبالتالي يجب "أن يكون الفعل واحداً وتاماً"24، بحيث إذا نقل أو بتر جزء انفرط عقد الكل وتزعزع.

ومن خلال ما سلف فمهمة الشاعر حسب أرسطو "ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع"25، والأشياء الممكنة إما بحسب الاحتمال أو بحسب الضرورة. ويقول أرسطو إن الاختلاف بين الشاعر والفيلسوف ليست في مسألة أن أحدهما يروي أحداثاً شعراً، وإنما يتميزان من حيث كون أحدهما يروي أحداثاً وقعت فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع، وهذا هو الفارق بينهما من وجهة نظر أرسطو، ولهذا يقول "الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ؛ لأن الشعر يروي الكلي، بينما التاريخ يروي الجزئي"26.
والمقصود بالكلي عند أرسطو، مثلا هذا الشخص أو ذاك يروي ما سيقع في هذه الأشياء أو تلك على وجه الاحتمال أو على وجه الضرورة، ولهذا فالشاعر حسب أرسطو يجب عليه أن يكون صانع حكايات وخرافات أكثر منه صانع أشعار لأنه حسب أرسطو "شاعر بفضل المحاكاة"27، بحيث يحاكي أفعالا، حتى ولو وقع له أن يتخذ موضوعه من الأحداث التاريخية التي وقعت فعلا، لظل حسب أرسطو شاعراً، إذ لا مانع أن تكون بعض الحوادث التاريخية محتملة للوقوع وممكنة.

من خلال ما سلف حاولنا أن نبين كيف اعتبر أرسطو فكرة المحاكاة جوهر العمل الفني، من خلال وقوفنا على كتابه "فن الشعر"، الذي أرسى فيه نظريته في المحاكاة التي يختلف فيها عن رأي أستاذه أفلاطون، حيث أعاد أرسطو جوهر معنى المحاكاة الأفلاطوني، ولكن على درجة مختلفة، فهو يثريه بملاحظاته الدقيقة، ودراساته لزمرة من الأعمال الفنية، من شعر، وموسيقى ورقص، وفنون تشكيلية، حيث اعتبر أرسطو أن هذه العلوم تتكامل مع بعضها البعض، والخيط الناظم بينها هو المحاكاة، وهذه الأخيرة حسب أرسطو ليست محاكاة للمثل كما أعاب عليها أفلاطون، ولكن للطبيعة المباشرة، ومن ثم فالمحاكاة عند أرسطو بعيدة عن الحقيقة بالدرجة الأولى، ومن هنا يمكننا القول إن المواقف، والأفعال، والشخصيات، والانفعالات ينبغي أن تكون مشابهة للحياة، وليس صورة فوتوغرافية منها، فوظيفة الشاعر أو الفنان بوجه عام، هي ألا يحاكي أحداثاً تاريخية معينة، أو شخصيات معينة، أو شخصيات بنفسها، ولكن أن يحاكي أوجه الحياة في عالميتها وشمولية شكلها، والجوهر، والمثال كما تنعكس على صفحة روحه عن طريق ملاحظتها ومدارستها، فالشعر حسب أرسطو هو خلق باعتباره محاكاة للانطباعات الذهنية، وبتالي فهو ليس نسخاً مباشرة للحياة وإنما تمثل لها عن طريق اعتماد القدرة الإبداعية للفنان. طبعاً، هذا الموقف غني وجدير بالاهتمام حيث يزج بنا في دائرة السؤال والاستشكال، سيما في مسألة إعادة أرسطو النظر في فكرة المحاكاة باعتبارها جوهر العمل الفني عكس أستاذه أفلاطون، بل هي تمثلات وانطباعات ذهنية للفنان لواقعه ومحيطه الذي يعيش فيه، وهذا هو الرابط الأساسي بين الفنون الجميلة جمعاء، حيث الحديث عن الشعر هو حديث عن الترنيم والتنغيم، حيث الأصل في الموسيقى هو شعر، والشعر بدوره تمثيل للحظة واقعية لم تحدث من وجهة نظر أرسطو، ويتمثلها الشاعر باعتماده على تمثلاثه الذهنية، وأحياناً الشعر لوحده يكون تأثيره أقل ومتعته أهون، وإذا ما نقل هذا الشعر في شكل إيقاعات وترنيمات بالمعنى الموسيقي يكون تأثيره كبير في نفوس المتلقين ومتعته أعظم.

وأحب أن أقدم مثالاً من الشعر هو من اجتهادي الخاص، لكي أبين به قيمة تلاقي سحر كلمة/ الشعر مع سحر النغم/ الموسيقى في ترسيخهما لفكرة المحاكاة التي هي الخيط الناظم بينهما وبين الفنون الجميلة الأخرى، الذي ما فتئ أرسطو يتحدث عنها في كتابه "فن الشعر"، وفي نفس الوقت سنفتح بهذا المثال الحديث عن قيمة التمثيل في التجربة الفنية باعتماد على كل من موقفين حيويين في هذا السياق، وهما موقف نتشه وهيدغر.
ولكن قبل ذلك سأقدم مثالا من الشعر هو في الحقيقة قصيدة جميلة لعمر الخيام نظمت في الأصل باللغة الفارسية، وقام الشاعر أحمد رامي بمجهود جبار حيث نقلها من الفارسية إلى العربية، وحولها في شكل كتاب عنونه بـ"رباعيات الخيام"، دون أن تؤثر هذه الترجمة للقصيدة من اللغة الفارسية إلى العربية عن القصد العام الذي هو المحاكاة بمعناه الأرسطي، صراحة، هذه القصيدة لم يكن تأثيرها في نفوس قارئيها كبيراً، ولكن بمجرد ما خرجت من حيز الكلمة/ الشعر إلى حيز المقامات والموسيقى كان تأثيرها كبيراً في النفوس، وحسبنا هنا أن نذكر ما فعلته الفنانة المصرية أم كلثوم بهذه القصيدة... وإليكم بعض أبيات قصيدة رباعيات الخيام:
سمعت صوتاً هاتفاً في السحـر** نادى مــــن الغيب غفاةَ البشـر
هبوا املأوا كأس المنى قبل أن ** تملأ كأس العمــــــر كف القدر
أحس في نفسي دبيـــــــب الفناء ** ولم أصب في العيش إلا الشقاء
يا حســـــرتا إن حان حيني ولم ** يتح لفكري حل لغز القضـــــاء28

لا ريب أن الناظم عمر الخيام يتمثل في ذهنه عالماً لم يعشه، فهو يتنبأ بعالم في ذهنه بالاعتماد على قدرته الذهنية الإبداعية بمعنى الأرسطي، حيث بدأ رباعياته بسماعه صوتاً شديداً في أخر الليل ينادي، ولا أحد من الناس يعرف هذا الصوت الذي يأمرهم بالإسراع إلى العمل لتحقيق أمنياتهم قبل أن يحل بهم قضاء الله ويموتوا دون ذلك. إذن من وجهة نظرنا وبالمعنى الأرسطي الشاعر (عمر الخيام) يؤسس حسب أرسطو عالماً لم يكن، بل ما سيكون، بقدرته التمثلية الإبداعية الهائلة.
من خلال ما سبق، حاولنا أن نشرح نظرية أرسطو في المحاكاة انطلاقاً من مثال الشعر الغنائي لأحمد الرامي، ومجهوداته الجبارة في ترجمته لرباعيات الخيام. الأمر الذي يزج بنا في دائرة التساؤل من جديد عن دور المحاكاة في الموسيقى في علاقتها بالشعر، ثم علاقة هذا الأخير بنمطية الوجود الإنساني؟
لا يستقيم الجواب عن هذا التساؤل دون استحضار محطتين مهمتين في تاريخ الفن والجماليات، أقصد بالذات كلاً من الفيلسوفين الألمانيين نتشه وهيدغر، سنتساءل مع الأول حول دور الموسيقى في الحياة، ومع الثاني عن أهمية الشعر في علاقته بالوجود.

ثانياً: نيتشه ودور الموسيقى

إن الموسيقى في نظر الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche هي الشكل الأسمى للتعبير عن روح المأساة والإفصاح عنها، فالموسيقى بفضل ما تحتويه من ترنيم وتنغيم فهي ترجمة للاندفاعات الشهوية وكل محسوسات الكائن الإنساني، ومن هذا المنطلق يحق لنا التساؤل: ماذا يقصد نيتشه بالموسيقى؟
إن الموسيقى التي يقصدها نيتشه هي تلك التي تضعنا وجهاً لوجه أمام المرعب والهلامي، بمعنى هي التي نرى بها حقيقتنا وحقيقة عالمنا، حيث يقول نتشه "الوجود والعالم لا يمكن تبريرهما سوى كظاهرة جمالية فقط"29، وهذه هي الفكرة الجوهرية لكتابه مولد التراجيديا، حيث يقول إن موضوع الجمال هو المتعة بسبب مشاهدتنا للمعاناة على نطاق واسع، فمند أرسطو حسب نتشه بقيت الإجابات التي تقدم لهذا التساؤل فقط من لدن علم النفس. فنيتشه يقول: "كلما ازداد إدراكي لهذه الدوافع الكلية القدرة، الدوافع الطبيعية الكامنة وراء الفن، واكتشاف أنه يكمن فيها توق مستعر أنني مكره على الخروج باستنتاج الميتافيزيقي إن الموجود فعلا الواحدية الأزلية"30. ومن نافل القول التأكيد على الاهتمام الذي كان يوليه نيتشه للموسيقى ودورها إما في إبراز روح المأساة لدى الإغريق، أو في صيغتها الجديدة التي تسعى إلى إعادة بعثها من جديد بفضل الموسيقى الألمانية الحديثة على يد بتهوفن وفاغنر.
لا شك أن التنغيم هو أصل ومنبع الشعر ذاته، وما الشكل المقطعي سوى تنغيم، وبالتالي فإن أصل الشعر عند نيتشه هو الموسيقى، وأول شعر عرفته الإنسانية ولا سيما الإغريق هو الشعر الغنائي lyrisme، وهو في مجمله ترانيم وتراتيل وإنشاد، بمعنى آخر هو موسيقى، لما يجعلنا نطرح سؤالا لماذا تحتل الموسيقى أهمية كبرى في فلسفة نيتشه؟
لأن الموسيقى عند نيتشه هي أقدر شكل تعبيري يجمع بين الحسي وغير الحسي، أما الجدل أو بالأحرى الميتافيزيقا فقد باعدت بينهما، وأقامت بينهما هوة سحيقة، إن الموسيقى هي الشكل التعبيري الأكثر بدائية، وهي جديرة بأن تعيدنا لأكثر بدائية، وجديرة بأن تعيدنا إلى المنسي إلى الطبيعة إلى الرعب، إلى ما ليس موضوعاً للتفكير.

وفي الأخير يمكننا أن نخلص إلى أن الفن والموسيقى عند نيتشه، هما اللذان يشكلان قطب الرحى في فلسفته التي أعادت النظر في كل الأشياء، فالفلسفة من وجهة نظر نيتشه هي مطالبة لكي تصير فناً يسعى إلى فهم نمطية الحياة.

ثالثاً: هيدغر أهمية الشعر وعلاقته بالوجود

يؤكد محمد الطواع في تمهيد كتابه "شعرية هيدغر" مقاربة أنطولوجية لمفهوم الشعر الذي قدم له الأستاذ عبد الكريم غريب، بأن الحقيقة في بعدها تقال شعراً كما تقال فناً وفكراً لأن الحقيقة ليست معادلات رياضية أو نسباً إحصائية فقط، الحقيقة انفتاح وفن ونداء من الكينونة. ومن هذا المنطلق "إن الحقيقة تحدث في العمل (الفني)، وذلك حين يتم فيه تفتح الموجود من حيث ماهيته وحالته التي هو عليها"31، ومن هنا الحاجة إلى أذن تكون غالباً للشاعر والمفكر والفنان، من أجل استماع رفيع للحقيقة بما هي حقيقة الوجود؛ لأن الشعر هو متنفس الكائن، ودوره حيوي بالنسبة لهيدغر ففيه تحدث حالة الاستماع لنداء الحقيقية، والتنقيب عن ما هو ثاو فيه من أجل اكتشاف حقيقته التي هي استذكار واسترجاع لكينونته المنسية.

وللانفلات كذلك من قبضة التأويل التقني للفكر دعا هيدغر Heidegger إلى الاستمساك في التفكير في الشعر باعتباره ينبوعَ كل فن وإبداع، ولهذا الأمر يلقب محمد الطواع، هيدغر، بمفكر الشعر بامتياز في هذا العصر.

يشير هيدغر إلى أن علاقة الكائن بالعالم لا تخلو من الأبعاد الفنية يقول هيدغر في هذا الصدد: "إن وضع العالم وإنتاج الأرض ملمحان أساسيان من ملامح العمل الفني"32. ومقاربة هيدغر للشعر تستبعد تجربة الناظم وشخصيته في الحياة، وهي لا تلتفت إلى مستويات الخطاب الشعري، التي تتعلق بالبناءات الشعرية، أو بالتفعيلة والقافية، تذكرنا هذه القضية بأرسطو الذي لا يعطي أية أهمية للأعاريض والبناءات الشعرية، كما بينت ذلك سالفاً، كذلك هيدغر لا يعطي أية أهمية لتمثل الصور والرؤى، حيث نجد في نظره أن المتوقف عن هذه المستويات والجوانب الأخرى من القول الشعري، لا يستطيع أن يغادر التقليد الميتافيزيقي الذي بدأ مع أفلاطون واكتمل مع نتشه، الذي يعتبر الشعر هو تجربة للشاعر، وامتداداً لدواخله ورؤيته للعالم.

هيدغر إذن، يعتبر دور الشاعر هو دور المفكر أو الفنان، وهذا الدور يكمن في الاستماع للنداء الحقيقة من حيث هي حقيقة للوجود، والعمل الفني هو انفتاح لهذا الوجود، وانفلات من قبضة التأويل التقني للفكر.

ختـام القول

من خلال ما سلف، حاولنا قدر المستطاع أن نقف عند إشكال المحاكاة باعتبارها جوهر العمل الفني عند أرسطو من خلال كتابه "فن الشعر"، ولاسيما تلك الإشكالية المرتبطة بجدلية الفن والمحاكاة، والوقوف كذلك على أهمية المحاكاة في تكامل الفنون الجميلة فيما بينها، وقد بينا هذا الأمر من خلال توظيفنا لمثال من الشعر الغنائي وهو قصيدة الشاعر أحمد رامي، الأمر الذي جعلنا نتساءل عن دور الموسيقى في الحياة مع نتشه، وكذلك علاقة الشعر بالوجود مع هيدغر.
 


مصادر ومراجع
1. أرسطو: فن الشعر، ترجمه وشرحه وحقق نصوصه عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت-لبنان.
2. أحمد رامي. رباعيات الخيام، دار الشروق، الطبعة الأولى 2000.
3. فريدريك نتشه: مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد، الطبعة الأولى 2008.
4. مارتن هيدغر: نداء الحقيقة، ترجمة وتقديم عبد الغفار المكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة 1977.
هوامش
1. يشرحه الأستاذ عبد الرحمان بدوي في هامش الصفحة 3 من كتاب فن الشعر بأنه نشيد يتغنى به في أعياد باخوس، إله الخمر؛ وقد نمى وتطور حتى أصبح فناً شعرياً قائماً برأسه، وهذا اللفظ هو مجهول الأصل، وإن كان من المؤكد تقريباً أنه ليس من أصل يوناني، وكان النشيد في الأصل موضوعاً لتتغنى به الجماعة من السكارى على هيئة جوقة (كورس)، وأخذ صورة على يد أريون Arion الكورنثي (حوالي سنة 600 ق.م)، فأصبح له موضوع محدد، وتتغنى به جوقة منظمة.
2. أرسطو: فن الشعر، ترجمه وشرحه وحقق نصوصه عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت-لبنان، الصفحة: 4.
3. نفس المرجع، نفس الصفحة.
4. نفس المرجع، الصفحة: 5.
5. نفس المرجع، نفس الصفحة.
6. نفس المرجع، نفس الصفحة.
7. نفس المرجع، الصفحة: 8.
8. أرسطو: فن الشعر، ترجمه وشرحه وحقق نصوصه عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت-لبنان، الصفحة: 10.
9. نفس المرجع، الصفحة: 12.
10. نفس المرجع، نفس الصفحة.
11. نفس المرجع، نفس الصفحة.
12. نفس المرجع، الصفحة: 13.
13. نفس المرجع، نفس الصفحة.
14. نفس المرجع، الصفحة: 14.
15. نفس المرجع، نفس الصفحة.
16. نفس المرجع، نفس الصفحة.
17. أرسطو: فن الشعر، ترجمه وشرحه وحقق نصوصه عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت-لبنان، الصفحة: 16.
18. نفس المرجع، الصفحة: 18.
19. نفس المرجع، الصفحة: 20.
20. نفس المرجع، نفس الصفحة.
21. نفس المرجع، الصفحة: 23.
22. نفس المرجع، نفس الصفحة.
23. نفس المرجع، نفس الصفحة.
24. أرسطو: فن الشعر، ترجمه وشرحه وحقق نصوصه عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت-لبنان، الصفحة: 26.
25. نفس المرجع، نفس الصفحة.
26. نفس المرجع، نفس الصفحة.
27. نفس المرجع، الصفحة: 28.
28. أحمد رامي: رباعيات الخيام، دار الشروق، الطبعة الأولى 2000، الصفحة: 33.
29. فريدريك نتشه: مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد، الطبعة الأولى 2008، الصفحة: 16.
30. نفس المصدر، الصفحة: 25.
31. مارتن هيدغر، نداء الحقيقة، ترجمة وتقديم عبد الغفار المكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة 1977، الصفحة: 183.
32. نفس المصدر، الصفحة: 186.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها