انتحار!

محمود مصطفى حلمي


كان الهدوء يسود كل مكان، وسواد الليل ينشر دثاره فوق البنايات والشوارع، سكنت أصوات الطيور التي كانت تختبئ فوق أغصان الأشجار، وقفتْ على سطح بناية عالية، كانت أعلى البنايات في الحي، رفعتْ بصرها نحو السماء، تأملتها ببطء، تحدثتْ مع نجومها المتناثرة فوق صفحتها بعشرات الكلمات التي لم يستطع لسانها النطق بها، كانت دموعها تنحدر على وجنتيها كمياه نهر جارٍ بسرعة فائقة، تقدمتْ للأمام في خطوات حذرة حتى ارتقت سور البناية الطرفي، ولحسن حظها كان ارتفاعه منخفضاً.

نظرت إلى الأسفل، كان الارتفاع شاهقاً، تأملتْ طول المسافة حتى القاع، كانت طويلة ومؤلمة، لكنها لم تكن أكثر ألماً مما رأته في أيامها الأخيرة، هاجمتها ذكريات موحشة، صرخ قلبها، استغاث عقلها وانتفضت جوارحها، غاصت تحت سطح بحر الماضي الذي بات يراودها كالوحش الضار.

وسط المروج الخضراء كانا يلعبان سوياً، يمرحان، يتسابقان ويتضاحكان، كان من يفوز بالسباق منهما يطلب من الآخر طلباً واجب النفاذ، دائماً ما كان يطلب هو منها أن تُقبّل خده حين يفوز، ودائماً ما كانت ترفض طلبه حياءً، وبعد إلحاحه كانت تأمره بإغماض عينيه ثم تفرّ هاربة من أمامه ومن طلبه؛ كان حبيبها، رفيقها، كان كأبيها الذي عوضها بحنانه حرمانها من أبيها الحقيقي، كان صديقها الذي أسرّته بكل همومها، وحبيبها الذي نطق قلبها بحوراً من الأشعار هياماً فيه وعشقاً له.

يوم أن جمعهم بيت واحد كان قلبها يخفق بعنف، رغم أن تلك اللحظة كانت أعظم أمانيها إلا أنها كانت خائفة منه، أغلقت باب الغرفة وراءها وتركته بالخارج، طرق الباب مراراً فلم تستجب أو تفتح له، كانت طرقاته تشعرها بالخوف الممتزج بالسعادة التي كانت تغمرها رغم ذلك، أخبرته أنها خائفة، ووعدها أنه لن يمسها حتى تطمئن، فتحتْ له بعد طول انتظار فتبسم لها، احتضنها برفق وربت على ظهرها، ليلتها نامت بحضنه والشعور بالأمان يغمرها؛ كأنها متحصنة خلف أقوى حصون الدنيا.

لم تذق للحياة طعماً إلا معه، ولم تشعر بسهام الحب تخترق أوصالها إلا من سماع كلماته، ولم تعشق الغزل كمثل عشقها لتغزّله فيها، أحبته كطفلة لفظتها الدنيا من جنة الحنان فلم تجد سواه يفتح لها ذراعيه مستقبلاً لها بابتسامة تضيء الكون كأنه البدر في تمامه، حتى الهواء كانت تتنفسه من خلاله، رائحة نفسه كانت تنعشها، تريحها، تسعدها، كانت تتنسمها فتشعر أنها صارت طائراً يحلق في علياء الكون.

لكن الموت هو اللص الأكبر في تلك الحياة، يسرقنا على غفلة منا، ينزع منا أحبابنا دون أن ينذرنا أو يستأذننا أو يمهلنا لنشبع منهم ولو بقليل، وهكذا كان قدرها، أن يسرقه الموت منها على غفلة منه ومنها، ومن الحب الذي ربط قلبيهما معاً.

بعد مرور عام على لقائهما تحت سقف بيت واحد، وفي ذكرى زواجهما الأولى، ذهب ليحضر لها الزهور التي طالما أحبتها، ذهب وطيور الحب ترفرف حوله ونبضات قلبه تشدو معها بأجمل الألحان، لكن القدر كان يخبئ له الذهاب أبعد من ذلك، غيّبه الموت دهساً تحت عجلات سيارة حين عودته، تمدد جسده على الأرض، سالت دماؤه المعطرة بعشقها، وتناثرت الزهور من حوله كأنها عاهدته على أن تغيب معه.

وصل خبر موته إليها كسيف بارد النصل انغرس فجأة في سويداء قلبها، لم تنجح عبارات العزاء والمواساة في إخماد نار قلبها، ولم تُجد أي محاولة لمن حولها في إعادتها إلى الحياة مرة أخرى، منذ اللحظة الأولى التي سمعت فيها خبر فراقه للدنيا وقد ماتت روحها معه، حتى لو كانت أنفاسها ما زالت تتردد بين جوانب صدرها، أو كان قلبها مستمراً في ضخ الدماء إلى أنحاء جسدها إلا أن حياتها أضحت باردة كالثلج من بعده، بلا قيمة أو شغف أو روح، حاولتْ العودة للحياة ففشلت، قاومت اليأس فهُزمت، لم يبق أمامها من طريق سوى اللحاق به بالفعل...روحاً وجسداً!

وقفتْ على سور البناية تتأمل نوافذ البنايات المضيئة من حولها، كانت تعلم أن وراء كل نافذة منها ألاف من الحكايات والمشاعر والأوجاع، قد نرى نافذة مضيئة فيبهرنا ضوءها، ونظن أن وراءها الكثير من السعادة، لكن على العكس من ذلك، قد تشعل تلك النافذة ضوءها في وجوهنا لتستر ما وراءها من آلام وأوجاع، قد تُعذب أصحابها حتى تفقدهم الحياة، رغم أن قلوبهم ما زالت تنبض.

أغمضت عينيها فرأته يبتسم لها فابتسمت له، اقترب منها، وقف في مقابلها وأخبرها بحبه لها، وضع يديه على كتفيها وقرب فمه من أذنها ثم همس إليها بشيء ما، بعدها ابتعد عنها وهو يضحك ويلوح لها بيده.

فتحت عينيها والدموع تنحدر منهما بغزارة، وضعت يدها على بطنها المتكورة وتحسستها برفق، تذكرت أنها تحمل في أحشائها قطعة منه، أعادت التفكير في إنهاء حياتها، كان ذلك يعني قتلها لوليده الصغير معها، كيف ستلقاه في الآخرة بعد فعلتها تلك، وكيف ستلقى ربها وهي تعترض بفعلها على قَدَره لها، تذكرتْ أن الله يراها ويسمع أنين قلبها، تذكرتْ أن الله ينبت الآن في حشاها من قد يكون نسخة من زوجها ويعوضها غيابه، تذكرت أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأنها ستلقاه حتماً في حياة الخلود التي لن يكون للموت فيها مكان.

كفكفت دمعاتها، تراجعت للوراء ثم قررت أن ترضى، ترضى مهما كان الرضا صعباً، فحتما حلاوة اليقين في الله وفي اللقاء ثانية ستخفي مذاق الرضا مهما كان مذاقه مراً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها