اليَمنُ.. وألفُ ليلة وليلة في السّينما

تيمور العزاني

اليمن بلد الحضارات القديمة والمدن الضّاربة في التاريخ، تناولتها الأساطير القديمة والحكايا الشعبية، ونقلت عنها مدونات الرحالة كل نادر وشائق، وذكرتها الكتب المقدسة كالتوراة والقرآن. ومع ارتباط نقل تراث الأدب العربي إلى لغاتٍ متعددة على أيدي المستشرقين الأوروبيين، ونقل حكايا ألف ليلة وليلة التي أبهرت الغرب بحكايا الشرق الماتعة، وقصص الأميرات الجميلات وملوك الجن، والمدن الخيالية والأسرار المنسية، وما حوته من ذكر لبعض مدن اليمن كصنعاء وعدن كما في حكاية (الحكماء أصحاب الطاووس والبوق والفرس)، وحكاية (مسرور التاجر مع معشوقته زين المواصف) وغيرها؛ فراحت أفئدتهم تَرِفُّ إلى "البلد الذي يحمل أحد الأسماء السحرية التي تسمى بها الأماكن التي تعرفها أشواقنا فقط. إلى الأرض التي سماها الإسكندر (EUDAIMONO ARABIA) لأنه فشل في غزوها، وكان الرومان يسمونها (العربية السعيدة) (ARABIA FELIX)، وسماها المستر فون هافن في رسائله الشيقة باللغة الفرنسية (I'ARABIE HEUREUSE)..)1. وظلت متمسكة بمجدها القديم وشهرتها الغابرة، "ولم يستطع أحد أن يمحو تلك الأسطورة، أسطورة العربية السعيدة. فهي رغم كل شيء تتردد بين الأنقاض في زهوٍ كأغنيةٍ لقُبرةٍ فوق اللهيب... ولم تقدم للعالم رمزًا للرعب والمخاوف، بل ظلت رمزًا للجنة على الأرض"2.

لقد شغف الأوروبيون والإيطاليون على وجه الخصوصِ باليمن وتراثها وحضارتها، فقد كان الإيطاليون أول من اتصل من أهل الغرب بالشرقيين من أمثال (لودفيك دي فارتيما)، الإيطالي الذي قام برحلته إلى الشرق من عام 1501 حتى عام 1508م، والذي كان أول أوروبي وضع دليلًا قيمًا عن أسفاره في مصر والشام والحجاز واليمن3، ولعل ما نقلته لنا رحلة الإيطالي (رينزو مانزوني) إلى صنعاء والتي كما يذكر في كتابه عنها أنها كانت تحتضن الروس واليونانيين الذين يقصدونها؛ فقد خيل إليه وهو في حي المقاهي التركية والدكاكين اليونانية -كما يقول- أنه في مدينة أوروبية4. يوضح لنا هذا مدى المكانة التي حظيت بها اليمن كمدينة للخيال تجسد العالم الغرائبي الذي تنقلنا له حكايا ألف ليلة وليلة، تلك الليالي المليئة بالأسرار والعجائب، واهتمام الرحالة والمستشرقين الكبير بها وتقاطرهم إليها.

لكن؛ برغم هذا الشغف بالليالي العربية التي جُسدت في كثير من الأعمال الأدبية والموسيقية، والسينمائية والفنون التشكيلية وغيرها، لم يخلُ هذا التجسيد من الوقوع في فخ التنميط وحصر الشخصية العربية في قالب حياة البذخ المليئة بالغناء والجواري والنطع والسيف؛ معربين "عن العداء الغربي التقليدي للشرق والخوف منه"5، والظاهرِ بجلاء في كتابات المستشرقين ورحلاتهم عن الإنسان العربي؛ ولأن اليمن جزءٌ لا يتجزأ من شبه الجزيرة العربية ثقافةً ولغةً فقد نالها النصيب الأوفر من هذا التنميط في السينما، إلى جانب مدن عربية شهيرة أخرى كبغداد والقاهرة وغيرهما، ولعلنا لا نبالغ كثيرًا باعتماد هذا التصور؛ فما جسدته السينما في القرنين الماضيين عن اليمن هو ما كرس هذه النظرة عن بلاد العجائب، والليالي العربية التي تحكيها شهرزاد لأميرها شهريار؛ لتُأجل موتها وتنقذ من تستطيع من بنات مدينتها، وتنقذ نفسها.

∵∴ فيلم (​Arabian Nights (1974 ∵∴

بدأ مشوار اليمن في السينما مع فيلم "Arabian Nights 1974"، الذي صُوِّر في اليمن بجمهوريتيه آن ذاك "الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية" والنيبال وأثيوبيا وإيران، وحصل على الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي سنة 1974 وجائزة أفضل تصوير سينمائي، وأفضل تصميم أزياء سنة 1975، وهو من إخراج الإيطالي (بيير باولو بازوليني(، وتوزع تصوير الفيلم في المناطق اليمنية -التي كان لها نصيب الأسد من المَشَاهِد- بين "صنعاء القديمة، وشبام كوكبان، وتعز، وزبيد، وسيئون". الفيلم صور الأسواق والأزياء اليمنية على حقيقتها، مع بعض التعديلات في ملابس الشخصيات الرئيسة؛ إذ يمكننا القول إن الأزياء كانت واقعية لحدٍ كبير فالجنبية اليمنية حاضرة كجزء رئيس من أزياء الممثلين، وترى الناس متكئين في أسواق زبيد وعلى رؤوسهم كوفية الخيزران التي يشتهر بها أهل تهامة. ويرجع سبب انبهار النقاد والمشاهدين بالفيلم وأزيائه للاختيار العشوائي، أو التصوير بجمهور حقيقي لا تربطهم أي صلة بالتمثيل، ويمكن أن ترى ابتساماتهم العفوية في مشاهد كثيرة، والتي كانت تثيرها تصرفات الشخصيات الرئيسة وربما لغتهم الغريبة، وستجد في مشاهد الأسواق والتجمعات اليمنية حوارات جانبية باللهجة الصنعانية، أو تسمع زفة عروسٍ قديمة لم نعد نسمعها كثيرًا الآن، وستسمع أحد الشخصيات اليمنية التي كان لها دور، كشخصية ثانوية في إحدى قصص الفيلم المتعددة يدندن بأغنية فيروز "يا حمام يا مروح بلدك متهني" مع بعض التصحيف فيها! وأيضًا تم دبلجة صوت الممثل الإيطالي بصوتٍ يمني يدندن بواحدة من أغاني الدان الحضرمي.

حرص منتجو الفيلم على شكر اليمن بجمهوريتيه في "تتر البداية"، مع أن ذكر اليمن لم يرد في سيناريو الفيلم الحواري ولا اسم مدينة فيها، لكن المدن يمنية والناس يمنيون باستثناء الشخصيات الرئيسة في الفيلم، والأسواق أيضًا يمنية (سوق الملح، وسوق الشنيني) اللذان لم يُذكرا بالاسم، لكن دلت عليهما مشاهد الفيلم ووصفه، وأماكن التصوير، وأيضًا الكلام الجانبي، والحوارات التي سُجلت في زحمة الأسواق، والمقاهي باللهجة المحكية في تعز وصنعاء وزبيد وسيئون، بل حذفت الحوارات الحقيقية أثناء المونتاج لتضاف عليها أصوات ممثلين إيطاليين بدلًا عن الحوار الأصلي. واستعانوا بأطفالٍ يمنيين في بعض المشاهد لتأدية أدوار ثانوية. داخل الفيلم نرى شبام كوكبان بناطحاتها المُنيفة، وصنعاء التي لم يزحف إليها بعد التوسع العمراني الذي خنق سورها وأزال البساتين والأراضي الزراعية المحيطة بها، ونرى زبيد أيضًا بكامل سحرها وأناقتها.

لا يُعد الفيلم أول فيلم جسد الليالي العربية (ألف ليلة وليلة)؛ فأول عمل سينمائي جسدها كان للمخرج الفرنسي (جورج ميلييس Georges Méliès) في فيلمه القصير (قصر ألف ليلة وليلة)، ولم يكن لليمن أي ذكر فيه، لكن هذا الفيلم (Arabian Nights 1974) هو أول عمل سينمائي تكون اليمن مادته الأساسية، وساهمت مدنها الفريدة، وأهلها في انتشاره وشهرته، وكانت سببًا رئيسًا لإعجاب المتلقي الغربي به. وتجدر الإشارة إلى أن المخرج )بيير باولو بازوليني Pier Paolo Pasolini( كان قد أخرج قبلها بثلاث سنوات فيلمًا وثائقيًا قصيرًا عن صنعاء سماه (Le mura di Sana'a)، والتي تعني أسوار صنعاء، وقدم فيه لليونيسكو دعوة للحفاظ على صنعاء كواحدة من أقدم العواصم التاريخية.

غابت شهرزاد وأميرها عن فيلم ألف ليلة وليلة، ولم يحضر شخص الراوي ولا صوته، فالفيلم يدخل مباشرة في جو الحكاية التي يبدو أنها مستقاة من حكاية "أبي محمد الكسلان" بدون مقدمات، وقد تجد بعض الغرابة في انتقالاته بين المشاهد، وعرضه للقصص الأخرى، فالغرض منها ليس توصيل حكاية بقدر ما هو إشباعٌ بصري بكل غريب عن الشرق الذي راجت حوله الأساطير الكثيرة. لكن تظل أهم النقاط السلبية في الفيلم مبالغته في المشاهد الخادشة.
 

∵∴ فيلم (Arabian Nights (2000 ∵∴

ليس آخر فيلم ينتج عن الليالي العربية ولن يكون الأخير؛ فالليالي العربية ليالٍ خالدة لا يخفت بريقها، وتعلُّق الأدباء الغربيين بها كبيرٌ جدًا، وقد تم تجسيدها في أعمال كثيرة تفوق الحصر عربيًا وعالميًا، هذا الفيلم ليس كسابقه من حيث التصوير، فلم يصور في اليمن، ولم تظهر فيه مدن يمنية حقيقية، ولا أسواقَ كذلك، لكن كان هناك ذكر لليمن البعيد في واحدة من القصص التي تحكيها شهرزاد، التي لم تغب عن الفيلم الذي بدأ بدايته المعروفة لكل من قرأ ألف ليلة وليلة، ابنة الوزير تتزوج السلطان الهارب من الخيانة بقتل كل عروس يتزوجها صباح اليوم التالي، لكن اللافت للنظر هو تجسيد اليمن والحِكاية عنها ببلد الأساطير التي تسبق حتى وعينا بالزمن. ليس واضحًا أين مصدر الحكاية الأخيرة في الفيلم داخل الحكايا الأصلية في الكتاب، على عكس القصص السابقة كقصة علاء الدين ومصباحه السحري، وعلي بابا والأربعين حرامي وغيرها، فالقصة تحكي عن ثلاثة إخوة يتعاركون دائمًا ليثبت كل واحد منهم جدارته أمام أبيه؛ ليكون خليفته في حكم اليمن، وبعد محاولات الأب الكثيرة للتقريب بينهم يشعر بالعجز فيقرر أن يرسلهم في مغامرة بعيدة ليذهبوا فُرادى ويعودوا جماعةً بعد عام، لتنتهي القصة في جو من الود والتعاون بين الإخوة، والذي استمر لبقية حياتهم. قدم الفيلم صورة اليمن بلدًا صحراويًا قاحلًا، فلا يكاد يرافق الإخوة في رحلتهم إلا الرمل اللا متناهي والقوافل السادرة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك أفلامًا عديدة من ثقافات مختلفة كانت اليمن قصةً رئيسة أو ثانوية فيها، لكن هذين الفيلمين ارتبطا بإرثنا العربي وبثقافتنا وأرضنا، وبليالينا التي لا تشبه الليالي.


الهوامش: 1. توركيل هانس، من كوبنهاجن إلى صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني-صنعاء، (مقدمة الدكتور المقالح) ص: 6. | 2. المرجع السابق، ص: 206. | 3. سلفاتور أبونتي، ترجمة طه فوزي، مملكة الإمام يحيى رحلة في بلاد العربية السعيدة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص: 5. | 4. رينزو مانزوني، رحلة إلى صنعاء، مطبوعات الصندوق الاجتماعي للتنمية، صنعاء، ص: 161. | 5. إدوارد سعيد، المستشرقون، دار بنجوين العالمية، ص: 268. // https://www.imdb.com

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها