جان بول سارتر.. وسؤال ما القراءة؟

د. لعزيز محمد


استعمل توردوروف تعبير (النقاد الأدباء) لِيَسِم به أعمال ثلاثة نقاد فرنسيين، هم: جان بول سارتر، وموريس بلانشو، ورولان بارث تمييزاً لهم عن بقية النقاد، وذلك لأن أعمالهم النقدية تعتبر في صميمها نصوصاً ذات قيمة فنية وجمالية عالية بغض النظر عن مضامينها، فهي وإن كانت نصوصاً نقدية؛ فإنها تعد في الآن نفسه نصوصاً أدبية بالمعنى العالي والرفيع للكلمة، بل نجدها في أحيان كثيرة تتجاوز في أهميتها النص المنقود1.
 

في هذه الورقة التي نخصصها لأهم كتب الفيلسوف الوجودي والأديب والناقد والمسرحي سارتر "ما الأدب"؟ ومحاولاته الإجابة عن هذا السؤال الإشكالي والمؤرق لكل المؤلفين للأجناس الأدبية المختلفة، حاولنا تتبع -في ثنايا الكتاب المذكور- ملامح نظرية وإرهاصات فكرية لما سيتبلور لاحقاً على يد مدارس أدبية أخرى، فيما سيعرف بـ"فعل القراءة" خصوصاً عند مدرسة كونسطانس الألمانية على يد كل من إيزر وياوس. وذلك بعدما تبين ونحن نعيد قراءة كتاب شيق لا يمل القارئ من إعادة قراءته كلما سار به الزمن قدما إلى الأمام، أن طروحات سارتر في الموضوع متقدمة جداً من خلال حديثه عن صمت النصوص، ومشاركة القارئ في عملية إنتاج المعنى، وهي كلها مَياسِمَ الانتباه لدور القارئ في تحيين معاني النصوص الأدبية.

الأمر الذي يؤكد لنا أن سارتر كان منظراً لمفهوم القراءة وهو يكتب فصول كتابه: ما الكتابة؟ ولماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟

وبغض النظر عن اختلاف منطلقاته الفكرية والنظرية في تحديد هذا المفهوم، فإن عمل سارتر اعتبر مقدمة لمفاهيم جمالية التلقي، واستجابة القارئ، وأفق الانتظار وغيرها مما كانت آثاره إرهاصات أثرت كثيراً في بلورة طروحات وتصورات مدارس لاحقة الشيء الذي يؤكد أن التراكمات الكمية تؤدي حتماً إلى تغييرات نوعية، وأن النظريات اللاحقة لا تنبت من فراغ خصوصاً في المجالين النقدي والإبداعي.
 

مثل مؤلف سارتر "ما الأدب؟" دراسة تاريخية للتلقي الأدبي من خلال إجابته عن سؤالين كبيرين هما: لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ من ثمّ كانت القراءة والقارئ قد شكلا الغاية القصوى من الكتاب برمته لأن تركيزه على الفاعلية القرائية للمكتوب وعلى تلقي الكتابة، قد كانت مدار حديثه في غير ما موقع من هذا الكتاب.

فالأدب في نظر سارتر يجب أن يوفر تواصلاً بين المبدع والمتلقي، فإذا كان القارئ هو الذي يحدد معنى المؤلف؛ فإن الكاتب نفسه يحث القارئ على ممارسة حريته أثناء عملية القراءة، ويعد هذا الفهم جديداً للأدب ولوظيفته ابتعد به سارتر عن الفهم الماركسي السائد آنذاك، ولذلك نجده يؤكد على أن الواقعية الاجتماعية للأدب لن تؤدى إلا إلى افتقار الأدب والحد من فعاليته، لأنها فهمته فهماً بسيطاً وساذجاً يقول سارتر: "قد كان خطأ الواقعية في اعتقاد أصحابها أن الواقع ينجلي بالتأمل فيه، وأنه يمكن تبعاً لذلك تصويره تصويراً لا تحيز فيه، وكيف يكون هذا ممكناً ما دام التحيز في الإدراك نفسه، وما دامت تسمية الأشياء في ذاتها يضمن تغييرها"2.

وهذا المنظور شأنه شأن باقي الوجوديات يسعى إلى رفض القيم السائدة، ومن ضمنها القيم الأدبية، لذلك يخرج سارتر النص الأدبي من سلطة التقنين والضبط الصارمين إلى سلطة القراءة التي تؤكد أن القارئ كلما كان تَوّاقاً إلى تغيير العالم الذي يقرأ، كان هذا العالم الفني أكثر حيوية ودينامية3، وهو يعتبر عملية الاستهلاك في الأدب – كما هو الأمر في كل الأنواع الإنتاجية الأخرى – جزءاً لا يتجزأ من عملية الإنتاج نفسها، وبموجب هذا التصور تتحقق جمالية الأدب بواسطة العملية العقلية التي تسمى "قراءة".

إن مفهوم القراءة عند سارتر مفهوم متحول وغير ثابت ينسجم ومنظوره للإبداع الأدبي في شموليته، لذلك نجده يشدد على هذا المفهوم حينما اعتبر قراءة عمل معين إحدى الأبعاد الأساسية المكونة للعمل نفسه. وليست في صميمها واقعاً خارجياً عن الأدب ما دام العمل الأدبي "خذروفاً عجيباً لا وجود له إلا في الحركة، ولأجل استعراضه أمام العين لا بد من عملية حسية تسمى القراءة، وهو يدوم ما دامت القراءة، وفيما عدا هذا لا يوجد سوى علامات سود على الورق4، ويفهم من هذا القول أن العمل الأدبي الذي يدور في حركة مستمرة بين المؤلف والقراء لا يكون مكتملاً إلا بتصور النص في علاقة مع قارئه الذي يؤثر فيه ويعيد خلقه؛ لأنه في غياب هذا التصور سيظل هذا النص ناقصاً ومخلاً بتكاملية عناصر العملية الإبداعية من بدايتها إلى نهايتها.

لقد ظل سارتر يربط الأدب بالحرية الإنسانية: حرية الكاتب فيما يكتب، وحرية القارئ فيما يقرأ5 بعيداً عن كل تقييد مهما كانت طبيعته، من أجل تشييد أعمال أدبية تتسم بالحركية والدينامية، أكثر من ذلك ذهب سارتر إلى أن حركية العمل الأدبي لا تتحقق بواسطة القارئ وحسب، ولكنها تتحقق أيضاً بواسطة اللغة نفسها التي تبرز العمل الأدبي إلى الوجود، وعلى الرغم من ذلك فإن العمل الأدبي وإن كان يبرز من خلال اللغة، فإنه سرعان ما يتجاوزها ما دامت عملية القراءة عملية تفاعلية بين النص وقارئه.

وبموجب هذا التحديد نجد أدباء وكتاب الوجودية يعمدون إلى عرض مواقفهم في صورة مشكلة ذات شعب متعددة، الشيء الذي يتطلب من أجل فهم أدبهم مشاركة القارئ، ويعني هذا أن هؤلاء يأبون أن يقدموا للقارئ طعاماً مهضوماً بل يتركونه أمام الموقف موزع الفكر، في اتجاهات ومتاهات نفسية واجتماعية مروعة متعددة ليهتدي داخلها بنفسه، ولذلك فإن القارئ من هذا الصنف يعتبر قارئاً مخترعاً ومكتشفاً هو الآخر ما دام هذا الاختراع الجديد الذي وصل إليه يساوي في جدته وأصالته الاختراع الأول الذي قدمه المؤلف من خلال عمله الأدبي6. لقد أكد سارتر أن الجمهور يظل في حالة ترقب للعمل الأدبي، وهذا الترقب هو الذي يجلي الحياة التقديرية والممكنة لهذا العمل، لأنه قبل النشر موجود بالقوة، وبعد النشر موجود بالفعل، ومن ثمّ فإن القيمة الحقيقية التي يكتسبها العمل تكون رهينة بالقارئ وبأشكال تلقيه، لأن كل نص أدبي يشيد من معنى جمهوره المفترض، ويتضمن صورة عن من كتب من أجله، ولأن كل محاولة يقصد بها الكاتب إلى استبعاد قرائه تعد خطراً يهدده في فنه نفسه7. إن القارئ عند سارتر لا يستطيع اكتشاف العالم بالعمق الذي صوره فيه الكاتب إلا بفضل البحث في هذا العالم وبواسطة سبر أغواره، حيث ينشأ لديه رد فعل إيجابي أو سلبي يتمثل في "سخطه أو إعجابه"8. مع العلم أن ردة الفعل هذه ينبغي أن تتجاوز اللغة ونظامها، حتى وإن كانت هي الأداة التي يتبدى بواسطتها العمل الأدبي؛ لأن المواضيع الأدبية لا تتضح إلا بالصمت الذي يصادف القارئ أنواعاً منه في أجزاء الأعمال الأدبية، وإذا كان المؤلف يغفل عن عمد تفصيل أنواع متعددة من الصمت، فإن القارئ عليه أن يتجاوز دائماً حدود ما يقرأ؛ لأن الكاتب يكشف بعض مظاهر العالم ويستفيد مما يعلم القارئ ليوصل إليه ما لا يعلم9. ويعني هذا أن الكاتب يضع أمام القارئ معالم هادية له، إلا أنها مفصولة عن بعضها تنتظر القارئ بعد ذلك كي يركب أجزاءها.

إن القراءة بناء على هذا التحديد؛ هي عملية خلق من القارئ بتوجيه من المؤلف، فالمواقف والمشاعر وردود الأفعال الموجودة في العمل الأدبي ليست سوى مواقف ومشاعر، وردود أفعال القارئ الذي تثيره الحروف والكلمات والجمل، والتي يعتبرها سارتر "فخاخا" تورط القارئ، وتجعله يفكر في حل مغاليقها وإدراك دلالاتها وأبعادها.

إن جودة العمل الأدبي في نظر سارتر لا تتحقق إلا بقدر المستوى الدقيق لطاقة القارئ الذي يخلق ما يقرأ10، وهذا ما يجعلها تتميز عن الأعمال الرديئة. وإذا كانت هذه الأخيرة هي التي تهدف إلى استجلاب إعجاب القارئ بتملق عواطفه؛ فإن الأعمال الجيدة هي بمثابة مطلب ينشده الكاتب من القارئ انطلاقاً من عقيدته، لكن ذلك لا يتأتى له إلا بفضل اللذة النفسية التي يريد منحها لقرائه، وهي ما يطلق عليها سارتر اسم "الطرب الفني" الذي لا يفترق عن "الوعي الفني" للقارئ11؛ لأنه بمجرد ظهور وتحقق هذا الطرب يكون العمل الفني قد اكتمل وبلغ غايته.


هوامش: 1. تزفتان تودوروف "النقد ونقد النقد"، إعداد وترجمة هاشم صالح، الفكر العربي المعاصر، 34، 1985، ص: 32.┇2. جان بول سارتر "ما الأدب؟" ترجمة محمد غنيمي هلال، مكتبة الأنجلو المصرية. د ط. 1971. ص: 71.┇3. المرجع نفسه، ص: 71.┇4. المرجع نفسه، ص: 48.┇5. أنور المعداوي "الأدب الملتزم" مجلة الآداب، ع 4و5 السنة 28 أبريل ماي 1980 ص: 41.┇6. المرجع نفسه، ص: 52.┇7. المرجع نفسه، ص: 74.┇8. المرجع نفسه، ص: 73.┇9. المرجع نفسه، ص: 85.┇10. المرجع نفسه، ص: 55.┇11. المرجع نفسه، ص: 68.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها