جدلية الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا

محمد الدحاني


تسعى هذه المساهمة إلى رصد مسار تطور الفكر السوسيولوجي منذ بواكره الأولى في الفلسفة والتفكير الاجتماعي، والوقوف على أهم المنعطفات المعرفية والمنهجية، وما صاحبها من سجال وتقاطب مختلف الآراء والمواقف حول السوسيولوجيا وقضاياها المركزية، وخلفياتها المعرفية والعملية أو المنهجية، وهي في الحقيقة تتمحور حول إشكالية علاقة الفرد بالمجتمع.
 

إن الخوض في هذه الإشكالية، هو بكيفية أو بأخرى، مساءلة موضوع علم الاجتماع، وقد اختلف رواد هذا الحقل التخصصي حول طبيعة موضوعه، فدوركايم وأتباعه الذين يتبنون التعريف الترابي أو الحقلي للسوسيولوجيا1، يعتبرون أن المجتمع هو موضوع علم الاجتماع. وفي مقابل ذلك، يعتبر ماكس فيبر وأتباعه، وخاصة الذين يتبنون تعريف على الاجتماع انطلاقاً من منهجه2، فهم يؤكدون على أن الأفراد أو الفاعلين الاجتماعيين هم الذين يشكلون موضوع علم الاجتماع. بلغة أخرى. إن السجال المعرفي والتجاذب النظري حول موضوع السوسيولوجيا، يعكس اختلاف زاوية النظر للفرد والمجتمع من منظورين سوسيولوجيين كلاسيكيين، الأول يسمى المنظور الوضعي، والثاني يسمى المنظور التفهمي. وفيما يلي سنحاول تسليط بعض الأضواء الكاشفة على أهم الأفكار الأساسية، والانتقادات التي وجهت لكلا المنظورين.
 

أولاً: التصور الوضعي

عُرف التصور الوضعي بتأثره بشكل كبير بالعلوم الطبيعية، خصوصاً الفيزياء والبيولوجيا اللذان استلهم منهما: بعض المفاهيم، ومناهج الاشتغال، والخطاطات التفسيرية... التي قام بتطبيقها على الوقائع الاجتماعية. بمعنى رواد هذا التصور، كانوا يرون أن المجتمع عنصراً أساسياً ضمن عناصر الطبيعة، لذلك يمكن دراسته وتحليل ظواهره بمناهج وقاموس العلوم الطبيعية. ولم يقتصر ذلك على نصوصهم وتحليلاتهم، وإنما شمل حتى التسمية، فالسوسيولوجيا كانت تسمى في بداياتها الأولى: بالفيزياء الاجتماعية أو الفيزيولوجيا الاجتماعية3.

يؤكد هذا التصور على أسبقية وجود المجتمع على الفرد، وأن وجوده مستقل تماماً عن إرادة الأفراد. بمعنى أنه يفيض على مجموع أجزائه. لذلك يشكل النسق الكلي والكيان الاجتماعي العام، الذي يؤطر سلوكات وتصرفات الأفراد، بقواعده، وتقاليده، وعاداته، وأعرافه، وقوانينه، التي تحفظ تماسك الأفراد فيما بينهم، وتنظم مختلف علاقاتهم، بل أكثر من ذلك، يعكس طبيعة البنى الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والمعتقدات الدينية، التي تساهم في بناء الوعي الجمعي للأفراد. وهذا ما يعكس سلطة المجتمع، المتمثلة في الضبط الاجتماعي، سواء بالتحكم في سلوكات الأفراد والجماعات، أو في توزيع وتحديد مواقعهم وأدوارهم داخله، من أجل الحفاظ على استمراريته وتوازنه وتكامل أعضائه الذين يعيشون داخل مجال ترابي محدد "وينتظمون في ظل التصورات الجمعوية، التي يشعر فيها الفرد بسلطة الجماعة عليه"4. هذا يعني أن التصور الوضعي ينتمي إلى المنظور الماكروسوسيولوجي؛ الذي يقارب الظواهر والوقائع الاجتماعية انطلاقاً من الكيانات الاجتماعية الكبرى، كالمؤسسات، والبنيات، والأنساق وغيرها. بمعنى أنه "ينطلق في دراسة المجتمع من "فوق"، ويركز على المؤسسات والبنيات الاجتماعية والتأثيرات والإكراهات التي تمارسها على الأفراد"5.

يفهم مما سبق، أن الفرد في المنظور الوضعي لا قيمة له، لكونه غير قادر على بناء وتغيير المؤسسات، والبنيات، والأنساق، والنظم، التي تكوّن المجتمع. مما يعني أن مواقف وسلوكات الأفراد وتصرفاتهم ما هي إلا تنفيذ لقيم وثقافة المجتمع. أو بتعبير آخر، يفسر هذا المنظور سلوكات وتصرفات الأفراد بالحتمية الاجتماعية، فدوركايم مثلاً "كان يعتقد أن الأفراد كائنات تابعة، بما في ذلك أفكارهم ومعتقداتهم، وأن المضمون الدلالي للأشياء المعرفية التي يتقيدون بها يدين بالكثير للضمير الجمعي"6.

إن تفسير جميع سلوكات وتصرفات الأفراد بمبدأ الحتمية الاجتماعية، هو الذي جعل هذا التصور يتعرض لموجة من الانتقادات الشديدة، ركز بعضها على المستوى المعرفي، والبعض الآخر على المستوى المنهجي. وحجتهم في ذلك، أن "المجتمع البشري عالم فريد، وليس مجموعة من الظواهر التي تخضع للقوانين، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، فالمجتمع نفسه لا معنى له خارج الأفراد الذين يصنعونه بواسطة أفعالهم الاجتماعية والفردية. كما اعتبروا، مناهج العلوم الطبيعية غير ملائمة لدراسة المجتمع والثقافة"7. أو بلغة أخرى، "ما يعيب السوسيولوجيا الكلاسيكية هو كونها تشدد على "الكليات" الاجتماعية، كالجماعة، والأسرة، والمدرسة، والأمة، والوطن، والكنيسة، التي تعتبرها أنساقاً أو بنيات اجتماعية، وتهمل التفاعلات اليومية التي تجري بين فاعلين أكفاء قادرين على بناء معرفة صادقة حول واقعهم الاجتماعي"8.

ثانياً: التصور التفهمي

تأسس التصور التفهمي، على أنقاض الأسس المعرفية للتصور الوضعي، وركز اهتمامه على الفرد بدل المجتمع، لكونه يعتبر هذا الأخير، مجرد مجموعة من الأفراد، تربطهم علاقات تفاعلية مستمرة. ويزعم أن لكل فرد مجتمعه الخاص، داخل نفس المجتمع الذي يوجد فيه. وهذا ما حاول إثباته ماكس فيبر في العديد من إسهاماته، التي أكد من خلالها على أن الوجود الاجتماعي للأفراد، وما يتطلبه من احتياجات، دفعتهم للتفكير في طرق وأساليب تدبير عيشهم المشترك داخل مجال ترابي محدد. بمعنى أن هذا التصور ينفي أطروحة أسبقية المجتمع على الفرد، ويؤكد على أن "المجتمع يرتكز في أسسه على تلك العلاقات الاجتماعية التي أصبحت تتفاعل مع بعضها البعض بعد انبعاثها من المحيط العام للمجتمع"9. أو بتعبير آخر، هذا التصور يُعرف المجتمع بوصفه مجموعة من الأفراد المتمايزين، والمتفاعلين، الذين يتبادلون المصالح والأدوار والعلاقات في مختلف المجالات الأساسية للحياة المشتركة، إن المجتمع وفقاً لهذا التصور ليس كائنا واقعيا وماديا كما يوحي بذلك التصور الوضعي، وليس كلية مشيئة تدرس كأشياء، بل إنه مجموع التفاعلات بين الأفراد. هذا يعني أن التصور التفهمي ينتمي إلى المنظور الميكروسوسيولوجي الذي يعتبر الأفراد هم المسؤولون عن انبثاق وبناء الظواهر والوقائع الاجتماعية، من خلال قدرة الفرد على التأثير بصورة خلاقة في العالم الخارجي10. وبالتالي يجب أن يشكل الأفراد جوهر اهتمام التحليل السوسيولوجي. لأن "التجربة الذاتية للأفراد والمعاني التي يسندونها لأفعالهم هي أهم الأشياء في العالم الاجتماعي، وكل ما لا ينتمي إلى هذه التجربة الذاتية ينتمي لمجال لا شخصي لا وجاهة له في فهم الحياة الاجتماعية"11.

يشدد التصور التفهمي، بخلاف التصور الوضعي، على أهمية الأفعال الفردية والمعرفة الاجتماعية للأفراد في فهم العالم الاجتماعي. بمعنى لا يفسر سلوكات وتصرفات الأفراد بالحتمية الاجتماعية؛ لأن الأفراد في المجتمع الحديث لهم القدرة للإفلات من قبضة المجتمع وقيوده، أو كما يقول ألان تورين: "إن الفرد، بصفته فرداً حداثياً، يفلت من الحتميات الاجتماعية بقدر ما يكون ذاتاً فاعلة خلاقة لذاتها، يعكس الفرد الاجتماعي الذي يتحدد بموقعه في المجتمع"12.

في الأخير؛ لا بد أن نشير إلى اختلاف جوهري بين المنظور الوضعي والتفهمي، فإذا كان الأول يبدأ بدراسة المجتمع من "الأعلى" كما رأينا سابقاً، فإن الثاني، يحاول فهم آلية اشتغال المجتمع ودراسته من "تحت"، أي يركز "على العمليات الصغيرة المدى التي تنشأ أثناء اللقاءات وجهاً لوجه، بمعنى النظر إلى الفرد كفاعل مستقل وقادر على خلق عالمه الاجتماعي"13.

كما نشير أيضاً، إلى أن هذا المنظور بدوره لم يفلت من سهام النقد، شأنه في ذلك، شأن جميع التيارات الفكرية، حيث "عاب عليه المنظرون تركيزه على الطبيعة "الطوعية" (الإرادية) للحياة الاجتماعية وإغفاله للبنيات والقضايا الماكروسوسيولوجية مثل الطبقات الاجتماعية والتوزيع المتفاوت للسلطة"14.
 

خاتمة

في الأخير ننبه، أن التصورين الوضعي والتفهمي اللذان تطرقنا لهما، وقلنا عنهما: إن الأول ينتمي إلى المنظور الماكروسوسيولوجي، والثاني إلى الميكروسوسيولوجي، ليسا منظورين خالصين؛ وإنما كل واحد منهما يضم تحته مجموعة من النظريات والتيارات الفكرية، فالماكروسوسيولوجي مثلاً يحوي النظرية الوظيفية البنائية، والتطورية، والبنيوية، والماركسية... بينما يضم الميكروسوسيولوجي الإثنوميتودولوجية، والتفاعلية الرمزية، والمنهجية الفردنية... ولكل نظرية من هذه النظريات، سواء التي تنتمي للماكرو أو تلك التي تنتمي للميكرو، لها منظور خاص لمفهومي الفرد والمجتمع. لذلك يصعب القبض عليهما، فهما مفهومان زئبقيان ينفلتا من بين الأيدي، وبالتالي يصعب الإمساك بتحديد دقيق لدلالتهما. وهذا يعكس في العمق صعوبة وتعقيد الجهاز المفاهيمي في السوسيولوجيا؛ لأن كل سوسيولوجي ينظر للمفهوم من زاويته الخاصة، أي أن المنطلقات الفكرية والأيديولوجية والحضارية للباحث، تتحكم في بلورة تعريف ما، لمفهوم ما. بل أكثر من ذلك، لا يمكن أن تجد في كل الأدبيات السوسيولوجية، تحديداً دقيقاً لمفهوم الفرد أو المجتمع، وكل ما يمكن أن يجده المرء من تحديدات، ما هي في الواقع إلا تجليات للمفهوم لا تعكس أبداً حقيقته.

فمثلاً، مفهوم الفرد يحدد بالوظائف والأدوار التي يحيل عليها المفهوم إما داخل الأنساق والبنيات والنظم الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية... أو يحدد بالحالات السيكولوجية الداخلية؛ أي مجموع الانفعالات التي تحدد سلوكات الفرد وأفعاله إلى درجة تجعلنا نتوقع ردة فعله انطلاقاً من فعل معين. أو يحدد بـ"المظاهر الخارجية"؛ أي كقوة منتجة ومستهلكة للثروات والخيرات والمنافع... التي تتأسس على عدة محددات اجتماعية، كالتفاعل، والتفاوض، والتكيف، والمنافسة، والصراع، بهدف إقصاء الآخر أو تهميشه أو إدماجه في المجتمع. وهناك من يحدده كفاعل مبادر ومشارك في صنع القرار والتأثير عليه عبر الانخراط في التخطيط للسياسات العمومية أو القطاعية، أي تحقيق الاندماج داخل المجتمع باعتباره مجموعة من الأفراد المتغايرين ثقافياً، ودينياً، وعرقياً، وتجمعهم علاقات ومصالح داخل مجال جغرافي محدد.
 


الهوامش:
1. Michel De Coster, Bernadette Bawin-Legros et Marc Poncelet, Introduction à la sociologie, 6èmè éd, De Boeck Université- Bruxelles, 2006, p28- 30
2. Ibid, p31- 32
3. ياقين محمد، الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية (نصوص مختارة)، سلسلة المعارف السوسيولوجية، الكتاب الأول، دار المعرفة-الرباط، 2020، ص: 18.┊4. ناجي جاسم السعيدي: دراسات في علم الاجتماع، مكتبة السلام ومكتبة المعارف للنشر والتوزيع، بدون سنة، ص: 61.┊5. حسن أحجيج، مدخل معاصر لعلم الاجتماع: نظرياته، مناهجه، قضاياه المعاصرة، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث- الرباط، 2020. ص: 164.┊6. جيرالد برونير، وايتيين جيان، الخطر السوسيولوجي: في نقد خطاب الحتمية الاجتماعية، ترجمة حسن أحجيج، مؤسسة عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية (سلسلة ترجمات)- الدار البيضاء، 2019، ص: 119.┊7. حسن أحجيج، مدخل معاصر لعلم الاجتماع، مرجع سبق ذكره. ص: 276.┊8. المرجع السابق.┊9. ناجي جاسم السعيدي: دراسات في علم الاجتماع، مرجع سبق ذكره، ص: 67.┊10. أنتوني غدنر: علم الاجتماع، ترجمة وتقديم الدكتور فايز الصباغ، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية للتوزيع، بيروت، 2005، ص: 73.┊11. حسن أحجيج، مدخل معاصر لعلم الاجتماع، مرجع سبق ذكره.┊12. ألان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة- بيروت، 2011، ص: 157.┊13. حسن أحجيج، مدخل معاصر لعلم الاجتماع، مرجع سبق ذكره.┊14. المرجع السابق.

المراجع:
• أحجيج حسن، مدخل معاصر لعلم الاجتماع: نظرياته، مناهجه، قضاياه المعاصرة، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث- الرباط، 2020.
• برونير جيرالد، وايتيين جيان، الخطر السوسيولوجي: في نقد خطاب الحتمية الاجتماعية، ترجمة حسن أحجيج، مؤسسة عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية (سلسلة ترجمات)- الدار البيضاء، 2019.
• تورين ألان، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة- بيروت، 2011.
• جاسم السعيدي ناجي، دراسات في علم الاجتماع، مكتبة السلام ومكتبة المعارف للنشر والتوزيع، بدون سنة.
• زيمل جورج، الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا، ترجمة وتقديم حسن أحجيج، مؤسسة رؤية للتوزيع والنشر- القاهرة، الطبعة الأولى 2017.
• ياقين محمد، الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية (نصوص مختارة)، سلسلة المعارف السوسيولوجية، الكتاب الأول، دار المعرفة-الرباط، 2020.
•  Michel De Coster, Bernadette Bawin-Legros et Marc Poncelet, Introduction à la sociologie, 6èmè éd, De Boeck Université- Bruxelles, 2006

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها