الحشرات.. ألهمت الفنّانين وغيّرت نظرتهم للفن

لـ غريغ ميلر Greg Miller

ترجمة: مروى بن مسعود

في أحد الأيام عثر باريت كلاين على فراشة ميتة في منزله، وأعجب إعجاباً شديداً بجمالها. لقد شكّلت لحظة فارقة في حياته. يقول كلاين، وهو الآن عالم حشرات في جامعة ويسكونسن-لاكروس: "في سن الخامسة أيقنت أن الحشرات ستكون جوهر وجودي". وهو اليوم فنّان، وللحشرات مكانة بارزة في فنّه ولوحاته.
 

على امتداد التاريخ وتعاقب الثقافات، ألهمت الحشرات الفنانين والحرفيين.. استخرجوا من يرقات العثة والنحل والخنافس، مواد الحرير والشمع والأصباغ والوسائط الفنية الأخرى. في حين تترك بعض الحشرات الأخرى آثاراً يلتقطها الفنانون، الذين يراقبون سلوكياتها الطبيعية في الواقع بهدف دمجها في الفن: "بأشكالها التي لا تحصى ولا تعد، يلاحظ الفنّان سلوك الحشرات الرائع، بالإضافة إلى تشكيلة متنوعة من الألوان والأشكال الفاتنة".

إن نظرتنا للحشرات تقوم على مشاعرنا المتضاربة تجاهها - نحن مفتونون بتركيبتها الغريبة، وأنماط حياتها غير المألوفة، لكن نشعر بالنفور والخوف من إبرها وسمومها، والأمراض التي قد تحملها (أو لا تحملها) في آن. ناهيك عن أعدادها الهائلة التي تتكدس بعضها فوق بعض. تقول الفنانة كاثرين تشالمرز: "هم لا يعيشون مثلنا، ولا يشبهوننا.. يتصرفون بغرابة وبدائية، وهذا مثير للاهتمام إلى ما لا نهاية؛ إنهم يقدمون منظوراً مختلفاً للغاية للحياة على الأرض".

 من رسومات الكريكيت القديمة إلى شالات الخنفساء 

من أقدم الأمثلة المعروفة لفن الحشرات نقش، صرصور منحوت على قطعة من عظم البيسون عثر عليه في كهف في جنوب فرنسا، ويعتقد أن عمره حوالي 14000 عام. تقول ديان أولمان، عالمة الحشرات وأحد مؤسسي برنامج اندماج الفن والعلوم في جامعة كاليفورنيا: "إن الناس القدماء كانوا مراقبين عظماء للعالم الطبيعي. توجد الحشرات في كل مكان يعيش فيه البشر، وتظهر في القطع الأثرية من أمريكا الوسطى إلى بلاد ما بين النهرين. لقد أصبحت الحشرات جزءاً من القصص الثقافية والروحية للناس في جميع أنحاء العالم".

لطالما أمدّت الحشرات الفنانين بالمواد اللازمة لعملهم. فقد تم استخدام مادة اللك، المشتقة من الإفرازات الراتنجية لأنثى حشرة اللاك، منذ أكثر من 3000 عام، وذلك للمساعدة في إضفاء اللمعان على الدروع التبتية المزخرفة، من بين العديد من الأمثلة الأخرى. وكذلك الكارمين، وهي صبغة قرمزية رائعة تستخرج بعد سحق حشرات قرمزية ماصة للصبار، وقد استخدمها الأزتيك والمايا، وكانت أسعارها باهظة في أوروبا في القرن السادس عشر، حيث كان يطلبها الفنانون وصناع النسيج.

وفي بعض الثقافات تستخدم الحشرات نفسها، أو على الأقل أجزاء منها. يقوم شعب الزولو في جنوب إفريقيا بربط الأجسام الصغيرة من حشرات ميتة في عقود متقنة (تغلف الحشرات نفسها بالشمع الواقي الذي يجعلها تبدو مثل اللؤلؤ). وتضيف اليراعات رونقاً إلى الملابس في الهند، وسريلانكا، والمكسيك.

مثال آخر.. الشالات الغنائية التي صنعها شعب كارين في ميانمار وشمال تايلاند، وتعرف المنسوجات بهذه التسمية لأنها تُستخدم في مراسم الجنازة، حيث يغنّي المشيعون على مدار الساعة لعدة أيام، وأحياناً تكون لها حاشية مصنوعة من الإليترا اللامعة، أو الأجنحة الخارجية الصلبة لخنافس الجواهر.

✲ إبداع فنّي من وحي الحشرات 

تقول المصممة التجريبية مارلين حيسود إن لديها رد فعل لبعض الأشياء التي تصنعها من منتجات النحل والحشرات الأخرى: "كثير من الناس، عندما يرون القطع الفنيّة، يقولون إنها جذابة للغاية ... ولكن في نفس الوقت هناك شيء مخيف في نظرهم".

يعمل فنانون آخرون مع الآثار التي تتركها الحشرات خلفها.. لا حظت الفنانة سوز وولف المقيمة في سياتل لأول مرة وجود خنافس اللحاء، أثناء التجول في غابات جبال كاسكيد بالقرب من منزلها. خنافس اللحاء هي حشرات صغيرة تضع بيضها تحت لحاء الأشجار.. في هذه العملية، تقوم الحشرة بحفر مسارات صغيرة عبر اللحاء، وهو نسيج محمّل بالأوعية يوزع السكر والمواد المغذية التي تصنعها الأوراق إلى أجزاء أخرى من الشجرة. لفتت هذه التماثيل انتباه وولف عندما رأتها على قطع من اللحاء على الأرض: "إنها تشبه إلى حد كبير نصاً غريباً لا يمكن قراءته".

هذا التشابه في الرموز مع اللغة المكتوبة دفع وولف لتتبع مسارات خنفساء اللحاء بطرق مختلفة. إحداها، يُدعى (النجاة) Survivorship، مستوحى من الحرب الكيميائية التي تحدث بين خنافس الصنوبر الجبلية، والأشجار التي يختارونها كمضيفين. تطلق الأشجار مركبات عطرية تسمى تربين لردع الخنافس، لكن الخنافس قادرة على تحويل بعض التربين إلى فرمون يجذب المزيد من الخنافس، ويمكن أن يسرّع ذلك هجوماً جماعياً. غلاف Survivorship عبارة عن شريحة فعلية من الخشب، محفور عليها مسارات خنفساء الصنوبر الجبلي؛ تحتوي الصفحات على نسخ بالحبر لمسارات خنفساء متراكبة على الكود الجيني لمونوتربين سينثيز، وهو أحد الإنزيمات التي تستخدمها الأشجار لتوليد مواد كيميائية دفاعية.

تقول وولف: إن عملها مستوحى جزئياً من البحث الذي أجرته عالمة الحشرات وعالمة البيئة بجامعة مونتانا، ديانا سيكس، التي كانت تبحث عن الاختلافات الجينية، والاختلافات في الدفاعات الكيميائية للأشجار، والتي قد تفسر سبب نجاة بعض الأشجار عند تفشي الخنافس وموت البعض الآخر. تتضمن الكتب الأخرى في سلسلة وولف أجزاء من البيانات العلمية - الرسوم البيانية التي توضح انتشار خنافس اللحاء عبر الغابات في كولومبيا البريطانية وألبرتا، على سبيل المثال، أو صور الأقمار الصناعية التي تظهر الضرر الناتج للأشجار.

العلم، وليس الفن، هو ما حفّز في البداية والتر تشينكل على صنع قوالب من أعشاش النمل تحت الأرض، كما دأب على ذلك منذ عقود. يقول والتر تشينكل، عالم الحشرات المتخصّص في النمل وأستاذ فخري في جامعة ولاية فلوريدا: "كنت أعتقد أنني سأكتشف شكل مساكنهم تحت الأرض بمجرد الحفر، لكن اتضح أنني لم أتصوّر ذلك بشكل صحيح".

في كتابه "معمار النمل: العجائب والجمال وعلم الأعشاش تحت الأرض"، يكشف والتر تشينكل كيف جرّب العديد من المواد، بما في ذلك اللاتكس وجص الأسنان، قبل أن يستقر أخيراً على الألمنيوم المصهور. للقيام بذلك، طوّر والتر تشينكل فرناً محمولاً يعمل بالفحم. في بعض الأحيان يستخدم الزنك، الذي يحتوي على درجة انصهار أقل من الألومنيوم ويبقى سائلاً لفترة أطول، ويتغلغل أكثر في أعشاش منظّمة بدقة. بمجرد أن يبرد المعدن، قد يستغرق استخراج قالب عش كبير وتنظيفه ساعات.

يلتقط المعدن المنصهر الغرف والممرات المعقدة للعش، والتي تبين أنها أقل عشوائية بكثير، وأكثر تنظيماً مما كان يظن تشينكل. إنه يتضمن العديد من الغرف الأفقية المتصلة بأنفاق عمودية طويلة. "عملياً جميع الأعشاش لديها هذا الهيكل الأساسي، الذي يخبرني أن النمل الأسلاف منذ مائة مليون سنة ربما حفرت عشاً بسيطاً... ومنه تطورت جميع الأعشاش الأخرى".

✲ التعاون بين الفنّان والحشرات 

قد تكون الحشرات متعاونة عن غير قصد في أعمال وولف وتشينكل، لكن في نظر بعض الفنانين تكون متعاونة بالمعنى الحرفي أساساً. أحد الأمثلة على ذلك هو عمل الفنان الفرنسي هوبرت دوبرات مع الذباب كاديس caddisflies، وهي مجموعة من الحشرات المتعلقة بالفراشات والعث.. تتغذى يرقات ذبابة العلبة على الأوراق المتحللة، والمخلفات الأخرى في الأنهار والجداول. يغلف الذباب أجساده بطبقة واقية من الحرير ويزيّنها ويقويها بحبيبات الرمل وقطع الأغصان، وغيرها من المواد من بيئته.

تساءل دوبرات عما يمكن أن تفعله اليرقات بمواد أكثر لمعاناً؛ لذلك قام بتربية بعضها في حوض مائي، وسمح لها بالوصول فقط إلى قطع من الذهب، ولآلئ صغيرة، وقطع من الأحجار الكريمة. صنعت الحشرات لأنفسها أغلفة جديدة ولمّاعة. يقول دوبرات في مقطع فيديو عن المشروع: "العمل كان جهداً تعاونياً بيني وبين يرقات العلبة.. أنا أوفّر الظروف اللازمة للذباب حتى يعرض مواهبه".

ويتحوّل سلوك الحشرات بحد ذاته إلى فن في أعمال كاثرين تشالمرز. في أحد المشاريع الطويلة الأمد، قامت بتصوير نمل قاطع أوراق الشجر في كوستاريكا. يقطع هذا النمل أجزاء من الأوراق من أعلى مظلة الغابة، ويعيدها إلى أعشاشه تحت الأرض لتوفير ركيزة للفطريات التي يزرعها كغذاء. يستخدم النمل الإشارات والاهتزازات الكيميائية المحمولة جواً لتنسيق أنشطته، ويمكن أن تحافظ مستعمراته على ملايين الأفراد، وقد وصف عالم الأحياء البارز ويلسون النمل قاطع الأوراق بأنه "أكثر الكائنات الاجتماعية تعقيداً بخلاف البشر".

ويأمل العديد من الفنانين أن يؤدي عملهم مع الحشرات إلى زيادة الوعي بالأدوار المهمة، التي تلعبها المخلوقات في البيئة، وتوفير عدسة يمكن من خلالها إعادة فحص تأثيرات البشر على العالم الطبيعي. يقول أنجوس: "كلما طالت مدة عملي مع الحشرات، اكتشفت أسرارها أكثر". لقد توصلت إلى فهم مدى أهمية الحشرات، لرفاهيتنا على هذا الكوكب. تقوم الحشرات بتلقيح النباتات، بما في ذلك العديد من المحاصيل الغذائية، وهي تلعب أدواراً متكاملة في النظم البيئية المتنوعة كمحللات للنفايات، وكأجزاء من السلسلة الغذائية. قد يكون بعضها من الأنواع الحارس لتأثيرات تغير المناخ - خنافس الصنوبر الجبلية التي عملت وولف معها، على سبيل المثال، تعمل على توسيع نطاقها شمالًا، وتسبب خسائر أكبر للأشجار (التي تجعلها) أكثر عرضة للهجوم من خلال الضغط لفترة أطول، وأكثر حرارة على امتداد مواسم الربيع والصيف والخريف.


 

المقال الأصلي/الصور:  Smithsonian magazine  – عدد ديسمبر 2021 © 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها