الكتابة السردية وجماليات اللغة

قراءة في كتابات جمال بوطيب

عزيز العرباوي


يسار: د.جمال بوطيب (يتسلم جائزة البحث النقدي التشكيلي 2015-2014/المركز الثالث)
 

يكتب المبدع جمال بوطيب الرواية والقصة وهو مدرك لأهمية ما تقدمه الكتابة السردية عموماً من قدرة على التأثير في متلقيها الذي يبحث عن ما يثير شهيته القرائية للنص السردي الجيد. وما يجعلنا نؤكد على أهمية الكتابة الروائية والقصصية عند جمال بوطيب هو أن نصوصه الروائية أو القصصية تنهل من الواقع الاجتماعي المغربي موحية إلى الترميز والإيحاء والبحث عن إثارة انتباه المتلقي ودفعه إلى التفكير في ما يقدمه إليه الكاتب من أفكار وقضايا ومواقف اجتماعية وثقافية وفكرية وسياسية ودينية... إن جمال بوطيب، وهو يكتب، يستحضر نوعاً من الأسس التي تبنى عليها الرواية والقصة القصيرة بكل أنواعها المختلفة، وبكل أشكالها التي تتنوع بتنوع كاتبها وأسلوبه وطريقة معالجته للقضايا والأفكار المطروحة في كل نص على حدة. وما يثير القارئ لقصصه هو ذلك الأمل الذي يتسيد على ما يهدف إلى الوصول إليه، وكأنه محلل سياسي أو اجتماعي يحلل قضايا البشرية، بل وكأنه مفكر مستقبليٌ يرى بعين المفكر والباحث ما سيؤول إليه الوضع إن تمّ تجاهل ما يعيشه الناس داخل المجتمع، مثل مصلح اجتماعي يرى أن التغير لا بد أن ينطلق من تغيير الوعي المجتمعي وتبني استراتيجية ثقافية جديدة.
 



(1)
جمالية اللغة السردية في "زخة... ويبتدئ الشتاء"

في مجموعته القصصية الجميلة "زخة... ويبتدئ الشتاء"، يؤكد لنا القاص رؤيتنا السابقة، وادعاءنا أن أغلب نصوص المجموعة هي استشراف للمستقبل، وقراءة لواقع المجتمع وما ينبغي علينا التفكير فيه، ولعل واقعنا الذي نعيشه منذ عقود وما زلنا نعيشه أكبر دليل على ما نقول. فهو يتناول العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية وهو مدرك مدى أهميتها ومدى راهنيتها في مجتمع عربي مسلم يعيش على إيقاع الخرافة والتبعية والأبوية ويقدس التقاليد والأعراف ويتشبث بأفكار ماضوية وبنصوص مقدسة تقليدية لا أساس ديني لها. ففي مثل هذه الأوضاع يمكن أن يعاني المثقف والكاتب المبدع وهو يكتب نصوصه لأنه سيقع بين نارين لا نجاة منهما إلا جرأته في الكتابة وفي اللغة المستخدمة المبنية على الرمز والإيحاء والغموض إلى حدٍ ما.

اللغة القصصية ورمزيتها

تتجلى جمالية اللغة السردية في القصة القصيرة عموماً، سواء كانت قصة قصيرة أم قصة قصيرة جداً، في مدى تحقيقها للرمزية والإيحائية وقدرتها على إيصال الفكرة من خلال استحضار العديد من العناصر المشوقة من خلال التأكيد على الأحداث الهامة بتكثيف كبير، وعلى الشخصيات الفاعلة بشكل أساسي دون استدعاء شخصيات ثانوية أو غير ذات أهمية في سيرورة الأحداث. بل إن أهمية هذه اللغة بالذات، ترتبط بمدى قدرة الكاتب المبدع على تأسيس قصته المختلفة بأسلوبه الخاص وبلغته الإيقاعية المختلفة عما نقرأه عند كتاب قصة آخرين. فأغلب نصوص المجموعة تقودنا إلى القول إن جمال بوطيب قد اختار لغة رمزية تدين بأسلوب غير مباشر وإيحائي كل أنواع الفكر المتشدد والفعل الاستبدادي والسياسة الظالمة بكل أشكالها، فبقدر ما يتجلى الظلم في المجتمع يتجلى التعبير عن التنديد ضده إبداعياً، وبالتالي، فالقاص مثله مثل باقي المبدعين والكتاب المغاربة يواجهون هذا النوع من الظلم والاستبداد بالكتابة والتعبير الرمزي عن ما يشعرون به من خزي وعار تجاه أشكال من السلطة التي يتمنى القاص أن يعفو عنها الزمن.
إن اللغة في السرد القصصي، تعتبر من أهم عناصر الإبداع القصصي وأصعبها، وضرورتها تتجلى في قدرة القاص على التفوق فيها وعلى إثارة انتباه المتلقي. وفي هذا الصدد يرى الكاتب العراقي ثائر العذاري أن ما "يضعف القصة طغيان لغة كاتبها على لغة شخصياتها. فحين تتكرر عبارات معينة ومفردات محددة في أكثر من قصة واحدة للقاص نفسه فإنه سيكون حاضراً في ذهن القارئ كأنه يفرض عليه وعلى شخصيات القصة سلطته وتأويلاته. إن اللغة القصصية هي الأداة السحرية للتخييل التي تعيد خلق الواقع وتجسّده على الورق"(1). إن القاص جمال بوطيب يكتب قصته القصيرة جداً وهو يدرك أهمية اللغة في التأثير على متلقيه، وعلى تقديم نص مكثف لغوياً وقادر على استحضار أهم عناصر اللغة السردية القوية والمثيرة، والقادرة على توجيه القارئ وجهة معينة يرديها الكاتب قبل كتابة النص، يقول القاص في قصة "مرارة":
[لما أغرقت بالسكر القهوة السوداء، ضحكتْ وقالت: إن المرارة في الماء.
تذكرت درس الأشياء هناك ذات ابتدائية: "الماء سائل لا طعم له ولا لون ولا رائحة".
وتذكرت أستاذ المادة وهو يتجرع دواءه بين الفينة والأخرى. تذكرت فاتورة الماء أيضاً والبركة التي كانت مسبحاً لنا ذات شغب. و... و...
كانت القهوة السوداء قد قررت الانفلات من الماء وكنت -حقداً عليها- قد قررت أن أضيف إليها بعضاً من حليب البقر يكسر وحشيتها.
قالت القهوة السوداء:
أتعجب لك كيف ترضى لنفسك أن تكون للعجل أخاً من الرضاعة](2).

ترى الدكتورة نهلة الشقران في مقال لها "جماليات القصة القصيرة جداً في عمان الخطيب المزروعي أنموذجاً" أن للمبدع اختياراته الخاصّة إذ يظهر أحد أشكال العلاقات على لغته أكثر من غيره، كاختيار معجمي خاص أو أسلوب نحوي معيّن، أو إيحاءات دلالية مقصودة، كما تبرز أدوات وروابط في خطابه تصبغه بصبغة خاصّة، وتؤدّي إلى ترابطه وانسجامه(3). وفي هذا الإطار، يمكننا القول إن لغة جمال بوطيب تمتاز بجمالية خاصة ذات صبغة محددة تدفع الناقد إلى البحث والقراءة المتأنية لنصوصه وكأنه أمام لغة رمزية بأسلوب غير معتاد. فمجموعة "زخة... ويبتدئ الشتاء" تقدم لنا قضايا اجتماعية أساسية وأفكاراً مختلفة عن الخوف والضياع والحزن والألم والتمرد والثورة على التقاليد والعادات السيئة... كما تعرض أبعاداً لغوية ذات إمكانيات كبيرة في التركيب والدلالة والتطوير المعنى بشكل موضوعي تارة، وبشكل تخييلي ترميزي إيحائي تارة أخرى. إن الجمل المختصرة التي كتبت بأسلوب متميز تقدم لنا نوعاً من السرد المثير والوصف المحدود من خلال صور بلاغية وشعرية قادرة على إثارة انتباه القارئ ودفعه إلى إعادة إنتاج النص المقروء بأسلوبه الخاص. وهذا ما يؤكد لنا أن القاص عندما كان يكتب أو يفكر في الكتابة كان يضع نصب عينيه أن الإسهاب والحشو في الكلام والتوغل في عالم اللغة قد لا يوصله إلى غايته من كتابة النص المقصود. إنه كقاص يبحث عن إيصال نصه القصصي بأقل كلمات ممكنة، ليثير حفيظة قارئه بطريقة أو بأخرى، وبأسلوبه المعتاد في كل قصص المجموعة.
إن البحث عن جمالية اللغة في نصوص المجموعة يسهّل الوصول إلى الاعتقاد بأن القاص يرغب في تحقيق ما قلناه سابقاً، والانزياح بلغته السردية نحو التكثيف واستخدام صور مبتكرة ومبدعة مكثفة توصل المعنى المراد من خلال الوقوف على أحادث يومية ووقائع حاصلة مغلفة بتخييل مسهب. فإضافة إلى لغة الحكي والسرد والسؤال يعتمد جمال بوطيب على لغة السخرية، السخرية من الواقع ومن أشخاص معينين ومن أحداث اجتماعية بعينها، وحتى من مواقف إنسانية مسيئة للفرد والجماعة داخل مجتمعه. ويمكننا من خلال عنوان كل نص على حدة أن نعرف موضوع القصة، فهو مفتاحها الأساس والطريق السالكة لمعرفة الصورة الكاملة حول النص، بل إنه كمفردة في غالب الأحيان، يكاد يوصلنا إلى المعنى الأولي للنص القصصي؛ لأنه يقدم لنا دلالات خاصة أقرب ما تكون إلى ما يقدمه النص بأكمله من دلالات حينما ننتهي من قراءته.

ويرى الناقد المغربي جميل حمداوي أن كتابات جمال بوطيب القصصية تتسم بخاصية الرمزية المنطلقة أساساً من لغة سردية قصصية مفعمة بشعرية التهكم والسخرية والرمزية الموحية، إذ تتحول قصصه، حسب رأيه، "إلى خطابات فانطاستيكية رمزية تدين الواقع وتشخص عيوب الموضوع المعاش بريشة تهكمية كاريكاتورية قادحة تتقطر منها لسعات نقدية هجومية لادغة في مجابهة الذات والمجتمع الموبوء والعالم المنحط المقهور. ويبلغ التهكم مداه عند الكاتب في [قصة أسبوع]، التي يتحول فيها الأسبوع الإنساني إلى زمن السخرية والمفارقات المتناقضة. وبالتالي، لا ينم هذا الزمن الأسبوعي إلا عن العجز والفشل في تحقيق ما يصبو إليه الإنسان. ومن هنا، تتعطل الأفعال والأزمنة مع مسار التاريخ العربي الذي تتكلس فيه العقول، وتتحجر القلوب، وتتجمد القرائح، وتعجز عن التنفيذ وإنجاز الأفعال. وتؤشر هذه القصة اللا-زمنية على الخيبة والفشل"(4). من هنا، نستنتج أن القاص يذهب في نصوصه إلى استحضار لغة سردية تهدف إلى توجيه وعي المتلقي نحو فكرة معينة أو موقف سلوكي أو فكري مختلف عما يؤمن به قبل قراءته للنصوص، وكأني به يريد إنتاج ثقافة مختلفة عن المألوف تجاه العديد من الفئات المجتمعية أو حتى تجاه الذات والتعاطي مع الآخر المختلف. يقول القاص في قصة: "ياسين والوادي":
[جمع الشيخ أحفاده، وعليهم قصَ الحكاية التي كان مستهلها: "كان يا ما كان" ونهايتها: "حكايتي مشات مع الوادي". ياسين، حفيده، ذهب إلى الوادي صامتاً يتقفى آثار الحكاية. بسذاجة طفل تساءل: "الوادي ما زال في مكانه، وأكيد أن الحكاية ما زالت هنا...". غطس في الوادي بحثاً عن الحكاية. لم يجدْ غير الحجارة الملساء والضفادع وأعشاب مائية... قرر ياسين عدم العودة من الوادي إلا بالحكاية متوهماً أنه سيرضي جده. لكن جده الذي دمعت عيناه وابيضت من الحزن، اعتزل الحكي وصار من يومها يحكي لبقية الأحفاد حكاية واحدة هي حكاية "ياسين والوادي"](5).
 

التماسك اللغوي

إن أغلب النصوص في المجموعة "زخة... ويبتدئ الشتاء" لا يمكنها أن تبتعد عن بيئتها المحيطة مهما حاول القاص ذلك، وكيف لا يتضح هذا التمازج البيئي واللغوي الذي لم يحاول التواري ولا التلميح الواضح في كل قصصها عن الألم الذي يسكن الذات الفردية بمختلف أشكاله، وعن الخوف المثير للشفقة في بعض الأحيان! حيث يظهر منذ البداية أنها نصوص واضحة الدلالة محدّدة المقصد وإن ذهبت في بعض الأحيان إلى التورية والغموض، فالنص المعبر عن "حالة خاصة من البيئة المحيطة"(6) لا يمكنه أن يبرز البيئة الاجتماعية في القصص فقط، بل يمكنه أن يبرز بوضوح صوراً أخرى تظهر مشاكل الطبقات الاجتماعية اقتصادياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً وصراعها المستمر في البحث عن الوجود وعن السيادة، بل حتى عن همومهم الخاصة دون الانفصال عن الهمّ الجمعيّ لبيئتهم، فلم تغفل القصص التأطير السياقي المناسب للأحداث، واعتنت برسم صورة كاملة تحيط بالذات نفسياً وسياسياً أيضاً، وبذكاء قصصيّ تمّ الدمج دون أن تبتر الحبكة، ودون تنظير مجحف في حقّ القصّ(7).
إن التماسك في لغة جمال بوطيب القصصية يدفع القارئ إلى الوصول إلى المعنى، وإلى تشكيل رؤية فكرية ونقدية حول ما يقرؤه من نصوص قصصية. فرغم قصر النصوص القصصية في المجموعة، فإنها تحقق ما يمكن تسميته بالمعنى النهائي الذي يهدف الكاتب الوصول إليه ضمنياً. فكل تماسك لا بد وأن يتعلق بمدى قدرة الكاتب على توظيف الكلمات والعبارات المناسبة والمترابطة فيما بينها والمحققة للمعنى النهائي والمراد إيصاله إلى القارئ. كل هذا يؤثر بشكل أو بآخر في الإدراك المعنوي والحدسي للقارئ لدلالة الخطاب القصصي وما يحمله من دلالات مفعمة بتراكيب وصور ورموز. إن الكتابة القصصية في المجموعة تجعل القارئ يبني مخططاً واضح المعالم وبارز الأفكار لما يطرحه كل نص من أحداث وما يخططه من أشكال لغوية وفكرية ومواقف ثقافية واجتماعية وسلوكية لكل شخصية على حدة، وفق رؤية فكرية لدى الكاتب تحقق توقعات القارئ الممكنة من تلقي الخطاب. وهذا ما يتحقق من خلال كل قصص المجموعة، مثل قصة "حلم":
[ظل زكرياء يجوب الشوارع وعلبة السجائر في يده أملاً في بيعها بالتقسيط. كان دخلها كافياً له ولأمه في اليوم لشراء البيض والخبز وتوفير ثمن علبة السجائر للغد. دخل كل المقاهي لكن أحداً لم يكلمه أو يشترِي منه فقد كان الرواد يجلسون إلى طاولاتهم وأمامهم علبهم الأنيقة الملونة. ظهراً، وقرب بائع ساندويتشات أحس زكرياء بالجوع فتوقف كثيراً أمام المحل يتابع الزبناء وهم يأكلون. انتبه إلى علبة السجائر وقد ابتلت عرقاً بين يديه الصغيرتين. كانت الشمس تميل نحو مغربها. عدَّ الدراهم الخمسة التي استطاع أن يوفرها طيلة يوم كامل. هده العياء وعلى الرصيف جلس يستريح وعيناه مشدودتان إلى الصبية الأنيقين بحقائب مدرسية أنيقة يعبرون الطريق. أخرج الولاعة وأشعل سيجارة ولم يحلم بشيء غير الجلوس إلى طاولة في المقهى يرتشف شاياً وأمامه علبة سجائر ملونة](8).

(2)
جمالية اللغة السردية في رواية "خوارم العشق السبعة"

مثلما يبدع جمال بوطيب في كتابة القصة، فإنه يفعلها في كتابته الروائية، حيث عمله المؤسس على اللغة الرامزة والإيحائية وبحثه الدؤوب عن إثارة شهية القراءة ولذتها ومتعتها لدى متلقيه هو الشغل الشاغل لديه أثناء عملية الكتابة والوعي بحضورها في حياته. فالرواية عنده مثل القصة تعتمد على لغة سردية جميلة غنية بالدلالات والمعاني والرموز الفكرية والثقافية والمعرفية التي توجه وعي القارئ نحو غاية معينة مخصوصة، وترسم حدوداً لأفق الكتابة الروائية في بعدها التصوري الخالص الذي يجعل منها ككتابة سردية استجابة مقنعة وتحقيقاً لرؤية فكرية قادرة على تفسير العالم المتناقض والمتشعب الأفكار والسلوكات بمنطق قابل للفهم والتفسير والتحليل. إنه يرسم مساراً مختلفاً يتلخص في إيجاد صيغة جديدة للكتابة الروائية القائمة على تفسير الظواهر الإنسانية بأسلوب ساخر وتهكمي يوصل الفكرة إلى القارئ باقتصاد في اللغة مع التأكيد على رمزيتها وإيحائيتها الدلالية التي تثير حفيظة القارئ وتحيله على مرجعيات ثقافية واجتماعية تدخل ضمن ثقافته العربية المغربية.
 

إن رواية "خوارم العشق السبعة" تقدم للقارئ شكلاً جديداً من الكتابة الروائية تستدعي الحب والعشق وتقدمه كشكل جديد للحياة والتفكير والتعبير، ومن خلال ذلك نرى أن الروائي لم يعتمد على أشكال الكتابة الروائية المتعارف عليها، مما دفعه إلى كسر هذا الشكل بطريقته الخاصة وأسلوبه الأدبي الجميل. ويكاد القارئ العادي لا يصل إلى تحديد معالم ما يقرأه أو يجنسه؛ لأن الروائي كان يهدف وهو يختار هذا الشكل من الكتابة بوعيه الخاص أن يكسر المعتاد والمألوف في عملية السرد الروائي. إنه روائي ناقد بامتياز، يكسر الأشكال ويجدد في الأساليب، ويستحضر اللغة الجميلة القادرة على إثارة القارئ وصدمه ودفعه إلى الاجتهاد وعدم التكاسل في البحث عن المعنى. فروائي مثل جمال بوطيب متعب في قراءة نصوصه، يدفعك إلى الاجتهاد والبحث عن المعنى وعدم انتظار ما يقدمه إليك من فكر وثقافة ومعرفة بشكل بسيط وسلس.
تحكي الرواية عن قصتي عشق بين شخصيات أربعة هم: تركية صدوعي، ولبانة الربيعي، وعبد الرحيم الدباشي، وآدم إبراهيمي. هذه الشخصيات العاشقة التي تتفاعل فيما بينها من خلال تبادل الرسائل ولافتات في شكل روائي لا-سردي غير متواتر. وتتواتر في الوقت نفسه أشكال التفاعل بين الشخصيات من خلال التعبير عما يخالجها من مشاعر وأحاسيس، فتتطور الأحداث وتتناسق بشكل متطور بين الفقرة والأخرى، وتتعدد أساليب التعبير كأننا أمام نص مترابط ومتماسك سردياً.
تتكون رواية "خوارم العشق السبعة" من جزأين، الأول يتكون من سبعة عناوين كل منها يقدّم واحدة من خوارم العشق المفترضة، بينما يقدم الجزء الثّاني تحت عنوان: "وصفة لقتل الحبّ". في الجزء الأوّل من الرّواية نجد لافتات وصفيّة تحت خوارق العشق، وما يليها هو تنظير في الحبّ دون الالتفات إلى أيّ سرد روائيّ، أو تقديم أيّ تصوّر تخيليّ للعلاقة العشقيّة التي نحن في صدد قراءة خوارم العشق فيها، وبذلك يقودنا الرّوائيّ نحو البطل الشّيء، وهو العشق، ويضرب صفحاً عمّا سوى ذلك، وهذه الخوارم العشقيّة السّبعة، ويذكر منها اثنتين في الجزء الأوّل من الرّواية على لسان عبد الرّحيم الدّباشيّ وحبيبته لبانة الرّبيعيّ(9). هذه الخوارم السبعة يقدمها لنا الروائي بلغة جميلة مفعمة بالعبارات والجمل البسيطة المترابطة والمتماسكة دلالة ومعنى وتركيباً، حيث الجمل القصيرة التي تقدم دلالات فلسفية وفكرية في منطق العشق وفلسفته التنظيرية والتطبيقية بأسلوب شيق رائع، خاصة عن المرأة باعتبارها الطرف المثير والقوي في مقام العشق، حسب تعبير عبد الله الغذامي الذي يعتبر أن المرأة عندما تتكلم فإنها تثور بطريقتها وتتمرد بأسلوبها سواء في العشق أم في دونه، يقول الغذامي: "إنّ كلام المرأة هو إحضار لها، ولو تكلّمت فهذا يعني أنّها حضرت وصارت كائناً حيّاً محسوساً"(10).

إن لغة المرأة في الرواية لغة إنسانية بالدرجة الأولى، بل إنها لغة عشق عذري في أغلب الأحيان، تقدم على شكل عبارات مفعمة بالإحساس الجميل والشعور الراقي والرقيق. يقول في الرواية:
"وهو أحس بهذا تماماً كما أردت له أن يحس.
في الذكرى الأولى لعبنا العنيف والتي صادفت يوم عاشوراء وصادفت زيارتي للمقبرة...
قال لي: [لقد انطفأت الجمرة، وخبا قبسها].
قبسها كان متوهجاً...
الخبو مرحلة أولى من مراحل قتل الحب...
تذكروا معي..."(11).

هذه اللغة، ورغم قساوتها في بعض المقاطع، فإنها تبقى لغة شفافة مشوقة للقارئ ولمتعته المتوقعة. فالقراءة الممعنة للنص تجعلنا نؤكد على أنه رواية اعتراف، وبمعنى آخر، رواية بوح جميل وشعور بالذات المتمردة على الواقع وعلى أشكال الحياة المعاصرة الخالية من العديد من المشاعر الإنسانية والقيم الأخلاقية التي كانت سائدة في العهد القديم في المجتمعات العربية والإسلامية.
لقد بحث الروائي في عالم العشق والعشاق، وأخبارهم وحروبهم وانتصاراتهم، ومصارعهم وقبائلهم وكتبهم، ودواوينهم ومأثوراتهم، ولاحق المحاسن في كل مكان ووجدها ألوفاً مؤلفة، لا يمكن أن يضمها كتاب، ولا أن يحيط بها حكاء... أما الخوارم فلم يجد إلا سبعة منها. من هنا، نقول إنه قد وضع لنفسه خطة محكمة في التعبير السردي الذي يحاول من خلاله أن لا يحجب الحقيقة عن أنظار الناس ويعيد تشكيل الحياة أو جزءاً منها على الأقل، يتعلق بالعشق والعشاق، كما يجب أن تكون عليه. فمنذ البداية نجد أن هناك تخطيطاً للرواية يأخذ الشكل العمودي الحفري والبحثي المحض باعتباره البؤرة التي تعتمد عليها الفكرة أساساً، فكرة الرواية ككل. ورغم أننا نجد أن هناك ملامح للتخطيط الجذري المعتمد على مسارات متشعبة ومقاطع متناسقة، فإننا نفقد هذا التخطيط في العديد من المحطات داخل الرواية، وبالتالي، يمكننا أن نقول إن الرواية قائمة على التخطيط الحفري العمودي. فالفكرة هي الأساس عند جمال بوطيب في روايته، من خلال طرحه لقضية مهمة في حياة الإنسان عموماً، وهي قضية العشق، حيث يعالجها من منظور الاعتراف والبوح على لسان كل شخصية من شخصيات الرواية، الاعتراف بعشق عذري صوفي إنساني قادر على إذابة القلوب الصلبة والمتحجرة.
تحتفل الرواية بالعشق من خلال لغة جميلة ممتعة قادرة على لفت انتباه القارئ وجذب انتباهه، إنها لغة العشق، لغة الانخراط في الاعتراف والبوح، تجعل من قارئها يغيب في عالم خيالي يستدعيه أثناء عملية القراءة إلى عوالم وفضاءات عمرانية أو إنسانية تسمح له بإعادة التعبير عن نفسه وعن ذاته المغرقة في المادية، ويعيد تشكيلها من جديد في إطار من الحرية والابتعاد عن الرقابة الذاتية أو الجمعية. يقول الروائي: "أية ريح عاصفة هذه التي تلاحقني؟ ما هذه اللوثة التي صارت ملازمتي؟ أية لعنة هذه التي تتمسك بي ولكما حدثت أنثى، قالت لي: [أنتَ عاشق لبانة]... وهذا العتو الذي اسمه [وصفة لقتل الحب] من أين هبَّ إليّ؟ وهذه التركية التي رمتني بسهام شفيرها وحرفها القاتلين؟..."(12).
يولد النص العديد من الأفكار والأشكال المختلفة للعشق والحب، سواء كانت قابلة للاهتمام أم لا. لكنها، وفي كل الأحوال، هي أشكال من العشق الذي يؤكد على أن هناك مواقف بشرية قادرة على خلق علاقة عاطفية جميلة بكل تفاصيلها وتجلياتها. فالنص عبارة عن ومضات ولقطات وأحداث مبعثرة في الظاهر، من خلال مواقف وأزمنة مختلفة ومتوازية ومتداخلة فيما بينها، لكنها مشاهد مؤسسة على رؤية فنية وجمالية لدى الروائي تنطوي على رؤية فكرية معينة وعلى قضية نقدية يحاول من خلالها أن يثير مسألة غاية في الأهمية تتعلق بحياة الناس في مجتمعه وعلاقاتهم المتعددة والتي تأخذ في العديد من الحالات منحنيات غير صحيحة مما يقود إلى نتائج خطيرة أو على الأقل سلبية داخل المجتمع.

أخيراً، يمكننا أن نقول إن المحطات المختلفة في الرواية والمؤتلفة أيضاً، استطاعت أن تخدم البؤرة السردية من أجل الوصول إلى رواية موحدة تجسد رؤية الروائي التجميعية في فكرة واحدة ووحيدة تهدف إلى إيصال فكرته إلى المتلقي من خلال نظرته الفكرية والنقدية تجاه الإنسان والعالم والفن والأدب عموماً، حيث أبرز تناقضات العلاقات والواقع الإنساني فطرح الأسئلة والاستفسارات، لتجسيد وعي جمالي وفكري خالص.
 


الهوامش والمراجع
1. ثائر العذاري: "جمالية اللغة في القصة القصيرة"، جريدة العرب الدولية، لندن، عدد بتاريخ: 05/06/201، ص. 13.
2. جمال بوطيب: زخة... ويبتدئ الشتاء، قصص، مؤسسة الديوان للطباعة والنشر والتوزيع، آسفي، المغرب، ط. 2، 2007، ص. 22.
3. نهلة الشقران: "جماليات القصة القصيرة جداً في عمان الخطيب المزروعي أنموذجاً"، جريدة الوطن، عدد بتاريخ: 30 أغسطس 2015، رابط المقال على الإنترنيت: 
http://alwatan.com/details/74467
4. جميل حمداوي، "خصائص القصة القصيرة جدا عند الكاتب المغربي جمال بوطيب"، مجلة ندوة الإلكترونية، رابط المقال: https://arabicnadwah.com/bookreviews/butayeb-hamadaoui.htm
5. جمال بوطيب: زخة... ويبتدئ الشتاء، قصص، ص. 12.
6. Halliday & Hassan, Cohesion in English, Longman, London, 1976, P. 84
7. نهلة الشقران: "جماليات القصة القصيرة جداً في عمان الخطيب المزروعي أنموذجاً"، مرجع سابق.
8. جمال بوطيب: زخة... ويبتدئ الشتاء، ص. 40.
9. سناء الشعلان: "العشق بطلاً في رواية [خوارم العشق السبعة] لجمال بوطيب"، مجلة أقلام الهند، السنة الثالثة، العدد الثاني، أبريل- يونيو 2008، رابط المقال: https://www.aqlamalhind.com/?p=959.
10. عبد الله الغذّامي: ثقافة الوهم: مقاربات حول المرأة والجسد واللّغة، ط. 1، المركز الثّقافي العربيّ، بيروت، لبنان، 1995، ص. 40. وانظر أيضاً: سناء الشعلان، "العشق بطلاً في رواية [خوارم العشق السبعة] لجمال بوطيب"، مجلة أقلام الهند، مرجع سابق.
11. جمال بوطيّب: خوارم العشق السّبعة، رواية، مجلّة مقاربات، مجلّة العلوم الإنسانيّة، ط. 1، فاس، المغرب، 2009، ص. 45.
12: جمال بوطيب، الرواية، ص. 63.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها