أميرُ الأطباء.. أبو علي الحسين بنُ سِينَا

محمود عبد الصمد زكريا

 سبق إسحاق نيوتن بأكثر من ستة قرون، وسبق جاليلو بأكثر من خمسة قرون، وسبق ليوناردو دافنشي بأكثر من أربعة قرون، ودوبيني بتسعة قرون، واستحق بجدارة أن ينسب إليه قانون الحركة والسكون.. وهو المُعلّم الثالث بعد أرسطو والفارابي.

 أعيدت طباعة كتبه بأوروبا الحديثة نحو عشرين مرةً؛ بل بلغت طباعة بعض كتبه إلى أربعين طبعة.


تُرى أيُّ زمانٍ؛ وأيُّ مكانٍ؛ وأيُّ عَلَمٍ هو شخصيةُ حلقتنا اليوم؟

الزمان: سبعون قمريةً بعد المائة الرابعة من الهجرة المباركة.
ثمانون شمسيَّةً بعد المائة التاسعة من الميلاد.

المكان: قرية خرميش بالقرب من مدينة بُخارىَ بأوزبكستان.

الحدث: يتهيأ مهدُ العلم والفن لاستقبال رائد العلوم والفنون في عصر النور العربي الإسلامي، بينما كانت أوروبا تعيش في عصور الظلام.

العَلَمْ: هو الشيخ الرئيس؛ أميرُ الأطباء وأرسطو الإسلام: أبو علي الحُسين بن سينا.

نبحر إذن في هذه الحلقة على شراع مركبةِ التاريخ، بين أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس الهجري، حيث تتوزع حياة عالمنا الجليل على مراحل (زمكانية) عِدة:

المرحلةُ الأولى (المنبت)

في أوزباكستان، وحيث المولد والنشأةُ في شهر أغسطس عام ثمانمائةٍ وتسعين.. والده ومُعلمه الأول أحدُ مشايخ تلك الطائفةِ الإسماعيلية، والتي ترتكز أفكارها على نمطٍ من الأفلاطونية الجديدة؛ تنكرُ أو تتنكرُ لكثير من ثوابت الدين الإسلامي، وتعمل كالسوس الناخر في خلخة دعائمه الصلبة، وتهدد جل حضارته.

وهنا وقفتنا الأولى مع موقف هذا النبت الطالع كالجذع يشق طريقته بطريقٍ مختلف، يتبلورُ أول رأيٍّ مختلفٍ، أول رؤية رفض، لا يتبع الناشئ معتقدات الوالد؛ لكن لا يمنعه ذلك من أن ينهل من علم كثيرٍ من زُمرة من يجتمعون ببيت أبيه بمجلس علمٍ ومناظرةٍ، فيكسب بدايات الخبرة.

نعم؛ فقد كان والد ابن سينا حاكماً لإحدى القرى، وقد تلقى تعليمه الأول على يد هذا الوالد، والذي كان منزله مكاناً لتجمّعِ الناس من أجل التعلم في المنطقة. وبالتأكيد القاطع والمانع للشك؛ فقد كان الشيخ الطالع طفلًا استثنائياً ببراعتهِ، كان لديه ذاكرة قوية، يخزنُ في جنبيه القدرة للتعليم كما لم تتأتى تلك القدرة لغلامٍ قبله؛ ولهذا أدهش كل العلماء الوافدين إلى منزل والده. وما إن يبلغ سن العاشرة حتى يكونَ قد أتم حفظ القرآن الكريم، وامتلك ناصيةَ اللغةِ العربيةِ؛ وحفظ الكثيرَ من الشعر العربي.. ولكن مهلاً.. مهلاً سيكون الحفظ مع الشعر وناصية اللغة مفاتيح للرؤية، وعلاماتٍ لمواقف رأي قد لا يُحمد عُقباها فيما بعدُ.

ويدفعهُ نهمٌ لا يشبعُ للمعرفةِ إلى بعضِ أساتذة المنطق والغيبيات الأوسع أفقاً، فيروحُ لينهل من علمهم ما ينهل. وما إن يبلغ الثامنة عشر حتى يزهد في هؤلاء المُعلمين، ويواصلُ دراستَهُ بعصاميةٍ متفرَّدةٍ واعتمادٍ على النفس؛ ويروح يغوص عميقاً في علوم الطب والشريعة والغيبيات. وحين ينجح ابن الثمانية عشر في علاج الأمير/ نوح بن منصور السمندي، من مرضه الذي عجز كلُ الأطباءِ المشهورين في علاجهِ؛ يُسمح له بدخول المكتبة الغنية في قصر السمنديين، وهم أول عائلةٍ حاكمةٍ من أصولٍ محلية في فارس بعد الفتح العربي لها. واختلط الأمر على من أحرق تلك المكتبة الكُبرى؛ حتى إن البعض أشار بتلك التهمة لأمير الطب.

وبالتّأكيدِ؛ فسوف يكون لهذا أكبر أثرٍ في بلورة العقل وتثقيف الذات؛ فبدخول النجم الآتي لسماء العلم لتلك المكتبة الكُبرى؛ تنفتح خزائن جوهره المخبوء على دررٍ نادرةٍ، تتلاقى مع ما تكنزه تلك المكتبة من المخزون بها.

المرحلةُ الثانية (الانطلاق)

قلنا إن أمير الطب الآتي كان يرى بالعلمِ أكثر مما كان يرى كل شيوخ المنطق والفلسفةِ بكل فروع العلمِ، وكان يناقشهم ويرى أنهم أعطوه من ما يمتلكونَ من العلم.. فانطلق يثقّف نفسه؛ فاستوفى إقيلدس في الهندسةِ؛ وبطليموس الفلكي؛ ودرس الفلسفة اليونانية والعربية حتى دلف إلى الطب.

وفي جرجان -رحل إليها في سن العشرين والوالدُ قد رحلَ إلى مثواه- يبدأ في تأليف نفيستهُ الأولى؛ نعني هذا السفر الأشهر والموسوم بكتاب "القانون في الطب". كما عمل كرجل للقانون في جورجانج، وكان في خوارزم، ثم أصبح مدرساً في جورغان. ولعل أكثر ما يلفت النظر هو أنه واصل تقديم حلقات دراسية قيمة، على الرغم من نمط حياته الفوضوية وغير المستقرة.

المرحلةُ الثالثة (التحقق)

بداية؛ دعونا نتفق على أن الإنسانَ كيانٌ ملغومٌ؛ منغومٌ.. يعيش في عالم برّاني وعالم جوّاني مليء بالأسرار. وبشكل عام؛ فإن محاولة شرح الإنسان شرحاً كاملاً، أو شرح ظواهره الناتجة عنه، وتفسيره تفسيراً كاملاً، وإدخاله دائرة السببية المطلقة هو ضرب من الخيلاء.. ومحاولة التوصل إلى قوانين صارمة، أوتفسيرات كلية نهائية، وصيغ جبرية بسيطة تفسر كل شيء هي محاولة ساذجة بلهاء.

كما أن محاولة المعرفة الكاملة هي محاولة فاوستية شيطانية حمقاء..

لقد تنقل فيلسوف الأطباء ابن سينا عبر بلدان كثيرة.. فمن باورد إلى جوزجان إلى طوس، ومن طوس إلى شقذَان، ومن جاجرمِ إلى جرجان؛ ومن ثم لدهستان حيث مرض بها مرضاً صعباً، ولهذا عاد إلى جرجان.

وفي همدان.. رحلَ إليها مصطحباً أحلامَهُ؛ ومتسلحاً بإصرارٍ وعزيمةٍ قلّ نظيرهما، حيث تتحقق له بداياتُ شهرته، ويصيرُ وزيراً للأمير (شمس الدين البويهي)؛ مما يثير غيرة وحقد (تاج المُلك) ابن الأمير، فيعمل على التفريق بينه وبين والده ويدبر المكيدة، مستعيناً بالحراس الذين يكرهون ابن سينا أيضاً لحزمه معهم وشِدته عليهم؛ حتى يجعل الحراس في جانب وابن سينا في جانب، ويخير والده بينه وبينهم، فلا يجد الأمير شمس الدين مناصاً في اختيار الحراس، ويأمر بنفي ابن سينا بعد أن عزله من منصب الوزارة. لكن الشيخ الطبيب يختبئ عند أحد أصحابه أربعين يوماً، حتى يشتد مرض القولنج بالأمير، ويفشل جميع الأطباء في علاجه؛ فيرسل بالمنادين ينادون على ابن سينا، وعند ذلك يظهر لهم ويعود معهم ويعالج الأمير، فيعيده إلى منصب الوزارة ويقربه إليه أكثر.

إلاَّ أنّه لم يكد ينعمُ بهذه المكانةِ حتى تطال يدُ المنيةِ الأمير شمس الدين، فيُزجُّ بعالِمنا في السّجنِ.. لكنه استطاع الهروبَ إلى أصفهان بعد ذلك.

المرحلة الرابعة (حُلمه)

كان يحلمُ أن يُرسخ ويُجمِّل بإبداعه ملامح كل ما يذهب للتعبير عنه .. هذا الحلم الذي يدفع به دائماً لاستشراف مستقبل أفضل، وأكثر تطوراً ورقيَّاً للفن/ للإبداع/ للحياة.. للإنسان العربي على وجه الخصوص.

ومن أقواله:
هبطتْ إليكَ من المحلِ الأرفعِ
ورقاءُ ذات تعززٍ وتمنعِ
محجوبةٌ عن كل مُقلةِ عارِفٍ
وهي التي سفرتْ ولم تتبرقعِ

وفي أصفهان -جنوب طهران- يستقر عالِمنا صُحبة رهطٍ من أعوانِهِ لمدة أربعة عشر عاماً في طمأنينة، برعاية أميرها (علاء الدولة)، فينهي خلالها كتابَهُ القانون في الطب، وينتهي أيضاً من كتابِهِ الشهير (كتاب الشفاء).

لقد كان أبو عليٍّ الحُسين بن سينا -رحمهُ الله– عالماً وفيلسوفاً وطبيباً وشاعراً؛ سابقاً لعصرهِ بفكرهِ، يبدأ من حيث انتهى مَنْ سَبَقوه، ولا يتقيد بما وصلوا إليه بقدرِ ما ينتقدُه.. ثم يعرضهُ على مرآة عقله فيأخذ منه ما يوافق تفكيرَه وقلبَه، ويزيد عليه قائلاً: "إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين عن الخطأ والزلل".

لم يمنعه أو يحجبه اشتغاله بالعلم عن الانغماس في مشاكل واقعه ومجتمعه؛ فحارب التنجيمَ والتعتيم؛ ووقف ضد الأفكارِ الخاطئة في بعض نواحي الكيمياء؛ فشارك بإيجابية نادرة، وتفوّق في صنع نهضةٍ علميةٍ وحضارية.

كان الشيخ الرئيس متفائلاً في جميع مراحل حياته، يعتقد أن العالم الذي نعيش فيه أحسن العوالم الممكنة، وكان شديد الارتباط بموطنه الأصلي، فهو لم يغادر موطنه رغم اضطراب حياته فيه، وهو بذلك يخالف الفارابي الذي كان يجول البلاد، دون التقيد بأي رابطة طبيعية أو اجتماعية.

وهذا بعض مما أثر عنه من أقوال:
الوهمُ نصفُ الداء؛ والاطمئنان نصفُ الدواء؛ والصبرُ أول خطوات الشفاء.
 بُلينا بقومٍ يظنون أن الله لم يهدِ سواهم.
المستعد للشيء تكفيه أضعف أسبابه.
 العقل البشري قوّةٌ من قِوى النفس لا يُستهان بها.
حسبنا ما كُتب من شروح لمذاهب القدماء؛ فقد آن لنا أن نضع فلسفةً خاصةً بنا.
 الوقتُ يُنسي الألم ويُطفئ الانتقام.. بلسم الغضب ويخنق الكراهية، فيصبح الماضي كأن لم يكن.
امش في الصنادل حتى تمنحك الحكمة أحذية.
 ينقسم العالم إلى رجال لديهم خفة دم ولا دين لهم؛ ورجال لديهم دين ولا خفة دم عندهم.
مسكنات الوجع المشي الطويل، والانشغال بما يُفرح الإنسان.
 احذروا البطنة؛ فإن أكثر العلل إنما تتولد من فضول الطعام.
إن قوة الفكر قادرة على إحداث المرض؛ والشفاء منه.
 اجعل طعامك كل يوم مرَّة؛ واحذر طعاماً قبل هضم طعام.


وكما هي العادة الفاسدة التي لم يبرأ منها مجتمعٌ من المجتمعات في أي عصرٍ من العصورِ .. لم يبرأ عالِمُنا من حسد معاصريه وغيرتهم؛ فاتخذوا من نزعته العقلية؛ وجديد أفكاره ذريعةً للطعن عليه؛ واتهموه بالإلحاد والزندقة؛ فكان يرد كيدهم في نحرهم بقوله مُتحديّاً: "إن إيماني بالله لا يتزعزع؛ ولو كنتُ كافراً فليس ثمةَ مسلم حقيقيّ واحد على ظهر الأرض".

وتعدُ قصة (حي بن يقظان) من أهم الأعمال الأدبية التي ألفها الشيخ الرئيس في فترة سجنه؛ في هذه القصة آراؤه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة، أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي. وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل، بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة. تؤكد قصة حي بن يقظان على أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية.

وقد تركت آثارها على كثير من الجامعات والمفكرين، وتُرجمت إلى اللاتينية واللغات الأوروبية الحديثة؛ وقد أعاد كتابتها بعد ذلك السهروردي، ثم ابن طفيل، ثم ابن النفيس.

مؤلفاته

لقد ألف ابن سينا حوالي أربعمائة وخمسين كتاباً، ولكن الذي وصلنا منها هو مائتان وأربعون كتاباً فقط. منها مائة وخمسون كتاباً في الفلسفة؛ وأربعون كتاباً في الطب؛ والباقي في علم النفس والجيولوجيا، والرياضيات، والفلك، والمنطق.
وقد كتب كل مؤلفاته باللغة العربية ما عدا كتابين اثنين وضعهما بالفارسية، أحد هذين الكتابين هو بعنوان: "موسوعة العلوم الفلسفية"، والثاني: هو دراسة عن النبض، أصبح ذائع الشهرة لاحقاً.
 

خِتاماً؛ وبعد هذه الجولة في هذا العطاء المتميّز والمتنوع في شتّى الفنون؛ والتناوب بين سياقات متعددة ومتباينة؛ منظورة وغير منظورة؛ والتقاطب بين الحسي والعقلي؛ والجزئي والكلي؛ لإدراك الأشكال الوجودية المفتوحة، والأهداف العقلية والروحية، والتخيلية غير المنتهية؛ فإن ابن سينا يعتبر بحق أمير الأطباء، وفيلسوف الفلاسفة؛ لذلك لا غَروَ إن حُسد وضُويِق مِن طرف مَن عاصروه، بل وتربّصوا به الدوائر، حتى تُوفِي مسموماً على يد أحد مساعديه عن عمرٍ يناهز الثامنة والخمسين عاماً، ودفن في همدان بإيران، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

حاتم صلاح السروي

مقالة ممتعة ومفيدة وفيها إضاءة لجانب مهم في حضارتنا الإسلامية.حرصت على قرائتها كلها وركزت فيها، وأعجبني أسلوب الكاتب ولغته، وأغبطه على هذا الأسلوب وتلك اللغة وعلى المعلومات المهمة في هذه المقالة التي فيها تفصيل بغير إملال واختصار بغير إخلال. وقد أحزنتني نهاية ابن سينا، وحزنت لما لاحقه من حسد وحقد ومضايقات واتهام بالكفر والزندقة،. وأعجبتني الأقوال المأثورة التي قالها ابن سينا واستحضرها الكاتب، فكلها مفيدة ومهمة،. وبالجملة أنا سعيد لأنني قرأت هذه المقالة وسأحتفظ بها لكي أعاود القراءة فيها مرة أخرى.. وأتقدم بالشكر للكاتب الأستاذ محمود عبد الصمد زكريا، ولمجلة الرافد الإلكترونية المحترمة جدًا، داعيًا لمجلس تحريرها ورئيس التحرير الأستاذ عمر عبد العزيز بتمام العافية والتوفيق من الله

4/14/2022 2:06:00 PM

1