الحرية والسيطرة لدى سارتر!

كيف تكون أكثر ممّا ينبغي وإلى الأبد؟

ترجمة: الحسين أخدوش

أوغستين تالبورديل Augustin Talbourdel

 

الإنسان كائن حرّ، وهذا هو الافتراض الأساسي لفكر سارتر، إنّه التأكيد الذي يتكرّر كثيراً في نصوص وكتب هذا الفيلسوف. إنّه حرّ من حيث كونُه لا يوجد شيء يقيّده تماماً؛ لأنه -حسب سارتر- لا توجد طبيعة بشرية ثابتة. يوجد باستمرار، مؤكّداً ذاته من حيث يجب أن يناضل بشكل دائم من أجل الحفاظ على مكانته كإنسان مستقّل وحرّ. لكن تأكيد حرّيته يسبق كل الآخرين، مثل حكم يدين، أو مثل صيغة منقوشة في الكائن البشري. فبعد أن أُلقي به في الوجود بدون طبيعة محدّدة سلفاً، لا يكون لهذا الوعي الحر من خيار آخر -لمعرفة نفسه ولكي يكون موجوداً في العالم- غير القضاء عليه.

في هذه الحركة الأولى والبعيدة للوعي عن العالم، تتحقّق الحريّة الفطرية غير المشروطة للإنسان. وهذا الأخير يتواجد دائماً في "موقف"، حيث تتعايش مواقفه مع حريته؛ فمن حيث هو ملقى به في العالم، يحتفظ هذا الإنسان لنفسه بخيار الاهتمام به، أو بالابتعاد عنه؛ لكنّه يبقى عالقاً فيه رغم ذلك، وغالبًا ما يستمتع بهذا الموقف. "كلّ الأشياء تلقى ذاتها في هذا الوجود برفق ووداعة، تماماً مثل النساء المرهفات اللائي يستسلمن للضحك معتقدات أنّه (من الجيّد أن يضحك المرء) بصوت لطيف؛ وبهذا الشكل يستلقين، واحدة أمام الأخرى، واضعات ثقتهن العمياء في وجودهن". (الغثيان).

تتحقق هذه اللحظة الأولى من الحرية لدى سارتر عندما يتدخل الآخر في الموقف، فيراقبه بنظرته. غير أنّ الإنسان الذي يقع تحت أعين الغير، يتأثّر بنظرة الآخرين وتتقلّص حريته عبر العلاقة التشييئية التي تولّدها هذه النظرة. بعبارة أخرى، تسير الحرية والهيمنة دائماً جنباً إلى جنب في فلسفة سارتر، وفي هذه المسألة شيء من الجدل الهيغلي تقريباً - مع بعض الاختلافات الملحوظة. في البداية، الوعي الحر هو الذي يبرز ويحثّني على التصرّف، إذ إنّ مفهوم الهيمنة غير موجود بعد. لكن، الآخر الذي يريد السيطرة عليّ ينبثق على الفور، وفي سعيه ذاك يسلب حريتي بتشييئه للأنا. هنا تنشأ علاقة هيمنة متبادلة بين الذات والغير، ذلك لأنّ التشييء بيني وبين الآخرين أمر متبادل. فالإنسان يتراوح بين وضعية الخضوع ومكانة السيادة؛ فحين تمرقه نظرات الآخرين، يسعى لتجاوزها، فيصبح كياناً حرّاً، مثبتاً وجوده. غير أنّه، رغم ذلك، نقرأ في كتاب "الوجود والعدم": "ليس ممكناً للإنسان أن يغدو حراً أحيانًا وعبداً أحياناً أخرى، بل نحسبه حراً تماماً ودائماً، أو لن يكون أصلاً". لكن، ماذا عن الموقف السارتري؟ هل يعتبر الإنسان حرّاً بالفعل؟ أم أنّه ليس كذلك؟

الحرية والسيطرة في الفكر السارتري توأمان في الوجود غير منفصلين أبداً. فسارتر ما فتئ يؤّكد -مثله في ذلك مثل جان جاك روسو- بأنّ حريّة الإنسان تبدو ضروريةً؛ لأنّها مهدّدة من حيث كونها لا تتأكّد إلاّ على محكّ الاختبار، وطبعاً مع استثناء، هو أنّه لا توجد حالة طبيعية مفترضة لدى سارتر: حيث الوعي البشري لا يتحقّق إلاّ عبر تلك النقلة التي يتخطى فيها المرء ما يعوقه. ففي كلّ موقف يتعرّض له الإنسان، يكون وجود الغير فيه ضرورياً لحصول هذا الوعي. فالمؤكد إذن أنّ الوعي يولد من خلال حركته الحرّة التي يتمزّق فيها عبر العدم الذي يضعه أولاً على مسافة من نفسه، ثم على مسافة من الأشياء، وذلك ليشكل نفسه كوعي "من أجل ذاته". لكن مع ذلك، فإنّ ملحمة الوعي البشري لا تندرج مع سارتر ضمن مجال المعرفة كما هو الشأن عند هيغل، ولكن في مجال الوجود. أيضاً، ليس يوجد في فكر سارتر ما يشبه حالة الطبيعة عند روسو، حيث تتمتع فيه الحرية بعفويتها الأنطولوجية: "وحيد وحرّ". فمثل هذه الحرية بالنسبة إليه تشبه إلى حدّ ما الموت. لذلك نقرأ في نصّ "الغثيان": إنّ الحرية مؤكدة في الوجود فقط، حيث لا شيء يسبق الوجود وفقًا لتصوّر سارتر الوجودي. بتعبير أدق، يقوّض وجود الآخر الوعي بالذات، وهذا الأمر هو الذي يُعجّل "بسقوطي الأصلي" على حدّ تعبير جان بول سارتر. فلا شيء يميّز الحالة التي سبقت السقوط عن تلك التي تليها، إلاّ أن التأكيد على حرية الإنسان سوف يصبح ثانوياً بعد ذلك. فالكائن الواعي يخضع للهيمنة قبل أن يصبح حرّاً، إلاّ أنّه يظل حرّاً مع ذلك.

إنّ الوعي البشري المُلْقى به في موقف ما، لديه القليل من الوقت لممارسة حريته، ويتم ذلك من خلال نفي الوعي الآخر، بالتالي إبعاده عن الظهور والتهديد. ينظر الآخرون إليّ، باعتباري وعي آخر، وعلى الفور أرى نفسي لأنّهم يرونني. السيطرة الأولى التي يعاني منها الآخرون، هي التي تُولّد في داخلي شعوراً بالخزي، مثل من يُقبض عليه، وهو يشاهد من وراء سياج. يستخدم سارتر هذا المثال المُحَدّد في كتابه "الوجود والعدم"، حيث يعتبر أنّني: أرى نفسي في نفسي، ألاحظ نفسي وأشاهد من وراء سياج وأشعر بالخجل. وتنكشف السيطرة الثانية من خلال نظراته، فإن الآخر يجسّدني، لأنه يضعني على نفس مستوى الموجودات الجامدة، مثل باقي الأشياء الخاملة التي يلاحظها؛ ولأنّ العار يفسح المجال للذل، فإنّ حرية الآخرين تذل حريتي. هكذا يهيمن الآخر عليّ لأنه يختزلني في بعض الصفات، أو في الخصائص السلبية والخطيئة التي تحبسني في هوية ثابتة. لذلك، فقد كتب سارتر في كتابه "الوجود والعدم": "إنّ جوهر العلاقة بين وعي ووعي آخر هو الصراع". فجوهر الوجود الإنساني يكمن في الصراع بين الحرية التي هي جوهر الإنسان -الجوهر الذي خلف الوجود عند سارتر- والسيطرة التي هي حالة هذا الإنسان ذاته. "الجحيم حرية الآخرين"، وهي العبارة والقولة الشهيرة التي تنسب لـ"وي كلو" (Huis clos)، حيث الوجود البشري هو نطاق هذا الجحيم الذي يؤثر في الأنا، ذلك أنّ الآخر فيه يسرق العالم منّي وينزع الطابع الفردي عني، بل يشلني ويتركني كشيء من بين الأشياء الأخرى.

الشخص الآخر ليس الوحيد الذي يمارس السيطرة علي. يخضع الإنسان للسيطرة من منبع آخر، لم يعد مرتبطًا بوجود نظرة تجسيدية، ولكن بتأكيد حريته. بمجرد أن تدرك الحرية نفسها، ويدرك ذلك الوعي لذاته أنه يجب أن يختار نفسه بشكل دائم باعتباره "التزاماً متجدداً دائماً يجب أن يعيد تشكيل الذات"، يسكنها شعور بالكرب. وفي الحالة التي يدرك الإنسان أنّه حتى لو لم يكن يعاني من ضرورة تحديد سلوكه، فإنّه لا يستطيع التغلّب على ضرورة حريته، لأنّها ضرورية لحالته؛ وبمعنى آخر، فهو محكوم عليه بأن يكون حرّاً رغم كلّ الظروف. يجعل هذا الحكم "الأنا" يفضل مكانة العبد على منزلة السيّد، وذلك لتجنب حرج الحرية؛ فهو يخترع الحتمية، ويسلّح ذاته بـ"النية السيّئة". فمن ناحية، يضع الخيار الأخلاقي في يد المسيطر: التنين، الأمير، الإله، القيمة أخلاقية... ومن ناحية أخرى، يدع عجزه وجبنه يسيطران عليه، وهو عندئذٍ يتوهم أنّه حرّ مثل الإنسان الذي يتجاهل الأسباب التي تحدّده مكتفياً بالشعور الوهمي بالحرية، كما يعتقد اسبينوزا.

أمّا لدى سارتر، فإنّ المرء يكتفي بإظهار "سوء النية"، فيعتبره ذاته كشيء، ويختزل نفسه في ذاته، ثمّ يهرب من الحرية. فالنادل يلعب دور النادل، والبورجوازي يقلد البرجوازية... باختصار، حتى إذا لم يسيطر عليه الآخرون، فإنّ الإنسان يترك نفسه مُسيطراً عليه، وذلك من أجل تهدئة القلق الذي هو من نتاج خياله، وهو الذي يعد مقرّ الحرية. وهكذا، يتحول الإنسان في حريته إلى مثل السجين في زنزانته؛ وقصّة وجوده تبدأ بالحرية، وتنتهي بها، لكن بين الاثنين لا توجد سوى الهيمنة السيطرة.


المقال المترجم على منصة مجلة La Cause Littéraire
https://www.lacauselitteraire.fr/etre-de-trop-pour-l-eternite-liberte-et-domination-chez-sartre-partie-1-par-augustin-talbourdel
* أوغستين تالبورديل (Augustin Talbourdel): كاتب فرنسي ومحرر في مجلّة Philitt، قسم مراجعة الفلسفة والآداب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها