سردية العنوان بين البنية اللغوية والدلالة الرمزية

رواية "أيام بغداد" للكاتب خليل الجيزاوي أنموذجاً

د. إبراهيم سند


رواية (أيام بغداد) للكاتب خليل الجيزاوي صدرت عن دار المعارف بالقاهرة عام 2020م، وفيها يقدم الكاتب بطل روايته من خلال شخصية الطالب المصري الذي يسافر خلال فترة إجازته الصيفية؛ ليتحصل على ما يعينه على أداء دراسته؛ فيكشف الكاتب من خلال سرده الروائي عن الفقر المدقع الذي تمر به أغلبية الأسر المصرية في تلك الفترة الزمانية، وتستمد الرواية أهميتها السردية في توثيق بعض الأحداث التاريخية في الحرب العراقية الإيرانية (الرواية، ص: 144-145)، وتقديم بانوراما عسكرية عن هذه الحرب التي استَعَرَّ لهيب نارها بين الطرفين (الرواية، ص: 176)، وتدور أحداث الرواية بين عدد من الدول العربية (مصر/ الأردن/ العراق)؛ ليؤكد الكاتب من خلال الأحداث السردية للرواية على وحدة الوطن العربي ووحدة أراضيه.



عتبة العنوان

لقد حظي العنوان باهتمام كثير من النقاد الغربيين، أمثال: جيرار جينيت Gerard Genette في كتابه Seuils، وترجم بـ(عتبات) عام 1987م، وليو هوك Leo Hock في كتابه Lamarque du titre، وترجم بـ(سمة العنوان) عام 1973م، وروبرت شولز Robert Schooles في كتابه اللغة والخطاب الأدبي، وجان كوهين في كتابه بنية اللغة الشعرية...وغيره1.

والعنوان هو أولى العتبات النصية للعمل الإبداعي، ويتسم بالإيجاز والاختصار مع تحقيق مبدأ (قصدية المتكلم)، ومبدأ (الإفادة والقبول) لدى المتلقي، وهو ما تسعى إليه اللسانيات التداولية في النظريات اللغوية الحديثة، وهو بمثابة اللوحة الفنية التي يبدعها الكاتب؛ ليربط بين عتبة العنوان والبناء السردي للرواية، إضافة إلى العتبات النصية الأخرى في البناء الفني للرواية. وقد وظف خليل الجيزاوي التقنيات التعبيرية في صياغة العنوان بطريقة لغوية بارعة لجذب انتباه القارئ، حيث يمثل العنوان مدخلًا ضروريًّا لقراءة النص السردي، وفهم خصوصياته، وفك شفراته اللغوية، وتحديد أبعاده الدلالية، والوقوف على أهم خصائصه التداولية؛ فيختزل الكاتب نصه الروائي في بنية العنوان، ويستطيع القارئ أن يُكَوِّن –من خلال البنية اللغوية للعنوان ودلالته الرمزية- فكرة شاملة عن النص الروائي وعتباته النصية المتعددة، وهو ما يدل على ارتباط العنوان بالنص الروائي؛ لأنه مفتاح مغاليق النص، وهو بمثابة تلخيص النص الروائي وإيجازه في عبارة واحدة، سواءً أكانت كلمة أم أكثر، "وغالباً ما يكون كلمة أو شبه جملة، ولا يتجاوز حدود الجملة إلا نادرًا"2، حيث يلجأ الروائي إلى تكثيف النص اللغوي في عبارة تعبر عن مضمون عمله السردي؛ لتصبح هذه العبارة الموجزة (أيًّا كان شكلها أو هيئتها التركيبية) هي عنوان عمله الروائي.

البنية اللغوية والدلالة الرمزية

يتكون عنوان الرواية من كلمتين فقط، الكلمة الأولى: المضاف (أيام)، والكلمة الثانية: المضاف إليه (بغداد)، وهو ما يُطلَق عليه في الدرس اللغوي: المركب الإضافي = (أيام بغداد)؛ لتشير العتبات النصية في هذا العنوان إلى جماليات البنية الزمانية التي استعملها الكاتب من خلال دلالة لفظ (أيام) الذي جاء في صيغة الجمع، ثم إضافة هذا اللفظ اللغوي إلى المكان [بغداد] ليضفي بعدًا جماليًّا في تقنيات السرد الروائي من خلال عنصر الزمكانية.

ويقوم الكاتب من خلال التقنيات السردية عبر الفضاء الدرامي للرواية بفك شفرات هذا العنوان ليفهم القارئ فيما بعد ما المقصود بهذا العنوان الذي اختاره بعناية فائقة؟ ثم لماذا صاغه في هذا القالب التركيبي دون غيره من القوالب التركيبية الأخرى؟ وقد جاءت بنية لفظ (أيام) جمع كثرة على وزن (أَفْعَال)؛ دلالةً على كثرة هذه الأيام التي عاشها الراوي في مدينة (بغداد)، فهي ليست أيامًا قليلة أو معدودة، بل تخَطَّت الأيام والشهور، وامتدت ذكراها خلال سنين العمر؛ لذلك ناسبها جمع الكثرة لا القلة، وقد وُفِّق الكاتب في صياغة هذه البنية الصرفية على إحدى جموع الكثرة تعبيرًا عن هذه الأيام التي امتد صداها في ذاكرة العمر.

وقد أفصح الكاتب منذ اللحظة الأولى [في البنية اللغوية للعنوان] عن المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية؛ لذلك يتفاعل العنوان مع عنصر المكان تفاعلًا مباشرًا، وهو [بهيئته اللغوية والتركيبية] التي اختارها الكاتب في صورة المركب الإضافي يعد مفتاحًا لقراءة النص، والولوج إلى عوالم أسراره؛ فيثير في نفسية المتلقي تشويقًا إلى القراءة، ويتفاعل مع البناء السردي، وينجذب بشدة إليها.

ويكتسب عنوان الرواية أهميته اللغوية من سياق المركب الإضافي، بإضافة لفظ (أيام) إلى (بغداد) من أجل التعريف والتخصيص، بقضاء هذه الأيام في مدينة (بغداد) دون غيرها من المدن الأخرى.

وعنوان الرواية يثير عدة تساؤلات في ذهن القارئ أو المتلقي، ويفتح الباب على مصراعيه للتأويل، وإعمال ذهن القارئ في فهم النص اللغوي للرواية، ولماذا اختار الكاتب كلمة (أيام) دون غيرها من الكلمات الأخرى الدالة على الوقت أو الزمان؟ ولماذا جاءت هذه الكلمة بهذه الصيغة الصرفية؟ ولماذا (بغداد) دون غيرها من المدن الأخرى؟ كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير والكثير تفتح بابًا لتفاعل القارئ مع البنية اللغوية للرواية؛ ليتحقق لديه مبدأ الإفادة والقبول.

إن العنوان يمثل عتبة من عتبات النص الروائي؛ إذ يحيل إحالة خارجية إلى ما هو خارج النص، فالقارئ يجب أن يكون على معرفة بمدينة (بغداد) التي تعود بجذورها التاريخية إلى أعماق التراث الإسلامي، فقد كانت حاضرة الخلافة العباسية التي أطاح بها المغول، واجتاحوا بعدها بلدان العالم الإسلامي، الواحدة تلوى الأخرى، ولم يستطع التصدي لهم إلا المصريون في موقعة (عين جالوت) بقيادة سيف الدين قطز، كذلك يجب على القارئ أن يكون على معرفة بأهميتها الثقافية والعلمية كإحدى العواصم الحضارية، وأهميتها الاقتصادية فقد كانت قِبْلة الشباب الخريجين يقصدونها بحثًا عن العمل، وهو ما تدور حوله أحداث الرواية.

رواية السير ذاتية

إن الكاتب يبدع في اختيار عنوان عمله الإبداعي من الناحية اللغوية (التركيبية والدلالية)؛ لتتحقق الوظيفة الإغرائية3 في جذب انتباه القارئ، وعنوان رواية (أيام بغداد) يعطي المتلقي شحنة دلالية ليمهد له طريق القراءة الأولية؛ ليكتشف القارئ (من خلال الأحداث السردية) أن الكاتب قد تَجَسَّد شخصية الراوي –(لذلك تندرج هذه الرواية ضمن السرد السير ذاتي)- الذي عاش هذه الأيام الخوالي من شبابه في مدينة بغداد، التي كان يقصدها الشباب في تلك الفترة الزمانية من ثمانينات القرن الماضي؛ ليتجلى لقارئ الرواية أهمية اكتشاف العتبات النصية في صياغة عنوان العمل الروائي، وإبراز دلالتها الرمزية، ودلالة العنوان تحيل مباشرة إلى مكان جغرافي، ذات وظيفة إيحائية في البناء السردي للرواية، فقد ربط الكاتب بين دلالة المكان والنص الروائي من خلال عتبة العنوان؛ ليتضح للقارئ سيميائية العنوان، وأهميته في العمل الروائي من حيث أبعاده الدلالية والرمزية.

رواية أدب الرحلات

تندرج رواية (أيام بغداد) ضمن الروايات التي تجسد المكان، فهي تضفي عليه أبعادًا جمالية بوصفه إحدى مقومات البنية السردية، مما يبرز السبب الرئيس في اختيار هذه الرواية (خاصة)؛ لأن عنوانها يرتبط بالمكان ومقوماته السردية، وهو ما يؤدي إلى أسطرة الواقع، والرواية بمثابة الخريطة التي تحدد المواقع الجغرافية، والحدود الفاصلة بين الدول العربية، تقدم وصفًا دقيقًا لجغرافيا المكان في المنطقة العربية، فقد وصفت البلدان وصفًا دقيقًا، خاصة المناطق الحدودية بين كل من: (مصر)، و(الأردن)، وبين كل من (الأردن)، و(العراق)، إضافة إلى وصف المكان الروائي في كل من هذه الدول (مصر، والأردن، والعراق)؛ ولهذا يمكن إدراج الرواية تحت فن أدب الرحلات.

وإذا كان عنوان الرواية يحمل اسم إحدى العواصم العربية (بغداد)، فإن الدلالة الرمزية لهذه اللفظة توضح جماليات المكان في البناء الفني للرواية، فهي بمثابة الأطلس الجغرافي الذي يهتم بالسرد المكاني لمقامات الأولياء في بلاد العراق، وتعطي تفصيلًا دقيقًا لهذه المزارات السياحية، ويقدم السارد شخصية البطل، وهو يتنقل في عمله من مكان إلى آخر؛ ليستقر به المقام في العمل بأحد الفنادق التي يكثر حولها مقامات الأولياء الصالحين التي يقصدها السائحون من كل مكان (السياحة الدينية)، وهذه الأماكن ترتبط دلاليًّا بعنوان الرواية من خلال لفظة (بغداد).

 


الهوامش والإحالات المرجعية:
1. ينظر: سيمياء العنوان، بسام موسى قطوس، صـ: 33، الطبعة الأولى، مكتبة كتانة، إربد، عمان، الأردن، 2001م.
2. العنوان وسميوطيقا الاتصال الأدبي، د. محمد فكري الجزار، صـ: 21، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998م.
3. حول وظائف العنوان، ينظر: عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، عبد الحق بلعابد، صـ: 73-88، الطبعة الأولى، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 1429هـ/ 2008م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها