الأميركي "جوناثان" والبحث في تاريخ ما قبل الطِّباعة!

طايع الديب



"انقضى نحو 99.9% من تاريخ البشر على وجه الأرض، ولم يقرأوا أو يخطوا بأيديهم قط، وظل الأمر جارياً على هذا المنوال حتى عرفوا الكتابة قبل خمسة آلاف عام، فانتقلت المجتمعات البشرية إلى آفاق أخرى".



بهذه العبارات، يُبرز الأكاديمي الأميركي جوناثان بلوم في كتابه "قصة الورق.. تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعة"، أهمية توصل البشرية إلى هذا الاختراع الفارق في تاريخ الحضارة، على أيدي الصينيين القدامى الذين احتفظوا بطريقة صناعته زمناً، واعتبروها سراً من "أسرار الدولة". ويسجل الكاتب مدى إسهام الورق في الحضارة العربية الإسلامية، وكيف قدّم العرب "صناعة الورق" للعالم الحديث، معتبراً أن تلك إحدى مآثر العرب الكبرى على الحضارة الإنسانية.

يرصد "بلوم"، وهو أستاذ مادة الفن والعمارة الإسلامية في جامعة بوسطن الأميركية، كيف أن الورق اختُرع في الصين قبل قرن من ميلاد المسيح. ومع ذلك، فقد انقضى ما يقرب من ألف عام قبل أن يستخدمه الأوروبيون للمرة الأولى، بل لم يصنعوه بأنفسهم إلاّ بعد اتصالهم مع العرب في القرن الحادي عشر الميلادي.

ويقول غوستاف لوبون، المؤرخ الفرنسي: "ظل الأوروبيون في القرون الوسطى زمناً طويلاً لا يكتبون إلاّ على رقوق مصنوعة من جلود الحيوانات، كان ثمنها المرتفع يقف عائقاً أمام انتشار المؤلفات المكتوبة. وسرعان ما أصبحت هذه الرقوق نادرة الوجود، حتى لقد اعتاد الرهبان على محو مؤلفات اليونان والرومان، ليستبدلوا بها مواعظهم الدينية، ولولا العرب لضاعت معظم المؤلفات الكلاسيكية، التي ادعى الرهبان أنهم حفظوها بعناية داخل الأديرة".

تعلّم الأوربيون، وفق المؤلف، صناعة الورق من مسلمي الأندلس الذين حكموا إسبانيا، وأسسوا هناك أول مصانع لصناعة الورق في أوروبا قاطبة، حيث قام صُناع الورق المسلمون بتحويل خِرق الكتان وألياف النفايات الأخرى إلى مادة قوية ومرنة صالحة للكتابة، عن طريق خفق الألياف أولاً، باستخدام المطارق الثقيلة التي تعمل بقوة دفع تيار الماء، ثم جمع اللُّب الرطب الناتج عن عملية الخفق، ونشره على الألواح يدوياً، ثم تجفيفه ليصبح ورقاً في النهاية.

ويوضح المترجم د. أحمد العدوي، في مقدمته، أن "الكتاب يعتني بدراسة الآثار التي ترتبت على انتشار الورق وشيوعه، بدءاً من التغيير الجذري في طرق التفكير ونظم التدوين، ولاسيّما في علوم الرياضيات والجغرافيا وغيرها، إلى التغييرات التي طرأت على الفنون والعمارة الإسلامية نتيجة استخدام الورق وسيطاً في نقل التصميمات والمخططات قبل تنفيذها. وكيف أدى استخدام الورق وسيطًا، بمرور الوقت، إلى فصم عُرى التوحد التاريخي بين الحِرَفي المنفِّذ والفنان المُصمم".

ظاهرة "انفجار الكتب"

يشير "بلوم" إلى أن ثقافة الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت مؤسسة، بالدرجة الأولى، على السماع والحفظ والمشافهة. ورغم أن العرب عرفوا الكتابة، إلاّ أنها لعبت دوراً هامشياً في تلك الحقبة من التاريخ، حيث مثلّت القصيدة الشكل الأسمى للكلمة المسموعة في الثقافة العربية قبل ظهور الإسلام. ولم تُكتب المعلقات وقصائد الشعر الجاهلي إلاّ بعد بضعة قرون من نظمها. بيد أن العرب عرفوا الكتابة قبل الإسلام، فقد عثر الآثاريون في اليمن على نقوش عربية جنوبية تعود إلى تاريخ موغل في القدم قبل الميلاد.

بمرور الأيام، وفي عام 751م، اصطدم جيش القائد العباسي أبو مسلم الخراساني بجيش صيني، على مقربة من نهر "طلاس" الواقع بين دولتي كازاخستان وقرغيزستان حالياً. وأسر المحاربون المسلمون خلال تلك المعركة صُناع ورق صينيين مهرة، جرى نقلهم فيما بعد إلى بغداد، وكشفوا للعامة عن أسرار صناعة الورق.

وخلال العصور الإسلامية المتعاقبة، شجع الحكام مؤلفي الكتب على التصنيف في إدارة شؤون الدولة من منظور شرعي، كما دفعهم الفضول العام أيضاً إلى وضع مصنفات في الشعر والفلسفة والجغرافيا والملاحة والرياضيات والعلوم التطبيقية، فضلاً عن علوم الفلك والتنجيم والطب والكيمياء. وفي نفس الوقت، شهدت تلك الحقبة إقبالاً عظيماً على تجميع مجموعات من القصص وغيرها من أساطير الأقدمين باللغة العربية. ومن هنا أصبح الورق هو "الوسيط الرئيس للذاكرة"، بدلاً من المشافهة القديمة. وبذلك، فتح العالم الإسلامي باباً من أرفع أبواب الحضارة الإنسانية.

ويعزو المؤلف سبب ضخامة المكتبات العربية في العصور الوسطى، مقارنةً بنظيراتها في أوروبا، إلى ظاهرة "إجازة النسخ" من المؤلفين العرب والمسلمين، موضحاً أنه لم يكن من الممكن اعتبار نسخة من الكتاب أصلية ونفيسةً، ما لم يكن صاحبها مُجازاً ومُرخصاً له من قِبل المؤلف نفسه.

وكما استندت صحة الحديث النبوي الشريف إلى سلسلة متصلة من الرواة الثقات، فإن صحة نسخة الكتاب استندت إلى سلسلة من الإجازات كانت تعود في النهاية إلى المُصنِف (المؤلف) رأساً. وأدى هذا النظام في العالم الإسلامي إلى "ظاهرة انفجار الكتب".

وعلى النقيض من الوضع في العالم الأوروبي، حيث قام مُصنِف واحد بنسخ نسخة واحدة من كتابه على مخطوطة من الرَّق، يضعها غالباً على المنضدة أمامه، كان يسع نظيره في العالم الإسلامي أن يستخرج عشرات النسخ المدونة على الورق في قراءة واحدة فحسب، وكل واحدة من تلك النسخ المجازة، يمكن أن تولّد عشرات النسخ الأخرى في جلسة قراءة واحدة أيضاً. وفي خلال جيليْن من القراءة، يمكن أن يتجاوز عدد النسخ مائة نسخة من الكتاب، أو تزيد. وكان هذا النظام العبقري فعّالاً على نحو استثنائي في زيادة تداول الكتب، بل إنه يشرح لنا كيف أمكن للمكتبات الإسلامية في القرون الوسطى أن تحتوي على عدد هائل من الكتب، في مجتمع لم يعرف الطباعة.

ولكن، السؤال الذي يطرح نفسه على المؤرخين هو: لماذا تتجاهل الأدبيات الأوروبية الدور الكبير الذي لعبه العرب في تاريخ صناعة الورق؟

يجيب "بلوم": "قد يعود تجاهل الغرب للدور الإسلامي في تاريخ الورق جزئياً، إلى ميل غير علمي خبيث، يرمي إلى تجاهل الإسهامات الرئيسة للحضارة الإسلامية، ولاسيما في حالتنا هذه، بوصف أن هذه الحضارة كانت مجرد "وسيط" لنقل الأفكار، حيث يفضل أصحاب هذا الميل البحث عن أصول صناعة الورق في مكان آخر. غير أنه للحقيقة والتاريخ، فإن التطويرات العربية الإسلامية لصناعة الورق، هي التي أسهمت في جعل اختراع يوهان غوتنبرغ للطباعة ذا جدوى".
 

لماذا تأخرت الطباعة؟

انتشرت "صناعة الوِراقة" على نطاق واسع في العالم الإسلامي بحلول نهاية القرن الثاني الهجري؛ وانقسمت بعد ذلك إلى عدة فروع، شملت النسخ والتصحيح والتجليد وبيع الورق والقراطيس. وصارت للورّاقين خلال القرون التالية أسواق خاصة بهم، كانت مصدراً من مصادر إثراء مكتبات الدولة في تلك الفترة، مثل "بيت الحكمة" في بغداد، و"دار العلم" في القاهرة.

ويقول المؤرخ الدانماركي يوهانز بيدرسن: "صحيح أن الورق اختُرع في الصين وليس في بلاد الإسلام، ولكن المسلمين استخدموا مواد جديدة سهلت تصنيعه على نطاق واسع، وابتكروا في ذلك أساليب تُعد حديثة بمقاييس العصر. وبفعل ذلك؛ حقق المسلمون مأثرة ذات مغزى حاسم وأهمية كبرى، ليس لتاريخ الكتب الإسلامية فحسب، بل لعالم الكتب كله".

وبدأ كتبة دواوين الحكم في استخدام الورق لتدوين المعاملات الحكومية والدعوى القضائية، وغيرها، بأمر من الفضل بن يحيى البرمكي، وزير الخليفة هارون الرشيد، الذي تحمس بشدة لصناعة الورق واستخدامه بشكل رسمي. لهذا، تأسس خلال عهد الرشيد أول مصنع للورق في بغداد عام 178هـ / 794م، وتولى إنشاءه الفضل بن يحيى، فانتشرت صناعة الورق بسرعة فائقة في كل أنحاء العالم الإسلامي.

ويلفت المؤلف إلى أن سبب انحياز كُتاب الدواوين إلى الورق، على حساب وسائط الكتابة الأخرى مثل الرَّق والبردي، هو أن الورق كان يمتص المِداد بكفاءة، فيصعب بذلك محو الكتابة المدوّنة على سطحه، من دون أن يترك ذلك المحو أثراً ملحوظاً. ولذلك كانت الوثائق المدونة على الورق أقل عرضة للتزوير من تلك المكتوبة على البردي والرَّق.

وأسهمت صناعة الورق في تعزيز اقتصادات البلدان الإسلامية، وظهور أشكال جديدة من التعاملات المالية لم تكن معروفة من قبل: "باتت معظم تجارة الجملة، بل والتجزئة أيضاً، تتم على نحو أساسي من خلال الائتمان بالدين المسجل على وثائق من الورق. وكانت العمليات التي تنطوي على السداد نقداً نادرة".

من جهة ثانية، استفاد الخطاطون العرب الأوائل من مزايا توافر الورق على نطاق واسع، ورخص ثمنه، في كتابة ورسم الخط العربي، فأدخلوا عليه المزيد من الزخارف وطرق التزيين والتجليد والتذهيب، وهي العوامل التي يرى المؤلف أنها تضافرت بمجملها لإنتاج المخطوطات العربية والإسلامية المميزة، والتي ما زالت تُدرس في كبريات الجامعات العالمية حتى الآن.

ورغم أن المسلمين عرفوا صناعة الورق مبكراً، فإن بعض الحكام وقفوا موقفاً غريباً من الطباعة. يقول المؤلف إن السلطان العثماني "محمد الفاتح" قاد نهضة ثقافية واسعة في القرن الخامس عشر الميلادي، وعُني بالمخطوطات العربية واليونانية عناية فائقة، لكنه رفض إنشاء أي مطبعة في الأقطار الخاضعة لحكمه، مع أن المطابع كانت قد بدأت تنتشر في أقطار أوروبا وقتها.

ويُرجع "بلوم" ذلك الموقف من الطباعة إلى سبييّن، الأول هو التبجيل الشديد الذي أبداه المسلمون للكلمة المكتوبة بخط اليد. أمّا السبب الثاني فهو أن المطبعة هددت معيشة آلاف النسّاخين الذين كانوا يتكسبون من نسخ الكتب، حيث قُدر عدد النُساخ العاملين في مدينة الأستانة وحدها آنذاك بـ 80 ألف ناسخ، وهو مؤشر على توسع صناعة "نسخ الكتب" في العالم الإسلامي برمته، والمدى الواسع لمجتمع القرّاء والمتعلمين وقتها.

واستمر هذا الوضع حتى منتصف القرن الثامن عشر، عندما أنشأ شخص يُدعى "إبراهيم متفرقة" أول مطبعة للغة العربية في الشرق الأوسط. وقدّم هذا الرجل عريضة مكتوبة إلى الصدر الأعظم داماد باشا في الأستانة، للسماح له بطباعة الكتب، حذر فيها من "فوات العلم" بسبب عدم إتقان المسلمين للطباعة، وعدّد الفوائد التي تعود على الناس من الاحتفاظ بالكتب المطبوعة بدلاً من تلف المخطوطات، أو ضياعها في نهاية المطاف.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها