الإنسان من أجل ذاته.. مقاربة إيريك فروم

بورجا مريم



"الإنسان من أجل ذاته" عُنوانُ كتاب إيريك فروم، وهو عنوانٌ لا شك أنه اختير بعناية فائقة، فالوجود الإنسان لكي يكون وجوداً فعلياً متزناً، يفرض الانطلاق من الذات الفردية وبناءها بناءً محكماً منظماً لنصل إلى الذات البشرية الجامعة. وهذه رسالةٌ وأمانةٌ ليس هيّنة بل هي رسالة ثقيلة، فأن يعي الإنسان دوره الحقيقي في هذا الكون الجامع، ويستعد لبناء الحضارة الكونية فتلك مهمة صعبة لكنها جد نبيلة، خاصة في عالمنا المعاصر الذي يعرف بعض التوترات. ونشارك القارئ هنا في هذه المساهمة مقاربة إيريك فروم لموضوع الإنسان، من حيث استعراض المشكلة، وفن العيش في إطار المحبة، ومن حيث استحضار مسألة صوت الضمير الإنساني.

 


المشكلة

لقد استطاع الإنسان بفضل عقله بناء عالمٍ مادي يفوق واقعه حتى أحلام الحكايات العجيبة واليوتوبيات ورؤاها، فسخر الطاقات الطبيعية التي تمكن الجنس البشري من تأمين الشروط المادية الضرورية لوجوده. وعلى الرغم من أنه لم يبلغ بعد كل أهدافه، فيكاد لا يكون ثمة شك في أنها في متناول الإنسان أن مشكلة الإنتاج -التي كانت مشكلة الماضي- قد حُلَّت. ويدرك الإنسان الآن، وفي المرة الأولى في تاريخه، أن فكرة وحدة الجنس البشري والتغلب على الطبيعة من أجل الإنسان لم تعد حلماً بل أصبحت إمكاناً واقعياً.

مع ذلك، يشعر الإنسان الحديث أنه قلق وبأن تحيّره يزداد. ويعمل ويكافح... وبينما تزداد سيطرته على الطبيعة يشعر بالعجز تجاه حياته الفردية وفي المجتمع. وعلى حين يخلق أدوات جديدة، وأفضل للهيمنة على الطبيعة، فقد غدا ناشباً في شبكة تلك الوسائل، وفقد رؤية الغاية التي وحدها تضفي المعنى على إنسانيته. فبينما أصبح سيد الطبيعة؛ غدا عبد الآلة التي بنتها يداه. وهو بكل معرفته عن المادة جاهل فيما يتصل بأهم مسائل الوجود الإنساني وأكثرها أساسية مثل: كيف ينبغي أن يعيش الإنسان؟ وهنا، يستحضر إيريك فروم مسألة الأخلاق.
 

فلسفة الأخلاق الإنسانية:  العلم التطبيقي لفن العيش

يتساءل فروم: إذا لم نتخلَّ، كما تتخلى النسبوية الأخلاقية، عن البحث عن معايير السلوك الصحيحة موضوعياً، فما الضوابط التي يمكن أن نجدها لمعايير كهذه؟

يعتمد نوع هذه الضوابط على نمط النظام الأخلاقي التي ندرس معاييره. وبالضرورة تختلف الضوابط في فلسفة الأخلاق التسلطية اختلافاً أساسياً عن الضوابط في فلسفة الأخلاق الإنسانية.

هنا يميز فروم بين الفلسفتين، فيذكر أن فلسفة الأخلاق التسلطية تُنكر قدرة الإنسان على معرفة الخير والشر؛ ومانح المعيار هو على الدوام سلطة تتجاوز الفرد. ولا يتأسس نظام كهذا على العقل والمعرفة، بل على مهابة السلطة وشعور التابع بالضعف والاتكال. بينما تقوم فلسفة الأخلاق الإنسانية على مبدأ: الإنسان نفسه هو وحده الذي يمكن أن يحدد مقياس الفضيلة والإثم، -وليس السلطة التي تتجاوزه- فالأساس يقوم إذن على أن الخير هو ما خير للإنسان والشر ما هو ضار للإنسان؛ والمقياس الوحيد للقيمة الأخلاقية هو حسن حال الإنسان. ففلسفة الأخلاق الإنسانية إذن يمكن القول بأنها متمركزة حول الإنسان.

صلة بذلك يتساءل فروم: لماذا فقد عصرنا مفهوم الحياة بوصفها فناً؟ يبدو في نظره أن إنسان الحداثة يعتقد أن القراءة والكتابة فنَانِ يجب تعلمهما، وأن يغدو مهندساً معمارياً، أو مهندساً، أو عاملاً ماهراً من الأمور التي تستوجب دراسة غير قليلة. ولكن العيش هو أمر من البساطة إلى حد أنه لا يتطلب مجهوداً خاصاً لتعلم كيفية القيام به.

هذه الرؤية في نظرنا غير دقيقة، ففن العيش ليس أمراً بسيطاً، بل هو جد معقد لتعقد بنية المجتمعات واختلافاتها الإيديولوجية، وبالتالي فلكي نحقق فعلاً العيش، فنحن بحاجة إلى فهم دورنا الإنساني، الذي يفترض بداية أن نتعاون جميعاً رغم اختلافنا، وأن يكون الإنسان من أجل أخيه الإنسان.

الحب.. ومسألة التفكير

في منظور فروم أن الوجود البشري يتميز بأن الإنسان وحيد ومنفصل عن العالم؛ لكن لعدم اقتداره على تحمل هذا الانفصال، يُضطر أن ينشد التواصل والاتحاد. وتوجد طرق كثيرة يستطيع بها أن يحقق هذه الحاجة، وأهمها الإنتاجية.

يقول فروم موضحاً هذه المسألة: إن في مقدور المرء أن يكون متصلاً إنتاجياً بالعالم بالعمل وبالفهم. فالإنسان ينتج الأشياء، وهو في عملية الإبداع يمارس سلطاته على المادة. والإنسان يفهم المادة، عقلياً وانفعالياً، من خلال الحب ومن خلال العقل. وتُمكِّنه قدرته العقلية من النفاذ إلى السطح، ومن فهم ماهية موضوعه بالدخول في علاقة فعّالة معه. وتُمكِّنه على الحب من أن يخترق الجدار الذي يفصله عن الشخص الآخر وأن يفهمه. وعلى الرغم من أن الحب والعقل شكلان مختلفان لفهم العالم، وعلى الرغم من أنه لا أحد منهما ممكن من دون الآخر؛ فإنهما تعبيران عن قدرتين مختلفتين، هما القدرة على الانفعال، والقدرة على التفكير.

وبرغم أن موضوعات الحب تختلف، ومن ثم تختلف شدة الحب ونوعيته؛ فإن عناصر أساسية معينة يمكن أن يقال إنها مميزة لكل أشكال الحب الإنتاجي. وهذه العناصر هي: الاهتمام، والمسؤولية، والاحترام، والمعرفة.

ويدل الاهتمام والمسؤولية على أن الحب نشاط وليس هوى يتغلب على المرء، وليس ولعاً يولع به المرء. وقد صُوّر عنصر الاهتمام والمسؤولية بصورة تدعو إلى الإعجاب في "سفر يونان". لقد قال الله ليونان أن يذهب إلى نينوى ليحذر سكانها من أنهم سيعاقبون إلا إذا أصلحوا أساليبهم الشريرة. ويتملص يونان من رسالته لأنه هائب أن يتوب الناس في نينوى وأن يغفر الله لهم. إنه إنسان قوي بالإحساس بالنظام والقانون، ولكنه خال من المحبة. على أية حال، إنه في محاولته الهروب يجد نفسه في جوف حوت، يرمز إلى حالة العزلة والأسر التي سببها له افتقاره للمحبة والتضامن.

وقد أنقذه الله، فذهب يونان إلى نينوى، واعظاً الناس بما قاله له الله، فحدث الشيء الذي كان خائفاً أن يحدث، يتوب الناس في نينوى عن آثامهم، ويصلحون أساليبهم، ويغفر الله لهم ويقرر ألا يدمر المدينة. ويونان غاضب بشدة ومخيب الرجاء؛ لقد كان يريد أن يتحقق "العدل" لا الرحمة. ويجد أخيراً بعض الرحمة في شجرة جعلها تنمو من أجله لحمايته من الشمس. ولكن عندما يجعل الله الشجرة تذوي يكتئب يونان ويشكو إلى الله غاضباً. فيجيبه الله "لقد أخذتك الشفقة بشجرة اليقطين التي لم تُجهد نفسك من أجلها، ولم تعمل على نموّها؛ التي نبتت في ليلة، وهلكت في ليلة. أفلا أشفق أنا على نينوى، المدينة العظيمة، التي فيها أكثر من اثني عشر ألف طفل بريء لا يستطيعون أن يميزوا يمينهم من شمالهم، وكذلك الكثير من الماشية".

إن جواب الله ليونان يجب أن يُفهم رمزياً. يشرح الله ليونان أن ماهية المحبة هي "الجهد" المبذول من أجل شيء ما، والعمل على نمو شيء ما، وأن المحبة والجهد لا ينفصلان. يحب المرء ما من أجله يُجهد نفسه، ويجهد المرء نفسه من أجل ما يحب.

إن الاهتمام والمسؤولية هما من العناصر المكونة للحب، ولكن الحب من دون احترام الشخص المحبوب ومعرفته، يسوء ويؤول إلى الهيمنة والتملك. وليس الاحترام خوفاً ورهباً. وكلمة الاحترام الإنجليزية تدل على القدرة على رؤية الشخص ممكناً من دون معرفته؛ ومن شأن الاهتمام والمسؤولية أن يكونا أعميين إذا لم ترشدهما معرفة فردية الشخص.

إن الحب هو الشكل الإنتاجي لاتصال الإنسان بالآخرين وبنفسه. وهو يتضمن المسؤولية والاهتمام والاحترام والمعرفة، والرغبة في نمو الشخص الآخر وتطوره. إنه التعبير عن الحميمية بين إنسانيين على شرط محافظة كل منهما على سلامة الآخر.

ضميرنا الإنساني

ليس الضمير الإنساني صوت سلطة نتوق إلى إرضائها ونخشى إغضابها وقد انصهرت في ذاتنا؛ إنه صوتنا، الموجود في كل كائن بشري، والمستقل عن العقوبات والمكافآت الخارجية. فما طبيعة هذا الضمير؟ لماذا نسمعه ولمّا نستطع أن نصبح صُمّاً عنه؟

إن الضمير الإنساني هو استجابة شخصيتنا الكلية لأدائها الوظيفي الصحيح، أو لاختلال أدائها الوظيفي، وليس استجابة لهذه القدرة أو تلك؛ وإنما لجماع قدرتنا الذي يشكل وجودنا البشري والفردي. والضمير يحكم في أدائنا الوظيفي بوصفنا بشراً؛ والضمير هو معرفة المرء بداخله، معرفة بنجاحنا وإخفاقنا الخاصّين بكل منا في فن العيش. ولكن الضمير برغم أنه معرفة، فهو أكثر من مجرد معرفي في مجال الفكر المجرد. إن له خصيصةً عاطفية، لأنه استجابة شخصيتنا الكلية لا مجرد استجابة عقلنا. ونحن، في الحقيقة، لسنا بحاجة إلى أن ندرك ماذا يقول ضميرنا حتى نتأثر به.

وتُنتج الأعمال والأفكار والأحاسيس المفضية إلى الأداء الوظيفي الصحيح، وكشف شخصيتنا الكلية شعوراً بالاستحسان الداخلي، ومن جهة أخرى تُنتج الأعمال والأفكار والأحاسيس الضارة بشخصيتنا الكلية شعوراً بالاضطراب والقلق.

هكذا فإن الضمير هو رد فعل أنفسنا على أنفسنا، إنه صوت ذواتنا الحقيقية الذي يدعونا إلى العودة إلى أنفسنا، وإلى العيش إنتاجياً، وأن ننمو تماماً وعلى نحو منسجم؛ أي أن نكون بالفعل ما نحن عليه بالقوة. إنه حارس سلامتنا؛ إنه اقتدار المرء على أن يضمن نفسه بكل ما يستحقه ذلك من عزة نفس، وكذلك أن يقول المرء نعم لذاته. وإذا كانت المحبة يمكن أن تعرّف بأنها توكيد إمكانيات الشخص المحبوب، ورعايتها واحترام فرادة الشخص المحبوب؛ فإن الضمير الإنساني يمكن أن يُدعى بحق: "صوت الرعاية المحِبة لأنفسنا".

وعن صوت الضمير، يرى فروم أن تعلُّم المرء فهم اتصالات ضميره صعب للغاية، لسببين على الأغلب. فلكي نصغي إلى صوت ضمينا، لا بد أن نكون قادرين على الإصغاء إلى أنفسنا، وهذا على وجه الدقة هو الأمر الذي يعاني جل الناس في ثقافتنا من صعوبات في أدائه. إننا نستمع إلى أي صوت وإلى أي شخص إلا إلى أنفسنا. ونحن معرّضون على الدوام لضجة الآراء والأفكار التي تنهال علينا من كل حدب وصوب: من الأفلام، والصحف، والمذياع، والثرثرة الفارغة. ولو خططنا عامدين أن نمنع أنفسنا من الإصغاء في أي وقت إلى أنفسنا، لما كان في استطاعتنا أن نفعل أفضل من ذلك.

ويختم فروم بالتأكيد على أن مشكلتنا اليوم هي عدم مبالاة الإنسان بنفسه.. إنها تكمن أساساً في أننا فقدنا الإحساس بأهمية الفرد وفرادته، وأننا جعلنا أنفسنا أدوات لمقاصد خارج ذاتنا، إننا نَخبُر أنفسنا ونعاملها على أنها سلع، وأن قدرتنا قد أصبحت مغتربة عن أنفسنا. أصبحنا أشياء وأصبح جيراننا أشياء. والنتيجة هي أننا نشعر بالعجز، ونحتقر أنفسنا عن عدم استطاعتنا. وبما أننا لا نثق بقدراتنا، فليس لدينا إيمان بالإنسان، ولا إيمان بأنفسنا ولا بما يمكن أن تبدعه قدراتنا. وليس لنا من ضمير بالمعنى الإنساني، ما دمنا لا نجرؤ على الثقة بحكمنا.

إن القرار متروك للإنسان، وهو يعتمد على قدرة الإنسان على أن يقيم وزناً لنفسه وحياته وسعادته؛ وعلى استعداده لمواجهة المشكلة الأخلاقية لنفسه ولمجتمعه.. إنه يعتمد على شجاعته الكافية لأن يكون ذاتَه، وأن يكون من أجل ذاته.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها