البديعُ المرّاكشي.. عمارةٌ تنطق شعراً

د. السعيد الدريوش

يعدّ قصر البديع بمراكش، معلمة عمرانية متميزة، توخّى من خلاله السلطان المنصور السعدي تخليد الذكر والأثر والمباهاة على سائر الحضارات السابقة المشهود لها بالتفوق العمراني والزخرفي، إذ يعدّ من (شرف آثاره الجليلة التي أخمل بها أيده الله تعالى ذكر مصانع قومه بني العباس ببغداد، وبني مروان بالشام، وآثار بني عبيد التي منها القاهرة... قصره الشريف العظيم الخطر العديم الند والمثل، الضخم العمل، الذي هو المثل المضروب في الأرض عظمة وفخامة وضخامة، وجلالاً واحتفالاً وتفنناً وتأنقاً)1.

كما أن سياق البناء إنما جاء عقب انتصار السطان المنصور في معركة وادي المخازن، فقد (اعتاد ملوك المغاربة أن يخلّدوا انتصاراتهم الكبرى بتشييد مبان معلمية تكون في مستوى تلك الانتصارات، وهكذا فعلى نحو ما قام به المنصور الموحّدي من بناء الجوامع الثلاثة: الخيرالدا في إشبيلية، والكتبية في مراكش، وحسّان بالرباط في أعقاب انتصاره بموقعة الأرك بالأندلس، على نحو ذلك شرع المنصور السعدي بعد انتصاره على الجيش البرتغالي في بناء قصر البديع)2.

ومن هذا المنطلق، أنشأ المنصور معلمة عمرانية رفيعة، كان الشعر العربي عماد زخرفها وأناقتها، وهكذا انطلقت قريحة الشعراء السعديين في إنتاج قصائد شعرية ستخلد بالنقش على الجدران وستكتب بماء الذهب، فلئن تميز العصر الجاهلي بالقصائد المعلقة على أستار الكعبة المكتوبة بماء الذهب؛ فإننا لنجد العصر السعدي يتسم هو أيضاً بمعلقات من نوع جديد، أشعار تكسو جدران البديع وسائر القباب والجدران، اشترك في إبداعها وإخراجها في آن زخرفة وزينة الشاعر الحاذق، والمهندس الفنان، والخطاط البارع، ليمتزج بذلك البناء الشعري مع البناء المعماري، فيشكل فضاء خيالياً رائعاً يستمد جاذبيته من ثلاثة فنون رئيسة: فن الشعر، فن الخط، وفن المعمار.

ويعدّ ذو القلم الأعلى، الشاعر الوزير عبد العزيز الفشتالي (الذي كان أوحد عصره، حتى إن سلطان المغرب كان يقول: إن الفشتالي نفتخر به على ملوك الأرض، ونباري به لسان الدين ابن الخطيب)3. من أبرز الشعراء الذين أبدعوا وتميزوا في غرض الوصف، فنقش الفشتالي بصوره، وزخرف بأساليبه وتراكيبه ما لم يلتقطه المصور بعدسته والرسام بريشته، حتى جعل البديع ظاهراً وبادياً للحس من خلال قصورياته، فقلب بذلك الفشتالي السمع بصراً، والخيال حسّاً، وفي هذا يقول قدامة (الوصف إنما هو ذكر الشيء كما فيه من الأحوال والهيئات، ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها، ثم بأظهرها فيه وأولاها حتى يحكيه بشعره، ويمثله للحس بنعته)4. وكذلك ما جاء عند ابن رشيق من قول بعض المتأخرين (أبلغ الوصف ما قلب السمع بصراً)5، يقول عبد العزيز الفشتالي في معلقته المنقوشة على قصر البديع، المكتوبة بمرمر أبيض في مرمر أسود (الكامل):
للِّهِ بَهْوٌ عَزَّ مِنْهُ نَظِيرُ... لَمَّا زَهَا كَالرَّوْضِ وَهْوَ نَضِيرُ
رُصِفَتْ نُقُوشُ بُنَاهُ رَصْفَ قَلاَئِدٍ... قَدْ نَضَّدَتْهَا فِي النُّحُورِ الْحُورُ
فَكَأَنَّهَا وَالتِّبْرُ سَالَ خِلاَلَهَا... وَشْيٌ، وَفِضَّةُ تُرْبِهَا كَافُور6

فبهو قصر البديع لا نظير له، إذ يبدو كالروض النضير من شدة بهائه وجمال نقوشه وزخارفه، هذه النقوش التي رصت باتساق ورونق، كما تُرصف القلائد الثمينة في جيد الحسناوات الفاتنات، بينما الماء الذي يجري وسط البهو فهو كالذهب المشرق، فتبدو تموجاته كثوب مطرّز بأروع التشكيلات الهندسية، كما صور الفشتالي تربة البهو بالفضة نتيجة انعكاس أشعة الشمس الذهبية على صفحها، فتنبعث منها رائحة الكافور العذبة وهو ( نبات له نور أبيض كنور الأقحوان، وهو طيب الرائحة)7.

وتستمر عدسة الفشتالي في التقاط أروع الصور لبهو قصر البديع، فأرض قراره فاتحة كتاب ومستهله، زادها حسناً وجمالاً تلك الشجيرات المتراصة في جنباتها، حتى يخيل للناظر إليه والمتفحص لهندسته المعمارية الخيالية أنه بستان موشى بأزهار بيضاء عليها رذاذ مطر عليل ينعش الأرواح والأفئدة، يقول الشاعر (الكامل):
وَكَأَنَّ أَرْضَ قَرَارِهِ دِيبَاجَةٌ... قَدْ زَادَ حُسْنَ طِرَازِهَا تَشْجِيرُ
وَإِذَا تَصَعَّدَ قَدُّهُ نَوْءاً فَفِي... أَنْمَاطِهِ نَوْرٌ بِهِ مَمْطُورُ8

هو قصر مُعجز، تفوّق على كل القصور التي ضرب بها المثل في الضخامة وعلو البنيان، يقول الشاعر:
شَأْوُ الْقُصُورِ قُصُورُهَا عَنْ وَصْفِهِ... سِيَّانِ فِيهِ خَوَرْنَقٌ وَسَدِيرُ9

أما أمواج بركتي البهو فتبدو كستار صافحته الرياح، وهي صورة بديعة من أخيلة الفشتالي الجميلة، كما أن انتشار التماثيل الفضية يشرح النفوس ويأسرها، يقول الشاعر (الكامل):
وَكَأَنَّ مَوْجَ الْبِرْكَتَيْنِ أَمَامَهُ... حَرَكَاتُ سِجْفٍ صَافَحَتْهُ دَبُورُ
صُفَّتْ بِضِفَّتِهَا تَمَاثِلُ فِضَّةٍ...مَلَكَ النُّفُوسَ بِحُسْنِهَا تَصْوِيرُ10

ومما يؤكد الارتباط الوثيق بين البناء الشعري والبناء المعماري، ما جاء عند الوزير الفشتالي الذي شبّه أرض بهو القصر بديباجة كتاب ومستهلّه، يقول الشاعر:
وَكَأَنَّ أَرْضَ قَرَارِاهِ دِيبَاجَةٌ قَدْ زَادَ حُسْنَ طِرَازِهَا تَشْجِيرُ11

ويبدو انبهار الشاعر السعدي "الشياظمي" جلياً بالزخرف البديعي وبالنظريات النقدية، فبالإضافة إلى أشعاره المنقوشة على البديع، نجد قصيدة منقوشة في بديع المنصور، كتبت في باب من المرمر، تؤكد استثمار الشاعر لمخزونه الثقافي المتميز في صياغة قصورياته، يقول الشاعر (البسيط):
اَلْحُسْنُ لَفْظٌ وَهَذَا الْقَصْرُ مَعْنَاهُ... يَا مَا أُمَيْلِحَ مَرْآهُ وَأَسْنَاهُ
فَهْوَ الْبَدِيعُ الَّذِي رَاقَتْ بَدَائِعُهُ... وَطَابَقَ اسْمٌ لَهُ فِيهَا مُسَمَّاهُ
وَلاَحَ أَيْضاً وَعَيْنُ الْحِفْظِ تَكْلَؤُهُ... تَارِيخُهُ مِنْ تَمَامٍ قُلْ هُوَ اللهُ12

فهي قطعة في وصف قصر البديع (لخّص الشاعر الشياظمي فيما يظهر نظرية قدامة، منتهياً إلى وجوب ائتلاف اللفظ مع المعنى في كل الأوضاع والظروف وضروب اتساقهما من خلال أداء محكم لمعان بعينها كما هي واضحة في الأذهان ومتصوّرة)13.

قصر البديع بمراكش عمارة شعرية متميزة، تنضاف إلى الإرث الثقافي والعمراني الإسلامي الشامخ، أراد المنصور السعدي من خلاله إبراز تفوقه على سائر عمارات الأرض الخيالية (قصر الحمراء نموذجاً)، فكان بحق مثالاً للعمارة الإسلامية الناطقة شعراً.


الهوامش: 1. الفشتالي عبد العزيز، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، دراسة وتحقيق عبد الكريم كريم، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، ص: 252 – 253. | 2. عبد الهادي التازي، قصر البديع بمراكش، ص: 4، وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية، 1977. | 3. النفح، ج 6، ص: 59. | 4. قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص: 130، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت. | 5. ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ج 2، ص: 295، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت. | 6. نجاة المريني، شعر عبد العزيز الفشتالي، جمع وتحقيق ودراسة، ص: 327، 328، مكتبة المعارف، 1986. | 7. نجاة المريني، شعر عبد العزيز الفشتالي، ص: 327. | 8. نجاة المريني، المرجع السابق، ص: 328. | 9. نجاة المريني، المرجع السابق، ص: 328. | 10. نفسه، ص: 328. | 11. شعر عبد العزيز الفشتالي، ص: 328. | 12. نجاة المريني، المرجع السابق، ص: 414. | 13. نجاة المريني، المرجع السابق، ص: 192.
 
الصور wikipedia.org©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها