خاصيّة السّارد على امتداد النصّ الروائي

وجيه حسن

في كلّ نصّ روائي جيّد، يرى القارئ الحريص المُتأنِي، أنّ السّارد يتصدّى إلى "ثِيمات" عظيمة، أي إلى قِيم ومضامين تنفتح على البِنْيات الكبرى للمجتمع، فهو أي "السّارد"، يعمل دَوْر الوسيط/ الجسر، وقد ظهر هذا النّوع من السّارد في عدد جمّ من الأعمال الروائية العربية، تلك التي سعت/ وتسعى لإعادة قراءة التاريخ قراءةً دقيقةً مُتأنّيةً كما في الشّواهد التالية: في "التلال" لهاني الراهب، في "الدار الكبيرة" لمحمد ديب، في "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، في "تغريبة بني حتحوت" لمجيد طوبيا، وكذا في الثلاثية التاريخية المعروفة: "كفاح طِيبة، عبث الأقدار، رادوبيس"، للكاتب المصري نجيب محفوظ، صاحب (جائزة نوبل للآداب).
 

فالروائي يستطيع تمرير خطابه الروائي من خلال السّارد العارِف بكلّ شيء، أو أنّ السّارد هو إحدى الشّخصيات، أو أنّ الحدث يسير بضمير الغيبة، أو ضمير المتكلّم من منظور إحدى الشّخصيات.. ولا بدّ من توكيد أهميّة "تعدّد الأصوات" أي (البوليفونية)، في أيّ خطاب روائي، الذي يفترض أن يجعل من صوت الروائي –إنْ وُجِد– واحداً من أصوات متكثّرة متعدّدة، تتفاعل داخل هذا العمل الروائي.

هذا النّمط من التعاطي الانفعالي مع السّرد الروائي، قد أنتج لغةً شعريةً تفاوتت بشكل ملحوظ في مستوى الأداء، بين شعر متواضع الإمكانية إلى حدّ بعيد، لا يوازي نمط الموهبة الروائية، التي يمتلكها صاحبها، أو يوازيها في حالات من الأداء الروائي المتواضع أساساً - وقد لا نكون معنيين كثيراً بهذا النّمط الأخير– وشعرية حقيقية لافتة بحقّ، يتألّف فيها القول بأقصى درجاته الانفعالية والشعورية الباهرة، غير أنّها –للأسف– شعرية وشعر يجيئان في غير موقعهما.

حتى إذا جئنا إلى الوظيفة السّردية، والمعرفية الكليّة، فيمكن للروائي نقل حمولته الفكريّة والأيديولوجيّة للنّص الروائي المُوجّه للمتلقّي/ القارئ، وذلك عبر صوت السّارد، إضافة إلى أنّ البناء الشّامخ للخطاب الروائي، يقتبس من السِّير العربية المتميّزة بِراوٍ عالمٍ بكلِّ شيء، يقبع وراء ستار اللغة، وحوادث القصّ/ الحكاية.

ولو عرّجنا على وظائف السّارد في أيّ عمل روائي، لوقعنا على مجموعةٍ منها: (كالوظيفة السّردية، ووظيفة التّسيير، ووظيفة الشّهادة، ووظيفة التّواصل، وأخيراً الوظيفة الأيديولوجيّة).

فالسّارد يسرد أحداثاً، وينقل خطاباتٍ يُضمّنها رؤيته الفنيّة، والثقافيّة، والأيديولوجيّة..

والسّارد الفَطِن، المُتمكّن من فنّه وصَنْعته، هو الذي يتخلّى عن "أناه"، وعن نرجسيّته الضّاغطة، ليتحدّث بموضوعية مُفترَضة، عن أحداثٍ حدثت، وعن وقائعَ وقعت، من دون لفّ أو تعمية أو مُزايدة؛ لأنّ القارئ ذكيٌّ فطِنٌ هو الآخر.

والسّارد الجيّد المُتمكّن من عمله، هو الذي يقوم على تنويع وظائفه السّردية، حتى لا يقع في شِباك التّوثيق التاريخي الجافّ، والمرجعية التاريخية الصّرف.

ومن المعروف لدى المُشتغلِين في حقل النقد الروائي، أنّه بدلاً من أن يتحدث الكاتب/ المؤلّف عن نفسه؛ فإنّه يُوكِل هذه المهمّة للسّارد، لِعلّةِ هيمنته على النّص المَسْرُود، فيقوم هذا الأخير بالتحدّث عوضاً عن شخصيّاته، أي عوضاً عن الكاتب/ المؤلّف.. وربّما يعمد ساردٌ ما إلى تخصيص فصل بعينه لشخصيّة مُعيّنة، ليعود إليها في فصلٍ لاحق، وهكذا دواليك.

هنا يردُ القول: إنّ السّارد لا يسرد أحداثاً ووقائع وحسب، بل يُمسرِح سرْده عبر أصوات تراوح في ما بينها، وأحياناً تقوم هي نفسها بعمليّة السّرد.. وحسب "إيميل بنفنيست"، فإنّ كلّ تلفُّظ (يفترض متكلّماً ومُتلقّياً، حيث يكون للمتكلّم مقصديّة التأثير في المتلقّي/ القارئ، بطرق مختلفة لإقناعه).

وعندما يقوم السّارد بتقديم أقوال شخصياته أو أفعالها؛ فإنه في الحقيقة يقوم بوظيفة حكائيّة، على عكس الاهتمام بالسّارد كمركز للحكي.. فالخطاب الحكائي المَسْرُود، هو الذي تُقدَّم فيه الشخصيات بمثابة عوامل لا قيمة لها إلّا من خلال أقوالها وأفكارها وأفعالها، وهذا ما يُطلِق عليه بعض النقّاد تسمية "مدلول الحكي، أي الحكاية".. غير أنّ هذه الأفعال والأقوال لا بدّ لها من إطار زمني ومكاني يغلّفانها.

بناءً عليه (لا يمكن الحديث عن كلام من دون متكلّم، وهذا يتأتّى من خلال وجود الضمير: "أنا"، أو "أنتَ"، أو "هو"، وراء كلّ ملفوظ، بحيث يصير طرح السؤال: "مَنِ المتكلّم" سؤالاً مشروعاً)، حسب رأي المؤلف المغربي "المويفن مصطفى" في كتابه الماتِع الشّائِق "تشكّل المكوّنات الروائية".

وعلينا ألّا ننسى هنا، أنّ ثمّة خاصيّة يعتمدها السّارد على طول الخطاب الروائي/ أو نصّه الروائي، وهي خاصيّة "التّجزيء الحِكَائي"، بمعنى أنّ السّارد يسرد حكاية ما إلى حدٍّ مُعيَّن، ثمّ ما يلبث أن ينتقل إلى حدَثٍ آخر، ويسير في غير اتّجاه، ثم يعود بعد ذلك إلى ما كانَ عليه، أو ربّما لا يعود إلّا بعد حين.

إنّ السؤال العريض في هذا السّياق مُفادُه: مَنْ هو القائم بعمليّة السّرد الحِكائي داخل الرواية؟

في الجواب: إنه من خلال السّارد تتحدّد الرؤية إلى العالَم الروائي، الذي يحكِيه بشخوصه وأحداثه وفضائه وزمانه، وبوساطة السّارد هذا تتشكّل رؤية جديدة عند القارئ/ المُتلقّي، من هنا تبرز التساؤلات، المطروحة في هذا المجال من قبيل: مَنْ هو السّارد؟ مَنْ يحكِي الحكاية؟ عبْر مَنْ تصلنا أحداث الرواية؟

هنا لا بدّ من التوكيد أنّ هناك تيّارَيْن في مجال تاريخ الرواية:
1. تيّار تقليدي: هو الذي يتبنّى فيه الروائيون وجهة نظر السّارد العارف بكلّ شيء، الذي يفرض وجوده المطلق على عالَمه الروائي، فيحرّك الأحداث، ويوجّه الشّخصيات، ويُصدر الأحكام.
2. وتيّار جديد: يهدف في ما يهدف إليه، إلى حياد الكاتب/ المؤلّف تجاه عالمه الروائي، ذلك أنّ طغيان الكاتب الروائي على عالَمه الإبداعي، يقضي على عنصر الإيهام بالواقع، الذي هو الشّرط الضّروري للصّدق الفنّي، الذي ينبغي أنْ يتوافر في الخطاب الروائي.

من هنا فقد طالبَ "هنري جيمس"، (روائي وناقد بريطاني من أصل أمريكي، مؤسّس وقائد مدرسة الواقعية في الأدب الخيالي)، باختفاء السّارد، أو بالأحْرَى المؤلّف.. وهناك عدد من النقّاد يرون "أنّ القصة ينبغي أنْ تحكِي ذاتها، وذلك عن طريق مَسْرَحَة الحدث، أو عَرْضِه، وليس عن طريق السّرد أو التّلخيص".

غير أنّ هناك اتجاهاً نقديّاً جديداً يُعاكِس الاتجاه الذي تزعّمه "هنري جيمس"، والذي يدعو إلى تبنّي موقف السّارد العارِف بكلّ شيء.. والمعروف لدى عدد من نقّاد الرواية، أنه (ليس هناك شخص يقف خارج القصة/ الحكاية).

إنّ الرواية جنس أدبيّ يرتكز على التّخييل، وعلى الذّاكرة الإبداعيّة المُشرَّعة على تجارب الذَات، وتبدّيات الواقع.. وعلينا أنْ نقرّ وأنْ نسلّم، أنّه ليس هناك أدب لا علاقة له بالواقع.

(إنّ الروائي مُلزَم بأنْ يصوّر عمقاً نفسيّاً، وعمقاً حضاريّاً في روايته، قد لا نجده في أيّ نوع من الكتابات الأخرى)، على حدّ قول الروائي الكبير المرحوم د. "عبد الرحمن منيف".

إنّ الروائي "مطلق روائي"، يبني شخصياته، شاء أم أبى، عَلِم ذلك أو جهله، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصّة، أو من واقعه المَعِيش، وأنّ أبطاله ما هُم إلّا أقنعة يروي من ورائها قصّته "حكايته"، ويحلم من خلالها بنفسه.. وأنّ القارئ الفطِن، لا يقف حيال الخطاب الروائي موقفاً سلبيّاً مَحْضاً، بل يعيد من جديد بناء رؤية أو مغامرة ابتداءً من العلاقات المُجمّعة على الصفحة، مستعيناً أيضاً بالمواد التي هي في متناول يده "أي ذاكرته".

ولا مندوحة من القول: إنّ الشخصية في أيّ عمل روائي، لم تعد تُحدَّد بصفاتها وخصائصها الذاتية، بل بالأعمال التي تقوم بها.. وبحسب نوعيّة هذه الأعمال، تتحدّد ملامح الشخصية وتوجّهها في النصّ الروائي.

قصارى القول: إنّ لغة السّرد تمضي بالأحداث في تناميها وتطوّرها عبر الزمان والمكان، فهي لا تُوقِف الحدث، ولا تُفسح المجال للخيال المُجنّح لخلق صور خيالية، ولا تنعدم فيها الحركة والفعل، ولا تميل إلى السكونيّة الهادئة.

إنّ تعددية الأصوات السّردية (البوليفونية)، تخصّ الخطاب الروائي دون سواه، نظراً لهجانته وطبيعته الامتصاصيّة للّغات والنصوص.. لذلك نجد "ميخائيل باختين" (فيلسوف ولغوي وناقد أدبي روسي)، عبر تحليلاته الكثيرة، يُنوّه بهذا الجنس التعبيري، ويُفضّله على الخطاب الشعري، "كون هذا الأخير، لا يملك سوى وجهٍ لسانيٍّ واحد".

ختاماً؛ فإنّ رواية أيّ أديب/ كاتب، متمكن من فنّه الروائي، هي روضة نَضِرة، لا يستطيع القارئ/ المُتلقّي أنْ يلمّ بها، من دون أنْ يجد في ظلالها وأسطرها أمرين اثنين: المتعة والفائدة بآنٍ معاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها