الأُموسيبيانس Homo sapiens!

كيف تحول الإنسان العاقل إلى إنسان مُؤلّه؟

الفاهم محمد


بداية؛ يعتبر يوفال نوح هاراري Yuval Noah Harari من الناحية الأكاديمية مختصاً في مجال التاريخ، إلا أن أعماله تتجاوز الإطار التقليدي للمؤرخ العادي، فهو يتناول مسألة ظهور الوعي والإدراك في التاريخ، ومسألة الإرادة الحرة، وقضية مصير الإنسان العاقل، وغيرها من القضايا الفلسفية العميقة. بل أكثر من ذلك تتجه أعماله للتأريخ للمستقبل، على عكس المؤرخين الذين يهتمون عادة بالماضي، حيث يتنبأ بالمصير الذي ينتظر الإنسان ألا وهو -في نظره- اختفاؤه الوشيك من مسرح الأحداث، بعد أن يتغلب عليه الذكاء الاصطناعي.


بشكل مجمل يرى هاراري أن الإنسان يصبح أكثر فأكثر كائناً مؤلهاً، وأنه في المستقبل القريب ستظهر ديانة جديدة يطلق عليها البياناتية Dataisme، فالإنسان اليوم لا يستشير الكنيسة للنظر في طبيعة المشاكل التي تنتظره، بل هو يستشير محرك البحث غوغل، مما يدل على أن ثمة تغيرات جذرية ستحصل مستقبلاً في طبيعة الوضع البشري.

الإنسان العاقل.. بين الماضي والمستقبل

يمكن القول بأن أفكار يوفال نوح هاراري تتقاطع مع الفلسفة، والأنثروبولوجيا، ودراسة المستقبليات، وغيرها من التخصصات. لذلك يبدو أن الكاتب متأثر بدرجة كبيرة بمنهج التاريخ الكبير the big history من خلال تركيزه على المدد الزمنية الطويلة، التي تبدأ منذ ظهور الإنسان في الخفر الإفريقي، متوسلاً في ذلك بالعديد من مناهج العلوم الإنسانية، ومناهج أخرى مثل دراسة المناخ والصحة، والجيولوجيا، والديموغرافيا وغيرها. لهذا السبب يلاحظ أنه لا يركز على دراسة الإمبراطوريات والممالك، بل على استيعاب التجربة الإنسانية ككل.

صدر كتاب سابيانس "Sapiens"، أو الإنسان العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري في طبعته العبرية سنة 2011. ثم ترجم بعد ذلك إلى حوالي 45 لغة عالمية. وصدر بعده كتاب "أمو ديوس أو الإنسان المؤله موجز تاريخ الغد" في طبعته الإنجليزية سنة 2016. ويمكن القول إننا أمام كتابين يكمل أحدهما الآخر، فالأول يتناول ماضي الجنس البشري، أما الثاني فهو يركز على المستقبل الذي ينتظره. نحن –إذن- أمام أطروحة واحدة يتم تطويرها عبر مراحل، وهي أطروحة تؤكد عموماً على سيطرة البشر على الكرة الأرضية، وهيمنتهم على باقي الأنواع بما فيها الأجناس البشرية الأخرى، وعلى رأسها إنسان النياندرتال.

في نظر الباحث تعود قدرة البشر أساساً إلى تنظيم حياتهم بشكل جماعي، وتجاوز الحالة الفردية والانعزالية. ففي بداية التاريخ لم يكن يمتلك البشر أية امتيازات خاصة يقول: "إن أهم ما يجب معرفته عن بشر ما قبل التاريخ، هو أنهم كانوا حيوانات عديمة الأهمية، لا يتجاوز تأثيرها على بيئتها تأثير الغورلات، أو اليراعات، أو قناديل البحر" [سابيانس، ص: 14]، غير أن الإنسان بفضل الطابع الاجتماعي تمكن من تأسيس حالة خاصة داخل مملكة الكائنات. صحيح أن العديد من الكائنات في الطبيعة تمتلك هي أيضاً هذا البعد الاجتماعي في سلوكها، مثل النحل، والنمل، والقرود وغيرها، إلا أن هذا السلوك الاجتماعي يظل محدوداً ومرتبطاً بشكل أساسي بتلبية الحاجات الأولية. وهكذا فالطابع الاجتماعي للبشر هو ما جعلهم يحققون إنجازات عظيمة في التاريخ.

إضافة إلى ما سبق يتميز جنس الإنسان العاقل بقدرته المدهشة على عدم الارتباط المباشر بالواقع، كما تفعل باقي الحيوانات. بل بقدرتهم على الخيال، وهذا هو ما جعلهم ينتجون مفاهيم وأفكاراً ونظرياتٍ، تجسدت على سبيل المثال في الدين، والأخلاق، والقانون وحقوق الإنسان وغيرها. إن القدرة على ابتكار حقائق تعلو على الواقع، هو ما يميز الجنس البشري، فنحن لا نعيش فقط في الواقع الموضوعي المباشر، بل في واقع آخر يتكون من الأفكار والمؤسسات القانونية مثل الدولة والشركة، وما يؤكد عليه هاراري هو أن الوجود الواقعي المباشر، أصبح في عصرنا هذا مرتهناً بطبيعة ما نقرره في الوجود النظري الخيالي [ص: 47].

بالعودة إلى الماضي يرى يوفال هاراري أن التاريخ خلال الآلاف من السنين تحكمت فيه ثلاثة عوامل: المجاعة، والأمراض، والحروب. وهي العوامل التي صارعها الإنسان طوال حياته إلى أن تمكن من التغلب عليها اليوم إلى حدود بعيدة. حدث هذا بفضل التخطيط والأدوية ومكافحة الأمراض. لذلك لم يعد الإنسان يربط أسبابها بغضب السماء، بل بعوامل موضوعية طبيعية. ويؤكد هاراري أن هذا لا يعني أن الجنس البشري قد تغلب نهائياً على الجوع والمرض والأوبئة، فهي ما تزال تظهر اليوم بين الفينة والأخرى وبطريقة أشد فتكاً، غير أن ما يقف وراءها ليس الطبيعة، بل سوء التدبير السياسي، والجشع الاقتصادي، وكذلك العادات والسلوكات الاستهلاكية. على سبيل المثال يرى هاراري أن مرض السكري يقتل أكثر مما تفعله الحروب يقول: "أصبح السكر أكثر خطورة من البارود" [ص: 25]. لا يعني هذا أننا بلغنا السلام العالمي الذي كانت تحلم به الفلسفة الأنوارية. إن العديد من مناطق العالم ما تزال تعرف توترات سياسية شديدة، لكن الأمور لن تتطور إلى حرب شاملة، وذلك بسبب السلاح النووي. في المقابل ظهرت حروب من نوع جديد هي الحروب السبرانية، وكذلك الإرهاب.

تحديات المستقبل

واليوم مع مستهل الألفية الثالثة، هناك تحديات جديدة تواجه الإنسان. لقد تركنا الحروب والأوبئة والمجاعات وراءنا، ونحن نتطلع إلى أهداف جديدة، مثل إدراك الخلود والسعادة. لم يعد الإنسان ينظر إلى الموت كما لو أنه قدر لا يمكن تجاوزه؛ إذ بفضل التطورات التكنولوجية والطبية أصبح الموت مجرد "مشكلة تقنية"، هذا على الأقل إذا ما استحضرنا الأبحاث التي تجري في وادي السيلكون، وكما قال أحدهم: "من الأفضل أن نعيش أكثر من الموت" [ص: 36]. هناك أيضاً مسألة السعادة التي يبدو أنها تشغل بال الإنسان، والتي يبدو أنه يحاول ملئ هذا الفراغ بواسطة العقاقير والمخدرات، وهو بذلك يبتعد عن تحقيق السعادة نفسياً وذهنياً. وإلى جانب كل هذه الأمور يظل الدين أحد أكبر التحديات التي سنواجهها خلال هذا القرن.

في هذا السياق يرى يوفال هاراري أن وادي السيلكون هو أهم وأخطر مكان يوجد اليوم فوق الأرض، على خلاف الأمكنة التي تسلط عليها وسائل الإعلام، بفعل أحداثها السياسية مثال الشرق الأوسط، أو سوريا، أو العراق. هنا في وادي السيلكون سيحدد مستقبل البشرية، وذلك بفضل الأبحاث العميقة التي تجري في مجال التكنولوجيات الدقيقة. في نظر الباحث كل ما يعرفه التطور التكنولوجي اليوم في مجال المعلوميات، والنانو، والهندسة الجينية وغيرها من العلوم الدقيقة، سيؤدي إلى أن يفقد الإنسان فرادته وخصوصيته ككائن واع ومتميز بذاته. لقد ظل الإنسان طوال التاريخ يعتمد على ما يملكه من وعي وإرادة في أخذ قراراته في الحياة، أي اعتماداً على خوارزمياته البيولوجية الداخلية. غير أنه اليوم سيعتمد على خوارزميات خارجية توجد داخل الحواسيب، وهي تملي عليه ما يجب عمله في هذا الأمر أو ذاك. إن المثال الذي يقدمه الباحث في هذا الصدد لافت للنظر، حيث يذكر الممثلة العالمية أنجلينا جولي التي قامت ببتر تذيبها اعتماداً على حسابات جينية، أخبرتها أنها تتوفر على مورث للسرطان بنسبة 87%. وهكذا فالخوارزميات الخارجية -كما يسميها هاراري- هي التي ستمتلك سلطة إصدار القرارات الأساسية في المستقبل. كما يتنبأ هاراري بسقوط الليبرالية ليس بالمعنى الاقتصادي أو السياسي، بل بالمعنى الاجتماعي. فالليبرالية التي قامت على حرية الفرد في اتخاذه مبادراته وقراراته الخاصة، تجد نفسها اليوم مضطرة لترك المجال لهذه "الخوارزميات الخارجية " كي تحل مكاننا.
 

انتقادات

رغم أن الباحث يعرض علينا في الكتابين معاً سواء "الإنسان العاقل"، أو "الإنسان المؤله" ما يمكن أن تؤول إليه الإنسانية في المستقبل، تحت ضغط التطورات التكنولوجية الجارفة، إلا أنه يبدي بعض الحذر من هذه الأطروحة التي تظل في نهاية المطاف مجرد فرضية. إن القول بأن الإنسان بكل ما يميزه من وعي وإرادة ومشاعر رقيقة، مجرد خوارزميات هو اعتقاد لم يتم تأكيده بعد. إلا أن الكاتب يظل على العموم يؤمن بأن الإنسان المعاصر هو لا محالة بصدد الاتجاه نحو تأليه نفسه، ووضع نظام جديد للتعالي يكون مصدره هو البيانات الرقمية، وليس الأديان التقليدية المعروفة.

يلاحظ على العموم أن يوفال هاراري يطرح أفكاره بالشكل الذي يجعلها في متناول الجميع، لذلك فشهرة كتبه تعود إلى الأسلوب البسيط الذي كتبت به، أكثر مما هي تعود إلى عمق طرحه. ثم إن هذه الأفكار على ما يبدو ليست شيئاً جديداً على الساحة الفكرية، بل هي مجرد تجميع وترتيب للعديد من النقاشات التي باتت معروفة الآن، سواء في أوروبا أو في أمريكا. ولنضرب على ذلك مثلاً فقد سبق للوك فيري Luc Ferry أن أصدر سنة 2002 كتابه: "الإنسان المؤله، أو معنى الحياة" Man Made God: The Meaning of Life -وهو كتاب للمصادفة يحمل تقريباً نفس عنوان كتاب هاراري- يوضح فيه مجمل السيرورات التي اتخذها الإنسان المعاصر سواء على المستوى السياسي، أو الاجتماعي، أو في مجال البيولوجيا من أجل إضفاء طابع مقدس على نفسه، وصولاً إلى ما يسميه بـ"عصر الإنسان الإله" [ص: 44]. كما أن النقاشات المرتبطة بإمكانية بناء أنسنة تلعب فيها التكنولوجيا الدور الحاسم، توجد في قلب الأطروحات التي دافع عنها الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك في كتابه: "قواعد من أجل الحديقة البشرية"، أو كذلك في هذا الاتجاه الذي يسمى بما بعد الإنسانية، وهي على العموم طروحات تلقى اعتراضات واسعة من طرف هؤلاء المفكرين، الذين يرون أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يصل يوماً إلى عمق الوعي البشري، وأن التقنية مهما بلغت من تطور لا يمكنها أن تمتلك الكلمة الأخيرة بصدد الوضع البشري.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها