حين ترسم ريشةُ الفنّان حروف الشّاعر

لوحاتٌ تُعانق فنّ الكلمات

الزبير مهداد

قال "سيمونيدس Simonides" (ت: 468 ق.م) واصفاً العلاقة الوثيقة بين فني الرسم والشعر: (الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت)1. هذه العلاقة خصها عدد من النقاد والمفكرين بالشرح والتوضيح، كالفارابي الذي قال عن الشعر والرسم إنهما مختلفان في مادة الصناعة ومتفقان في صورتهما، وعلى الرغم من الفرق القائم بينهما، إلا أن فعليهما جميعا التشبيه. كذلك ابن سينا شخص العلاقة بين الفنين، فرأى أن الشعراء يجرون مجرى الرسامين، والجميع يصور كل شيء يحسه، هذا بالكلمات والآخر بالأصباغ2.
والرسم كالشعر تناول موضوعات شتى، اهتم بجوانب الحياة والوجود، الرسام يتأمل ما حوله بعين القارئ النهم والفاحص المدقق، ويعبر برؤيته الفريدة المتميزة عن تلك الأحوال وانطباعاته وأفكاره. وكثير من العباقرة زاوجوا بين الفنين الشعري والتصويري، فأبدعوا، وأثروا الحياة الثقافية بنصوص شعرية لطيفة ولوحات فنية باهرة.
 وقد خلّف الشعراء في جميع اللغات، قصائد كثيرة عن الرسامين ولوحاتهم، تشيد بفنهم، وكانت موضوعاً لدراسات نقدية عديدة. وفي المقابل صور الرسامون موضوع الشعر والإلهام والشعراء في العديد من اللوحات الفنية. فكيف نظر الرسام لرفيقه الشاعر؟

هذه المقالة تستقصي رؤية الرسام للشاعر من خلال ثلاث لوحات شهيرة، أنجزها فنانون كبار، تقدم صورة الشاعر من خلال ثلاث رؤى: رؤية مثالية متخيلة، ورؤية كاركاتورية، وثالثة حقيقية.


 

الرؤية المثالية
 

نيكولا بوسان Nicolas Poussin رسّام فرنسي، امتدت حياته ما بين 1594 و1665م، عاش أغلب فتراتها في مدينة روما، عاصمة الفنون في عصر النهضة، وفيها طور أسلوبه الفني وحقق نجاحه وتألقه، حتى أصبح من أشهر فناني فرنسا في القرن السابع عشر.
أظهر في أولى أعماله (إلهام الشاعر، وغيرها) والتي أنجزها في إيطاليا، تأثره بالرسَّام الإيطالي تيتيان زعيم مدرسة البندقية الفنية. وبعد تحوله إلى المدرسة الكلاسيكية صارت أعماله أكثر دقة، وأبرز فيها سعة اطلاعه وعمق معارفه بالحياة والأساطير والثقافة اليونانية، ما أكسب رسوماته جواً من الشاعرية الساحرة3.
كان بوسّان يرى الرسم فناً مرتبطاً بالفكر، فاستلهم موضوعات لوحاته من أعمال الشعراء اليونانيين الكبار، فشخص مضامينها من أحداث تاريخية وشخصيات أسطورية ومعتقدات وأفكار، بأسلوبه البديع، فبعث فيها الحياة مجدداً، ولفت لها الانتباه بمنحها بريشته وألوانه طابعاً خاصاً مميزاً، "وليس غريباً أن ينعته النقاد بـ"رافاييل الفرنسي" ولا أن يعتبروه سيد الفن في بلاده، وسيد الكلاسيكية التي تقوم على الربط بين التراث القديم والعقلانية"4.

لوحة "إلهام الشاعر" التي أنجزها ما بين سنتي 1629 و1630، تعد من بين أكبر لوحاته حجماً، مقاساتها (183x 213 سم)، ولعله رسمها إكراماً لشاعر ما، أو أحد شعراء اليونان الكبار.

اللوحة تأطير مربع محصور يبرز ثلاثة شخوص، وملاكين، أحدهما محلقاً، يتوج الشاعر بإكليل الغار، والثاني واقفاً أرضاً يمسك كتاباً بشماله وإكليل غار آخر بيمينه. في وسط اللوحة، يجلس أبولون، رب الشمس والموسيقى والشعر والرسم والإلهام، رمز الجمال البدني الخالد، مستظلا بالشجرة، يسند ذراعه اليمنى على الليرة التي وضعها على فخذه، يلهم الشاعر بإشارة من سبابته ليكتب شيئاً، الشاعر الذي ينتصب واقفاً أمامه، يمسك بيمينه ريشة يتهيأ للكتابة على كراس يمسكه بيده اليسرى، ويحدق بعينيه إلى السماء، لعله يتأمل الملاك الذي يحلق قريباً منه يحمل إكليل الغار ليتوجه به.
على يمين أبولو جهة الخلف تقف يوتيربي، ملهمة الشعر الغنائي، تمسك بيمينها نايها المزدوج، وتسند نفسها بجدع الشجرة، تتكئ عليه بيدها اليسرى لتريح جسدها. تتزيا بلباس شفاف خفيف جداً يبرز مفاتنها، كاشفة عن نصف صدرها، تقابل الشاعر بشكل متماثل. وعلى الأرض، نرى كتابين لشاعرين كبيرين، الأوديسيا لهوميروس والإنياذة لفرجيل، استلهمهما الرسام في كثير من أعماله.
يبدو لون السماء أزرق، ملبد بسحب قليلة، والضوء ينهمر من الأعلى جهة اليمين ليسقط على وجوه الشخصيات وينيرها، والشخصيات الواقعة جهة اليمين (شمال اللوحة) يوتيربي استفادت بكمية ضوء كبيرة، أبرزت مفاتنها بشكل واضح، والملاك الصغير الواقف بجوارها أيضاً، هذا الضوء يتناقص ويقل عند أبولو، ويزداد تناقصاً عند الشاعر الذي لا يضيء سوى نصفه الأعلى مع الملاك الذي يحلق قرب رأسه.
اللوحة تشخص مشهداً من مشاهد جبل بارناس بضواحي أثينا، وهو الإقامة المقدسة للشعراء، حيث يلتقون هناك ربات الوحي الشعري اللواتي يحلقن حول أبولو ويلقين بالإلهام للشعراء. وإشارة الرسام إلى كتابي هوميروس وفرجيل في اللوحة تحمل دلالات واضحة. فالشاعران الملحميان رسما في قصائدهما عوالمَ خيالية وأحداثاً أسطورية، احتل فيها الأرباب والأبطال العظماء مكاناً بارزاً، لذلك كانت أعمالهما مبهرة بمعالجتهما الأحداث وصياغة الحكايات ورسم معالم الشخصيات بطريقة وأسلوب لا يخطران على بال الإنسان العادي، ما جعل الاعتقاد بأنهما يتلقيان وسائر الشعراء إلهامهم من ربات الإلهام.
التوزيع الجيد المتناغم والتماثلي للشخصيات، الذي أنجزه الرسام، واستعماله الخطوط الواضحة والألوان الهادئة، أسهم في إحياء وتجديد مشهد ميثولوجي قديم منحه حياة جديدة خلال عصر النهضة الإيطالي، جمع فيه بين دقة التنفيذ وتناغم الخطوط والألوان.
 

الرؤية الكاريكاتورية
 

كارل شبتزفيك Carl Spitzweg شاعر ورسام رومانسي ألماني عصامي، ينتمي إلى التيار الرومانسي، ولد في بافاريا عام 1808 .كان يهوى الرسم، ثم تفرغ له ابتداء من عام 1833. وعمل في إحدى الصحف رساماً للكاريكاتير خلال الفترة من 1843 إلى 1853. واصل الرسم إلى سنين متأخرة من عمره، حتى وافته المنية عام 1885. وخلف أعمالا كثيرة موزعة على متاحف ألمانية وأوروبية.

من لوحاته الشهيرة لوحة الشاعر الفقير (1839)، تصور بشكل أقرب إلى الكاريكاتير شاعراً يعاني الفقر والوحدة، يعيش في غرفة خالية من المتاع، بألوان باردة تنبئ عن فصل الشتاء، ومنظر كئيب.

الرسام الفرنسي هونوري دوميي Honoré Daumier (توفي: 1879)، رائد فن الكاريكاتير في أوروبا، أعجب بلوحة "الشاعر الفقير" وعلى منوالها أنجز لوحة "شاعر في غرفة السطح" Poète dans la mansarde، على خشب محفور سنة 1842، شخص فيها حياة شاعر بئيس في غرفته يعيش ظروفاً قاسيةً، هذه اللوحة التي يطغى عليها السواد، يتوسطها جسم شاحب نحيل كالشبح، بأنف حاد وشعر مهمل ولحية كثة، الشاعر بلباس النوم، جالس على سرير أقيم في زاوية الغرفة، جدرانها السوداء ثبت عليه رفاً به بعض المتاع، وقبعة معلقة، بجوار السرير شمعة مضيئة ضوءها باهت لا يكاد يتعداها، وكرسي وضع عليه ملابس قليلة رثة. يتوجه صوب السقف بعينين ملتهبتين، تنمان عن شعور باطني بقلق عظيم، وغضب وأنواع العصاب، ويمسك بيده اليمنى ريشة، لعله يخط بها بعض ما تجود به قريحته من أبيات شعرية.


.Poète dans la mansarde, 1842


اللوحة الكاريكاتورية لا تسخر من ظروف الشاعر، لكنها توجه رسالة واضحة المغزى لكل من يغض البصر عن ظروف هذه الشريحة البئيسة من المثقفين.

الناقد الألماني ويخمان Wichmann، قارن رسمي شبتوفيك ودومييه، فعلق قائلا: (الشاعر الألماني مرتاح في عالمه الرائع، لا يركز انتباهه سوى على البرغوثة التي يمسكها بين أنامله. الفرنسي قلق وغضبان، يتأمل بريبة سقف الغرفة، النص الذي يحرره حتماً ساخر، يلهب تشهيراً). خلاصة القول إن دومييه يعبر عن ريبته في مواجهة عالم رتيب، بينما الشاعر الألماني بقبعة نومه يعبر عن ارتياحه الشخصي5.

وللتذكير، فقد أنجز دومييه عام 1848 رسماً آخر مطبوعاً على الحجر، استوحاه من لوحة "الشاعر الفقير"، ضمن مجموعته "مستأجرون وملاك" نرى رجلا مضطجعاً على فراشه في غرفة السطح، يمسك مظلة يتقي بها المطر المتسرب من السقف المهترئ، في حين، يقول هوفمان معلقاً: إن شبتزفيك جعل المظلة بمثابة تتويج للشاعر في وقت تراجع فيه الإبداع6.
 

الرؤية الحقيقية
 

ناثان آلتمان Nathan Isaevich Altman ولد في أوكرانيا عام 1889م لعائلة ثرية تشتغل بالتجارة. ودرس الفنّ في جامعة كييف. وفي 1910 ذهب إلى باريس حيث مكث فيها عاماً، درس خلاله في الأكاديمية الروسية الحرّة، وتعرّف هناك على مارك شاغال ومواطنه الرسّام الكسندر ارشيبينكو.

رسم ناثان آلتمان مناظر للطبيعة، حاول فيها بعث تقاليد الانطباعيين، كما أنجز رسوماً توضيحية لبعض روايات غوغول. وديكورات المسرح الروسي، تميز فنه باتجاهه الواقعي الحالم، مع تأثر واضح بالتيارات الفنية الحديثة على عصرها.

اشتهر برسم البورتريهات الشخصية، ويعد بورتريه أخماتوفا والتمثال النصفي للزعيم لينين، من أهم وأشهر ما أنجز في هذا المجال، وبفضلهما اكتسب شهرة عالمية، ونال الميدالية الذهبية للمعرض الفني العالمي الذي أقيم في باريس سنة 1925.

ومن أهم أعماله بورتريه الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا، هذه الشاعره Anna Akhmatova (غورينكو)، التي ولدت في أوديسا الأوكرانية عام 1889م لأسرة ثرية، وتميزت منذ صغرها بطبعها الحاد، كما اتسمت بالذكاء المتقد والفطنة ورهافة الحس، بدأ اهتمامها بالشعر في صباها. وسرعان ما لمع نجمها، فأضحت اسماً بارزاً في الشعر الروسي المعاصر. وقد اشتهرت بأشعارها التي يغلب عليها التأمّل والحزن.

عُرفت أخماتوفا بتصدّيها الشجاع للاستبداد السياسي والتقاليد الاجتماعية، في عز الأزمة السياسية الاجتماعية الروسية، وزمن الانتفاضات الشعبية والثورات، وصَعَّدَت احتجاجها وتمسكها بمواقفها المعارضة، حتى بعد نجاح الثورة في القضاء على القيصر والاستيلاء على السلطة، فكلفتها جرأتها السياسية وشجاعتها الأدبية سنوات من السجن والتضييق عليها وعلى أسرتها في ظل النظام الشيوعي الجديد. فأعدم زوجها ونفي ابنها إلى سيبريا، وطردت من اتحاد الكتاب، ولم يسمح بنشر شعرها وتداوله على الرغم من شعبيتها الواسعة. فكانت تعد إحدى أعظم الشاعرات في العالم. توفيت سنة 1966، وأعيد لها الاعتبار بعد وفاتها، فطبعت دواوينها، وتم تكريمها في الاتحاد السوفياتي ودول أخرى.

وقد رسم لها ناثان آلتمان هذا البورتريه سنة 1914، ويعد من أشهر أعماله، وأحد أشهر الروائع الفنّية في العالم. والبورتريه يعد فناً صعباً في عرف الفنانين، لصعوبة الوفاء بتصوير الشخصية بدقة تحدد ملامحه الجسدية البارزة المميزة، وتعبيراتها عن مزاجه النفسي الذي اشتهر به. لكن آلتمان استطاع تحقيق ذلك بشكل مذهل في عمله الفني الرائع.

 تبدو من خلال البورتريه ملامح تأثر آلتمان بالتيارات الفنية الحديثة كالتكعيبية والانطباعية، مزج بينها الرسام بطريقة نادرة موفقة، فتكعيبية آلتمان ليست من النوع الصارم، حفاظاً على وضوح معالم الشخصية، وحيوية الألوان.

في اللوحة تبدو الشاعرة جالسة على كرسي، تنتعل حذاء وجوارب سوداء، وتضع قدميها على كرسي خشبي واطئ، ترتدي فستاناً أزرق، وتلف حول ذراعيها وشاحاً أصفر برتقالياً. واللون الأزرق الطاغي بدرجاته في الرسم ما بين الفاتح والداكن، أكسب اللوحة هوية دينية يهودية، فهذا اللون يرمز في الثقافة اليهودية إلى قداسة وعظمة النفس. وعلى الرغم من أنه لون بارد، يدعو إلى السكينة والهدوء، فقد جعله الرسام بمهارته يتناغم ويتآلف مع اللون الأصفر البرتقالي الحار الذي يستمد من الشمس والضياء، ويرمز إلى القوة الذكية والحكمة والحب الإلهي7، ويثير في النفس بهجة ويحركها.

لم يغفل الرسام إبراز ما يميز الشاعرة من مزاج قلق وكآبة، فجعل عينيها تشعان بحزن غريب، ترنوان إلى البعيد القريب منها، كما رسم أنفاً محدباً وشفتين رقيقتين وقصة شعر تقليدية تمنح وجه الشاعرة شكلا أيقونياً، يضفي على هذا البورتريه مزيداً من رمزية الحزن الذي يطبع أشعارها. هذا الشكل الأيقوني لوجه الشاعرة، ستستنسخه الرسامة الروسية أولغا ديلاروس كاردوفسكايا وغيرها من الرسامين خلال إنجازهم بورتريهات للشاعرة.

إن الرسام ناثان جعل من اللوحة مرآة تنعكس عليها شخصيته، هويته الدينية، قلقه وطموحه، معاييره الجمالية، روحه المغامرة التي تبحث عن فضاءات أرحب تحلق فيها. عبر خلالها عن رفضه للتقاليد الاجتماعية والسياسية الصارمة التي تقيد المبادرة الفنية.


الشاعر تشارلز بودلير (رسمها: غوستاف كوربيه - 1848)
 

تداخل الواقع والمتخيل

إن الرسام يقوم بنقل المشاهد الواقعية أو المتخيلة، ويسبغ عليها رؤيته الخاصة، لذا تعكس اللوحة من خلال ملامحها وألوانها وخطوطها هوية الرسام وتفاعله النفسي والعاطفي مع الموضوع. واللوحات التي تم استعراضها، تقدم لنا الشاعر في تجلياته المختلفة، في المخيال الشعبي، وفي ظل الفقر المتخيل أيضاً، وإنساناً كسائر الناس، يحمل همومهم ويتغنى بأحلامهم وينقل أنينهم ويذكي طموحهم. واللوحات استطاعت نقل الأفكار بشكل أفضل وأبلغ تعبيراً من الكلمات، وأيسر على الفهم والإفهام.

ويبقى موضوع الشعر والشعراء والشاعرية، من أهم المحاور المستقطبة لاهتمام الرسامين، المحركة لخيالهم في مراسمهم، عبر جميع العصور وفي كل البلدان.


هوامش
1. مكاوي، عبدالغفار: قصيدة وصورة (الشعر والتصوير عبر العصور) الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 119، نوفمبر 1987م، ص: 15.
2. الصفراني، محمد: الشعر والرسم، جريدة الرياض، عدد 15974، الصادر يوم الخميس 1 أكتوبر 2009، (شبكة انترنيت).
3. فياض، ليلى لميحة: موسوعة أعلام الرسم، بيروت، دار الكتب العلمية، 1992، ص: 88-91.
4. العيادي، أبو بكر: نيكولا بوسان رسام فيلسوف مزج بين المقدس والمدنس، جريدة العرب (لندن)، العدد9921، صادر يوم 18 مايو 2015، ص: 16.
 .5Hofmann , Werner: Daumier et l'Allemagne, Thomas de Kayser (Traducteur) ; Maison Des Sciences De L'homme, Paris, 2005, p 13
6 .Hofmann, ibid
7. سيرنج، فيليب: الرموز في الفن والأدب، ترجمة: عبدالهادي عباس، دار دمشق، 1992، ص: 426.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها