السّينما.. فنٌّ وسلعة

سمر عادل


السينما، بوجه عام نمطان من الإنتاج: أفلام تجريبية، لا يتم استهلاكها وتلقيها إلا من جمهور محدود، وهي بهذا تختلف عن الأفلام التي اعتاد الجمهور على تلقيها. ولا يمكن أن ننكر أن الأفلام التجريبية أساس تطوير أدوات إنتاج جماليات الفنون، ومن ناحية أخرى هناك الأفلام التي اعتاد الجمهور على مشاهدتها، وتمثل الركن الأساسي من السينما؛ لأنها تتعامل مع السينما كصناعة وكمؤسسة ثقافية شعبية مؤثرة، صانعة للشخصيات والمُثل.
 

والسينما في مجملها فن يقوم على الإتاع، فهي تقع بين الفن الرفيع كالشعر والفنون التشكيلية، وبين الثقافة الشعبية التي يتم استهلاكها على نطاق واسع، ومن جمهور تختلف ثقافاته وتتنوع. كلما كانت السينما متقدمة يكون هناك توازن بين الأفلام التجريبية الطليعية التي تطور الجماليات، وبين مستوى معين للأفلام الشعبية، وهذا يتضح في السينما الأمريكية على سبيل المثال، فهي صناعة وفي نفس الوقت تحتفظ بسمة أساسية وهي أن جماليتها متقدمة. وبوجه عام السينما بقدر ما هي فن، فهي صناعة تنتج سلعة تُستهلك وفقاً لحجم الطلب عليها، وهناك بالفعل دراسات متخصصة فيما يسمى "اقتصاديات السينما". ونحن نعرف جميعاً أشهر الأفلام العربية التي حققت عائداً اقتصاديًا كبيرًا، مثل فيلم: "خلي بالك من زوزو"، و"أبي فوق الشجرة"، و"الكيت كات"، وعالمياً كفيلم "تايتنك".

السينما كصناعة تعد رافداً من روافد الصناعات الثقافية، وهذا الضلع الهام منها يكون عنصراً هاماً من عناصر الدخل القومي، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تُمثل السينما أحد صادراتها الهامة، التي توزع على 140 دولة تقريباً، وهو ما حقق لأمريكا عوائد تقدر بأكثر من 16.5 مليار دولار، وفقاص لآخر إحصائيات موقع اتحاد أفلام الحركة قبل جائحة كورونا Motion Picture Association of America، كما أن الفنون الأمريكية بوجه عام ساهمت في ضخ 763.3 مليار دولار، وهذا الرقم يمثل أربعة أضعاف ما يسهم به قطاع الزراعة، ويتخطى أيضاً قطاعات أخرى كقطاع النقل والتخزين، وبالطبع هذه الصناعة الضخمة تمتص حجماً كبيراً من العمالة بأشكالها المختلفة. وبالنظر إلى دولة أخرى كالصين تساهم صناعة الأفلام في الناتج المحلي الإجمالي بـ 146 مليار يوان. السينما أيضاً يمكن أن تساهم في الاقتصاد، وإدخال النقد الأجنبي للدول بشكل غير مباشر عن طريق الترويج السياحي عبر المشاهد المصورة في أماكن سياحية، كما فعلت تركيا عبر الدراما التي اجتاحت القنوات العربية، وهو ما جعل الكثيرين من الأفراد يرغبون في في زيارة تركيا، وكذلك الهند بسبب ما يرونه على الشاشة لهم من أفلام ومسلسلات. فضلًا عن أن هذه الأفلام تحمل رؤى للعالم وأيدولوجيات خاصة بالأمم التي تنتجها، وهذا أمر بالغ الوضوح في تأثير الأفلام الأمريكية على مشاهديها الذين يتشبعون بالقيم الأمريكية، ويقلدون أنماط الحياة فيها، ويحلمون بالهجرة إليها. وهو ما يسميه البعض بالنمط الأمريكي، ذلك أن طبيعة السرد السينمائي وجاذبية النجوم، وخاصة في الأفلام الشعبية يمثلون نماذج وقدوة للشباب.

كل هذا يأخذنا إلى صناعة السينما في مصر، التي كانت تُمثل ثاني مصدر من مصادر الدخل القومي بعد محصول القطن، وهو ما يعني أن صناعة السينما كانت جزءاً أساسياً من الدخل القومي المصري، وهي التي أعطت مصر فضل الريادة في هذا المجال، ونشرت اللهجة المصرية، ونقلت صورة خاصة عن مصر ما زالت آثارها ماثلة في مخيلة المشاهدين العرب، وخصوصاً مع ازدياد الرغبة في استهلاك أفلام الأبيض والأسود القديمة، التي أنتجت في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. السينما الآن في وضع مختلف فهي تعاني أزمات عدة في نوع النصوص التي تكتب لها، وفي قلة المخرجين المبدعين، فضلًا عن تركز الإنتاج في يدي عدد قليل من المنتجين، وفي الخضوع لمطالب الموزعين، وتراجع دور الدولة في الإنتاج إذا قورن بدورها في الخمسينيات والستينيات. كانت دور العرض السينمائي تملأ كل أحياء القاهرة الفقيرة والغنية، وفي كثير من المدن الصغيرة في المحافظات. أما الآن قد تغير الوضع تماماً، فهذه الدور أصبحت مقاهي ومحلات تجارية، وبعضها تم غلقه أو هدمه.

في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كانت مصر هي المنتج الوحيد في الإقليم العربي، وساعد على ذلك ما عاشته مصر في هذه العقود من انفتاح على الآخر. وبالطبع خلق هذا السياق كيانات إنتاجية فردية، مثل استديو مصر وشركة آسيا للإنتاج السينمائي وغيرهما من الكيانات، وبالرغم من أنها كيانات فردية يملكها أشخاص إلا أنها تلقت دعماً سخياً من الدولة بعد قيام ثورة 1952، والأهم أنها كانت محمية بالسياق الثقافي المنفتح، ومنذ نهاية السبعينيات تقريباً بدأت إرهاصات انهيار هذه الصناعة القومية المهمة، لا في الإنتاج فقط ولكن في نوعية الأفلام. صحيح أن ما يسمى بموجة مخرجي الواقعية الجديدة، كمحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة، قد مدت الصناعة بحيوية جمالية جديدة، إلا أن هذا الانهيار قد تواصل.

مصر الآن تحتاج إلى إنعاش هذه الصناعة وأن تعود الدولة إلى دعمها، بعد دراسة التجربة الأولى التي كانت في الفترة الناصرية، بحيث تتوازن القيمة الفنية مع ما تحققه السينما من عوائد مادية، واجتماعية، وثقافية، وأيدولوجية. وفي هذا السياق سيعود للسينما دورها في الاقتصاد، وفي تشكيل وعي المواطنيين بالقضايا الحيوية. كما سيتمكن المخرجون الطليعيون من التجريب، الفني حتى لو اختلفنا مع بعضهم في تشكيلهم الجمالي لهذه الأفلام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها