​90 عاماً من الفن الجميل

جورج البهجوري فنان استثنائي

محمد بغدادي


أتم الفنان جورج البهجوري منذ شهر -تقريباً- عامه التسعين، وبهذه المناسبة أقام معرضه الاستعادي، بقاعة بيكاسو بالزمالك، حيث قدم مجموعة رائعة من أعماله الجديدة المبهرة، وضم المعرض عدداً قليلاً من أعماله التي أنجزها في سنوات مضت، وعندما تشاهد أعمال الفنان الكبير جورج البهجوري الأخيرة تبهرك ألوانه المبهجة، وثراء موضوعاته المتنوعة التي لا تنتهي، والتي يستلهمها من الواقع اليومي المُعاش، ويظل عشقه الذي لا ينفد لأم كلثوم هو سيد الموقف، حيث اختصها كما عودنا بلوحة كبيرة توسطت أعماله، تجاوزت مساحتها (240×180سم)، وتألق البهجوري في عدد كبير من أعماله الجديدة الصغيرة والمتوسطة، التي بلغت 30 لوحة فنية، بالإضافة إلى ثلاث قطع نحتية من البرونز.
 

وإن كنت لا تعرف البهجوري عن قرب، فلا يفدك كثيراً الحكم عليه من أول وهلة، ولكن تأكد أنك تقف هنا على عتبات البهجة الفنية والإنسانية، لفرط بساطته وبوهيميته، تحسبه واحداً من آحاد الناس، يلقاك بابتسامة صادقة، ووجه مشرق بالتفاؤل والأمل، يعاملك بلا تكلف، يباغتك بعفويته المفرطة، وابتسامته الساحرة، فلا تدري إن كان يداعبك، أو يتحدث إليك بجدية، يقتحمك بلا مقدمات، يبدأ حديثه معك بجملة مثيرة للجدل، وكأنه يكمل حديثاً متصلاً انقطع منذ برهة قصيرة، فتكتشف بعد قليل أنه يكمل حواراً قد بدأ بداخله، وعليك أن تتواصل مع هذا الحديث السريالي، وتكمل معه فانتازيا الحوار، وفجأة تفيق لتجد نفسك تقف داخل عالمه المدهش، إنه الفنان العالمي الكبير، والمصور المصري المبدع، ورسام الكاريكاتير القدير، الفنان جورج البهجوري.
 

إذا حاولت أن تخوض مغامرة الكتابة عن الفنان الكبير جورج البهجوري، فأنت بحاجة إلى أن تعايشه، فالتعامل مع البهجوري على أنه فنان تشكيلي فحسب، لا يفي باحتياجات الناقد التشكيلي، ولا يشبع رغبات من يتصدى للكتابة عن حياته كإنسان، أو يصف مشواره كفنان، ولا يثري خيال أي باحث مجتهد يسعي لسبر أغواره الغامضة والملتبسة، حتى إذا رحت تتأمل لوحاته مَلِيَّا ثم تشرع في الكتابة عنه، فتأكد أنك لن تصل إلى أعماق تجربته الحقيقية، ولن توفق في تناول رحلته الإبداعية، وقراءة أعماله الفنية بموضوعية تليق به، فالفنان جورج البهجوري حالة فنية وإنسانية استثنائية، حالة متدفقة بالحياة، مفعمة بالمشاعر، زاخرة بتجارب على درجة عالية من التنوع الثقافي، والخبرات الفنية والحياتية الملهمة، فمصادره ومرجعياته البصرية ذات ثراء نادر، مرجعيات تخصه هو وحده، يختزنها بشكل تراكمي بداخله، حيث تمتد عناصر ذاكرته البصرية عبر آلاف السنين، منذ أن بدأت ملامح الحضارة الفرعونية في التبلور والظهور، ومروراً بقريته (بهجورة) في صعيد مصر، حيث ولد عام 1932، ثم انتقاله للقاهرة وشوارعها وأسواقها ومقاهيها، وبعد ذلك دراسته الأكاديمية بكلية الفنون الجميلة بالزمالك، ودخوله إلى عالم الصحافة في وقت مبكر من أوسع أبوابها –آنذاك- دار روز اليوسف، كمؤسس لمدرسة الكاريكاتير المصرية الحديثة، وانتهاءً بباريس حيث مدينة الفنون الفرنسية، ليتعرف على مدارسها الفنية الكلاسيكية والحديثة، إلى أن أصبح فناناً عالمياً، فبات العالم كله قرية صغيرة في لوحاته المتنوعة وإنتاجه الغزير.

ولا أعتقد أن هناك فناناً غيره يمتلك هذا الكم الهائل من الأعمال الفنية، فهو يرسم كل شيء، ويرى ما لا نراه، ويرصد ما نعجز نحن عن رؤيته، فرؤاه الفنية غنية ومتعددة ومتباينة ومركبة، وغاية في البساطة في ذات الوقت، فالبهجوري هو السهل الممتنع، لا شك أنه صاحب مدرسة متفردة ومتميزة، سواء في اللون والخط، أو التكوين والاتزان، أو الكتلة والفراغ، أو الظل والنور، أو الإيقاع والحركة، فعناصر عالمه الفني، ولوحاته المتنوعة، شديدة الثراء، حيث اكتملت أدواته الفنية منذ زمن بعيد، وتجلى هذا في تمكنه من قدراته الفنية وخبرته العريضة والعميقة، وامتلاكه للغة بصرية خاصة ومتفردة، وكل ذلك مكنه من أن يرسم في أي وقت، وعلى أي مساحة، وفي أي مكان وعلى أي سطح، وبأي خامة، وفي أسرع وقت، فهو فنان سريع الاشتعال، قادر على التوهج في لمح البصر، قادر على أن يرسم كل شيء، وأي شيء يصادفه.

تصطف أمامه الفتيات والصبية، الرجال والنساء، الكبار والصغار، الفنانين ورجال السياسة، زملائه الفنانين وجمهوره الذي يرتاد معارضه، بائع (السميط)، ضاربة الودع والراقصة، الحاوي والدرويش، بل الرؤساء والملوك والزعماء، يصطفون جميعاً أمامه في انتظار أن يرسمهم البهجوري، لا ينظر إليك وهو يرسمك، يكفي أن يلقي عليك نظرة طويلة متأنية، يتأمل ملامح شخوصه ويتفحصهم بعينه وقلبه، فيكوِّن ملامح الوجه بعينيه، ويلتقط روح الشخصية بقلبه، ثم ينصرف عنهم ليرسمهم من خياله في لمح البصر دون أن ينظر إليهم، ابتكر فكرة الخط الواحد المتصل، يضع القلم على الورقة ولا يرفعه إلا بعد أن ينتهي من رسم (البورتيريه) في أقل من دقيقة، وينصرف عنك، ليتفرس وجهاً جديداً ليرسم غيرك.

هناك بالطبع وجوه لا ينساها البهجوري، فتعود لتلح على ذاكرته البصرية، فيرسمها مرة أخرى من الذاكرة باحثاً عن مواطن الجمال والفتنة في هذا الوجه أو تلك العيون، مستحضراً هذه الروح التي تظل محلقة بداخله، فقد امتلك زمام أدواته، فطاوعته لغة التعبير البصري، فهو ينشد قصائده التشكيلية ولوحاته المتدفقة بالحياة بلا عناء، وبسرعة لا يجيدها إلا فنان فذ اعتاد أن يرسم ما يشاء، وقت ما يشاء، فالبهجوري يعيش ليرسم، فهو دائماً في حالة إبداع، يرسم وهو يدخن النرجيلة، يرسم وهو يشرب الشاي، وهو يأكل، وهو يحدثك، وهو يمشي، وهو مسافر على طائرة، أو سفينة، أو قطار، فالبهجوري في حالة رسم دائمة ومتصلة، أدوات الرسم لا تفارق حقيبته، فهو يتوقف فقط عن الرسم حين تداهمه إغفاءة قصيرة وسط النهار، أو عندما يخلد إلى النوم عندما يأتي المساء.

وربما يكون هذا الانطلاق والتدفق والرسم المستمر طوال اليوم أمام الجميع في الشارع أو المرسم، بمثل هذه السهولة الرائعة، وهذه السرعة الفائقة، وهذه البساطة الممتعة، وكأنه يرسم على الهواء مباشرة دون توقف، ربما كل هذا العطاء المتجدد بلا انقطاع، وسهولة إقباله على رسم اللوحة، وسرعة إنجازه لها، جاء خصماً من رصيد الاعتراف بعبقريته الفذة، ومهارته الفائقة، فهذه السهولة التي ينجز بها أعماله أمام الجميع، جعلت التفكير في الولوج على عالمه السحري سهل المنال، وأن الطريقة التي يرسم بها أحالته -من وجهة نظر البعض- إلى مجرد فنان استعراضي وحسب، يسعي لأن يرسم الناس جميعاً وسط تجمع من المبهورين بريشته السريع، دون أن يدركوا جميعاً أن هذه الطاقة الفنية المبهرة، وهذه الإجادة والمهارة الفائقة، وهذه السرعة العجيبة، والسهولة الممتنعة على غيره من الرسامين، تتوارى خلفها عشرات السنين من الدراسة الأكاديمية، والخبرة والإبداع، والتدريب اليومي على رسم آلاف اللوحات، وإنجاز آلاف البورتيريهات، حتى أن بعض الفنانين والنقاد التشكيليين لا يدركون مدى العبقرية التي يتمتع بها البهجوري، بل إنّ البعض تعامل مع ظاهرة الهجوري باستخفاف لا يليق بفنان عالمي بحجم البهجوري، ذلك لأن الفنان الكبير جورج البهجوري، لم يتعود أن يحيط نفسه بهالة من الغموض والكتمان، فهو لا يحمي نفسه عن أعين الآخرين بسياج من الكهنوت الفني، والادعاء الكاذب، والتفخيم والاستعلاء، والتقوقع داخل برج عاجي، لإيهام الآخرين بأهمية زائفة.

البهجوري يعيش حياة سهلة وبسيطة بل وعادية جداً، البهجوري انسلخ عن ذاته، وتوحد مع جمهوره وفنه، والتصق بلوحاته حتى صارت جزءًا من طقسه اليومي، فهو يستيقظ في الصباح يتناول أبسط الطعام، ويستقبل لوحاته بحب وشغف، ونقصد ب(لوحاته) هنا أنه عادة ما يبدأ العمل في أكثر من لوحة، ويظل ينتقل من تلك إلى الأخرى، وهكذا ويبدأ في الرسم فلا يتوقف، يُعيد رسم أبطال لوحاته لعشرات المرات، بل بعضها مئات المرات (مثل أم كلثوم).. دون أن تشبه أي لوحة منها اللوحة التي سبقتها، أو تلك التي ستليها، إنه حريص على التكرار ومُصرّ عليه، غير أن لوحاته لا تتكرر، فكلها مختلفة عن بعضها، تماماً كالقصائد، الموضوع واحد، والمفردات تكاد تكون واحدة، ولكن القصيدة مختلفة، والجمال متعدد النغمات، في الأداء والروح، والجرس الموسيقي، في الحركة والإيقاع، في التكوين والألوان، هكذا يصور البهجوري لوحاته، أو يرسم قصائده التشكيلية، ويعيش داخل عالمه بين أربعة أضلاع اللوحة، كأنه يعيش فيها، تسكنه ويسكنها، فإذا كلت يداه من طول جلوسه أمام لوحاته، نزل إلى المقهى الملاصق لمرسمه بشارع معروف بوسط مدينة القاهرة الخديوية، آخذاً معه كراسة (الاسكتش)، فيشرب الشاي ويدخن (الشيشة)، ويرسم كل من يمر من أمامه، أو يجلس إلى جواره، أو يأتي ليسلم عليه، مساح الأحذية، صاحب المقهى، بائع المناديل، إنه في حالة نادرة من العطاء الدائم، والحب الجارف لفنه ولكل الناس من حوله، وعندما أقدمت على تجربة تأليف كتاب عنه، دخلت عالمه الساحر ولم أخرج منه حتى صدر الكتاب في مجلد ضخم، وعندما كتبت عنه لم تنته الكتابة بطباعة الكتاب فجورج البهجوري نص مفتوح ليس له نهاية، إنه فنان استثنائي كبير، صاحب الألف لوحة ولوحة، إذا دخلت عالمه الساحر، وأقمت حواراً مع كائناته المدهشة، أدركت أنه نهر من العطاء.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها