قصر المجاز.. جوهرة بحر الزقاف

د. عبد السلام الجعماطي



لقد شكّل إشراف المغرب على مضيق جبل طارق عبر عصور التاريخ الإنساني، أساس موقعه الاستراتيجي، وبؤرة الاهتمام المنسدل على ساحليه المتوسطي والأطلنتي. هذا المضيق الذي فضّل بروديل أن يسميه بـ"المانش المتوسطي"، لوجوده في أقصى غرب البحر المتوسط، كقناة ضيقة مضغوطة بين الساحلين الإيبيري شمالاً والمغربي جنوباً، قد مثّل مجالاً متميزاً للتشارك، وفرض على ساكنة ضفتيه التفاعل معه كجسر عبور أكثر منه حاجز انفصال، لذا كان هذا الحيز المائي واحداً من الفتوحات الإسلامية في العصر الوسيط. إنه أشبه بـ"جدول مائي" يوحّد أكثر مما يفرّق، وبالتالي يجعل من إفريقيا الشمالية وإيبيريا عالماً "بيقاريا" قائماً على الامتزاج التلقائي أو الاضطراري.
 

تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة جديدة لمسألة تاريخية وأثرية لم تحسم بعد، وتتعلق بموقع القصر الأول، أو قصر صادة، أو قصر المجاز، أو قصر مصمودة، أو القصر الصغير، كما بات يعرف لدى البرتغاليين والإسبان، وكلها أسماء محلية ودولية لهذه القلعة الشامخة، وعلاقة هذا القصر بموقع أثري آخر ضارب في القدم، أسفرت التنقيبات الأثرية التي أجريت على ضوء ما كشفت عنه أشغال الطريق السيار الممتد نحو ميناء طنجة – المتوسط في أوائل هذه الألفية، عن وجوده بموضع ظهر أسقفان، والذي يعتقد عدد من الدارسين أنه هو الموقع الأثري الأول للقصر الصغير، منذ الحقب الفينيقية - المورية والرومانية، وحتى مجيء الفتوحات الإسلامية في القرن الأول للهجرة. ومن المعلوم أنّ موقع قصر المجاز انتقل منذ العصرين الموحدي والمريني، نحو مصب النهر على مضيق جبل طارق؛ أي في موقعه الحالي، واتخذ اسم قصر المجاز بالنظر إلى دوره في عبور الفاتحين المسلمين نحو الأندلس خلال معظم فترات العصر الوسيط. فما علاقة الموقعين بعضهما ببعض؟ وهل نشأ قصر مصمودة إلى جانب الموقع الأول؟ أم انتقل سكان الموقع الأول في حقبة معينة إلى الموقع الآخر في ظروف غامضة لم يُفصِح التاريخ بعد عن أسبابها؟


مكانة قصر المجاز في المجال والزمان

يشرف قصر مصمودة أو قصر المجاز على الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق في جزئه الأوسط، وهو الجزء الذي يتصف جغرافياً بالتقارب الشديد بين ضفتيه اللتين تفصل بين المغرب وإيبيريا، وبين قارتي أوروبا وإفريقيا، حيث تفصل بين ضفتي المضيق في بعض نقاطه مسافة تقل عن عشرة أميال، وتترأى من الجانبين مدن وجبال وشطآن ومسالك ومظاهر شتى من أوجه الحياة الإنسانية، وتبدو السفن العابرة للمضيق كأنها لعب أطفال تطفو وسط حوض سباحة، ولكل هذه العوامل الطبيعية والمميزات الاستراتيجية لهذا الموقع، فقد شكّل قبلة للصادرين والواردين من الأقطار الواقعة على ضفتي المضيق.

كما كان عبر التاريخ محط أطماع القوى الإمبريالية التي كانت تحذوها الرغبة في الهيمنة على التجارة والملاحة الإقليمية والعالمية، فمنذ عهود الفينيقيين والقرطاجيين، مروراً بالإغريق والرومان، ثم بالدول الإسلامية المشرقية والمغربية، وانتهاء بالإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة والمعاصرة، ظل قصر المجاز نقطة التقاء وتقاطع مصالح القوى السياسية والاقتصادية الكبرى المهيمنة على الساحة الدولية، وأدى القصر في معظم مراحل تاريخه العربي الإسلامي دور الحصن الدفاعي المتقدم، أو دور القاعدة العسكرية والبحرية الرائدة في مجال الفتوحات والغزوات الخارجية، ومنها استمد اسمه التاريخي وهو قصر المجاز؛ أي الجواز من المغرب نحو الأندلس، وهو اسم ظهر في الأدبيات الجغرافية والتاريخية العربية منذ القرن الثاني للهجرة، مرادفاً للفتح والعبور العربي إلى ضفاف أوروبا مع طارق بن زياد وموسى بن نصير، ثم تتالت الفتوحات مع الأمويين والمرابطين والموحدين والمرينيين، قبل أن تنطفئ جذوتها مع الغزو البرتغالي لقصر المجاز عام 1458م، والذي تزعمه ملك البرتغال شخصياً بمعية أسطول ضخم في حجم الأساطيل التي غزت القارة الجديدة بعد سنة 1492م، وبعد نيف وثمانين عاماً، اضطرّ الغزاة إلى تركه وإخلائه نهائياً بعد أن تجرعوا أثناء احتلالهم للقلعة ألواناً شتى من العزلة والخوف، وأشكالاً فريدة من المقاومة المسلحة الباسلة، وضروباً من الحصار الاقتصادي والضغط النفسي من لدن المغاربة، وكانت الإمبراطورية البرتغالية المترامية الأرجاء تقاصي المرارة في إصرارها على الاحتفاظ بالقلعة، بسبب التكاليف المالية الباهظة التي تكبدتها، والخسائر البشرية الفادحة التي دفعتها جيوشها دفاعاً على وجودها هناك.

قصر مصمودة لدى الجغرافيين القدامى

تعود أقدم الإشارات التاريخية إلى وجود موقع حضري مأهول جنوب مضيق جبل طارق في المكان المحتمل أن يكون هو نفسه قصر المجاز، إلى مصادر قرطاجية وإغريقية ورومانية، وتتمثل في رحلة سيلاكس (القرن 4ق. م.) الذي أفاد في هذا الصدد ما نصه: "عمود هرقل في ليبيا: رأس أبيلا، ومدينة مشيدة على النهر، تقابلها جزر كاديس" (111).؛ وفي جغرافية استرابون Strabon (ق. 1م) الذي ذكر عن الجزء الأوسط من الضفة الجنوبية للمضيق ما يلي: "كان بعض المؤلفين يعتقدون أنّ عمودي هرقل هما كالبي وأبيليكا: وهذا الأخير هو الجبل الواقع في ليبيا مواجهاً لكالبي؛ ويرتفع هذا الجبل حسب ايراستوتين على تراب شعب ميتاغونيوم النوميدي“. III170؛ وفي كتاب "التاريخ الطبيعي" للمؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر Caius Plinius Secundus (القرن 1م) الذي يذكر عنه المعطيات الآتية: "ينتج هذا الإقليم الذي تمتد فيه الجبال من ناحية الشرق كثيراً من الفيلة، وتوجد هذه الحيوانات كذلك في جبل أبيلا، وفي الجبال التي يطلق عليها الإخوة السبعة نظراً لتماثل ارتفاعها؛ وتنضم هذه الجبال إلى جبل أبيلا للإشراف على المضيق"، وتدل جميع هذه الأوصاف على قدم تعمير الموقع، كما يتأكد من خلال فصول هذه الدراسة أنّ قصر المجاز يمكن اعتباره أحد أعرق المواقع الحضرية جنوب مضيق جبل طارق.

قصر مصمودة لدى الجغرافيين المسلمين

جاء أول وصف جغرافي عربي مفصل لقصر المجاز لدى الجغرافي الأندلسي أبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري (ت: 487ﻫ)، وذلك في سياق وصفه للطريق الممتد بين مدينتي سبتة وطنجة على الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق وهو قوله: "وطريق الساحل من مدينة سبتة إلى طنجة ... وفي القصر الأوّل سكنى بني طريف وحوله غراسات كثيرة. وتدخل المراكب في هذا الوادي إلى حائط القصر، وبين مخرج هذا الوادي وموقعه في البحر نحو سكّتين، ومن سبتة إلى هذا القصر مرحلة، ومن القصر إلى طنجة مرحلة". (المسالك والممالك: 2/782-783). وفي زمن قريب من هذا العصر، ورد ذكر القصر الصغير باسم قصر مصمودة لدى الجغرافي الزهري (ق. 6ﻫ/12م)، في سياق حديثه عن أضيق مسافة فاصلة بين ضفتي مضيق جبل طارق بقوله: "عرض هذا البحر يختلف. فأما أول خروجه من البحر الأعظم ما بين جزيرة طريف وقصر مصمودة، فعرضه هناك خمسة فراسخ، وهو أضيق مكان في هذا البحر، وهو الزقاق"، (كتاب الجعرافية: 128).
 


 مضيق جبل طارق في خريطة ابن حوقل النصيبي (القرن الرابع الهجري)
 


وخلال عصري المرابطين والموحدين، أكّد الجغرافي السبتي أبو عبد الله الشريف الإدريسي (ت: 560ﻫ) على أهمية هذا الموقع في الطريق بين المدينتين خلال القرن السادس الهجري، بحكم الدور الاقتصادي والعسكري الذي أداه قصر المجاز في هذه الحقبة التاريخية بقوله: "ومن مدينة سبتة إلى قصر مصمودة في الغرب اثنا عشر ميلا، وهو حصن كبير على ضفة البحر تنشأ به المراكب والحراريق التي يسافر فيها إلى بلاد الأندلس، وهي على رأس المجاز الأقرب إلى ديار الأندلس، ومن قصر مصمودة إلى مدينة طنجة غرباً عشرون ميلا". (نزهة المشتاق: مج. 529/2.)

أمّا خلال حكم بني مرين بالمغرب، فقد استمر تعمير هذا القصر، كما تعززت مكانته كميناء يربط بين عدوتي المغرب والأندلس؛ وهو ما أكّده الجغرافي أبو الحسن علي ابن سعيد المغربي (ت: 685ﻫ) في سياق وصفه للمراسي الواقعة على ضفتي المضيق قائلاً: "تقابل قصر المجاز من أرض الأندلس، طريف وأمامها في البحر جزيرة صغيرة". (كتاب بسط الأرض في الطول والعرض: 73).

أمّا الجغرافي المغربي ليون الإفريقي (بعد 1550م) فقد وصف قصر المجاز بالعبارات الآتية: "تقع هذه المدينة في سهل جميل يرى منه ساحل الأندلس الذي يواجه هذا الجزء من إفريقيا. وكان القصر الصغير متحضراً جداً، يكاد يكون جميع سكانه بحارة يُؤَمِّنُون العبورَ بين بلاد البربر وأوروبا، وفيهم كذلك نسّاجون وتجّار أغنياء ومحاربون أقوياء". (وصف إفريقيا: 1/316.)

القصر الصغير في الحوليات البرتغالية والإسبانية

منذ عام 1437م، استهدف البرتغاليون قصر المجاز الذي كان يعرف لديهم بالقصر الصغير تمييزاً له عن مدينة مغربية تقع بمنطقة الهبط جنوب العرائش وتعرف بالقصر الكبير، وكانت هذه الحملة العسكرية على ضخامتها وقوتها الهائلة بمثابة كارثة على العرش البرتغالي، حيث آلت إلى إخفاق شديد، وخيبة أمل كبيرة وانحدار حاد في معنويات جيشه القتالية، وجاءت هذه النكبة كنتيجة منطقية لتوافد أعداد هائلة من القوات النظامية وجماعات المقاتلين المتطوعين من كافة أرجاء المغرب الأقصى من أجل الدفاع عن الحصن، كما ساندتهم فرقة من الرماة الأندلسيين الذين اشتُهِروا بمهاراتهم في الرمي من حيث دقة التصويب وبعد مدى طلقاتهم، وقد استبسل الأبطال المغاربة في معركة فك الحصار عن الحصن، وقطعوا الطريق على عدد من الفرسان والرجّالة البرتغاليين المنسحبين من أرض المعترك نحو الساحل لركوب السفن التي جاؤوا على متنها.


خريطة مضيق جبل طارق وضعها الجغرافي التركي بيري رئيس (ت: 1554 أو 1555م)


وفي عام 1458م عاود ملك البرتغال هجومه على قصر مصمودة، وتمكن بعد حصار قصير نسبياً من الاستيلاء على المدينة، والتي وضع بها حامية لحراستها من هجومات مضادة من الجانب المغربي، كما عمل البرتغاليون لاحقاً على تحصين أسوارها وأبراجها، وتشييد قورجة ((Couraça، وهي استحكامات عسكرية محصّنة تصل بين القصر الصغير وساحل مضيق جبل طارق لضمان ولوج آمن للسفن والجنود والمسافرين إليه عبر البحر.

موقع ظهر أسقفان: هل هو قصر المجاز الأول؟

في مطلع الألفية الثالثة تم العثور على موقع أثري أقدم من قصر المجاز نفسه، ويبعد هذا الموقع المكتشف حديثاً بمدينة القصر الصغير والمسمى "ظهر أسقفان" بحوالي 400م عن الموقع الأثري المعروف بـ"قصر المجاز"، والذي أعلنته السلطات الوصية تراثاً وطنياً محمياً. ومن الواضح أنّ التسمية التي يحملها هذا الموقع الجديد هي تسمية محلية، هذا ويمكننا القول إنّ هذا الكشف الأثري الجديد اكتسى أهمية بالغة نظراً إلى ما تم العثور عليه من بقايا أثرية متنوعة وغنية (خزفيات، فسيفساء، منحوتات حجرية، نقود معدنية...)، وكذلك لما عرفه هذا الموقع من تعاقب حضارات متنوعة (فينيقية، بونيقية، موريطانية، رومانية وإسلامية)، وفي غياب الدراسات التاريخية التي تناولت بالدرس أو الإشارة لهذا الموقع، فإنّ عنصر الاحتمالية كان الغالب على ما توصل إليه الباحثون من نتائج، ومن خلال معرفتنا المباشرة لموقع ظهر أسقفان لاحظنا التنوع الثقافي والحضاري الذي عرفه، والذي يشير إلى تواجد روماني ممثل في أنفورات تعود إلى القرن الأول الميلادي، بالإضافة إلى تشكيلات معمارية ذات طابع روماني (بقايا حجرات مزخرفة بالفسيفساء).


تاريخ الموقع والحضارات المتعاقبة عليه

الحضارات المتوسطية القديمة

عرف موقع ظهر أسقفان استقرار الفينيقيين خلال القرن السادس قبل الميلاد، وتدل عليه جملة قرائن أبرزها وجود أسوار وبعض الأرضيات تؤرخ لهذه الفترة، كما شهد الموقع كذلك في زمن لاحق استقرار الموريين خلال القرن الثالث والرابع قبل الميلاد، وهناك ما يفيد وجود شبه اتصال مع قرطاج، ومن الأدلة الأثرية المتبقية بالموقع (قبيل تدميرها خلال أشغال مدّ الطريق السيار نحو ميناء طنجة المتوسط) عثرنا على أرضية تؤرخ لهذه الفترة محاطة بسور قصير مع وجود قطع خزفية تنتمي للعصرين الفينيقي والموري. وفي الحقبة الرومانية، تم إنشاء حمّامات ومنازل رومانية فخمة وخزّان للمياه وأفران للجير والخزف (العادي). وخلال الفترة المتأخرة منها تم بناء سور مستطيل بموازاة مجرى النهر الواقع غرب الموقع وثلاثة أبواب: شمالي وجنوبي وآخر شرقي. ومن ضمن اللقى الأثرية، عثر فريق الآثار على جرة كبيرة أو ما يسمى محلياً باسم "الخابية"؛ وهي ذات طابع روماني، وربما كانت قد استعملت لحفظ الزيت أو الخمر، كما تم العثور على بقايا للأواني الزجاجية.

العصر الإسلامي

شهد القصر الصغير منذ فجر التاريخ الإسلامي بالمغرب الأقصى بوادر استقرار بشري كثيف تدل عليه مجموعة من الدلائل الأثرية والوثائق النصية، والتي تؤكد في مجملها على وجود تشكيل عمراني يشبه إلى حد ما أساسات مسجد ذي قاعدة مبلّطة ومحراب في القسم الجنوبي الشرقي للموقع، وكان ما يزال بادياً للعيان، وفي اعتقادنا أنه يعود إلى القرن الثامن الميلادي زمن الفتوحات الإسلامية الكبرى، كما تم العثور بعين المكان على نقود من البرونز يعود تاريخها إلى الفترة الأموية بالأندلس (عصر الخلافة)، وحسب رأي العديد من الأثريين، فإنّ موقع ظهر أسقفان قد يكون هو قصر المجاز الحقيقي، حيث إنه عند بناء القصر الصغير (قصر المجاز)، تم اقتلاع أحجار من الموقع الأصلي للمدينة للاستعانة بها في إتمام البناء.
 

خاتمة

خلاصة القول؛ إن التقارب الكبير بين موضعي قصر المجاز أو قصر مصمودة، وبين أطلال موقع ظهر أسقفان يرجح لدينا الفرضية التي طرحنا في مقدمة هذه الدراسة، وهي أنّ الموقعين شهدا نشاطاً تعميرياً بشكل تعاقبي، استهلته النواة الأولى للقصر على الضفة اليمنى للنهر على بعد نصف ميل عن الساحل، ثم احتاج أهله إلى الانتقال صوب الساحل وتأسيس نواة حضرية جديدة بُعَيْد الفتح الإسلامي للمغرب الأقصى، وما واكبه من تعزيز لمكانة الحصن في صناعة السفن الجهادية ودوره في تسهيل عمليات عبور الفاتحين إلى الأندلس.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها