كيف تتبدل الحضـارة؟!

قراءة جورج بيتر ميردوك

د. باكروم سعيد

إن إحدى الميزات الأساسية للحضارة أنها تتبدل بمرور الزمن، وتختلف من مكان إلى آخر بغض النظر عن طبيعتها المحافظة جوهرياً. ولذلك فهي تختلف بشكل بارز عن السلوك الاجتماعي لحيوانات أخرى غير الإنسان. فمستعمرات نوع واحد من النمل مثلاً لا تختلف واحدتها عن الأخرى في سلوكها إلا اختلافاً طفيفاً، وبمقدار ما نستطيع أن نحكم عليها من خلال عيّناتها المطمورة، فهي لا تختلف عن أسلافها التي سبقتها بخمسين ألف سنة، ولكن الإنسان، على النقيض من هذا، ارتقى بأقل من مليون من أدنى درجات الانحطاط والتأخر إلى معارج الحضارة مخلفاً على الأقل ثلاثة آلاف حضارة متميزة. بهذه المقدمة افتتح جورج بيتر G. P. Murdock تناول موضوع: كيف تتبدل الحضارة؟
 


 

لقد أكد جورج بيتر في البداية على أن الحضارة هي نتاج الاكتساب أكثر مما هي ثمرة الوراثة. وما حضارات البشرية إلا نظم العادات الجماعية. كما أن الفروق الظاهرة بينها إن هي إلا النتاج المتراكم للاكتساب الجماعي في ظل ظروف جغرافية واجتماعية متباينة. إن العِرق وعوامل بيولوجية أخرى تؤثر في الحضارة بمقدار تأثيرها بالظروف التي يحدث في ظلها الاكتساب. كما يكون وجود شعب مختلف في تركيبه الجسدي عن غيره بشكل كبير عاملاً في نشوء التحيز العرقي.

فالحضارة إذن؛ تتألف من عادات يشترك فيها أفراد مجتمع ما سواء كان قبيلة بداية أو أمة متحضرة. وقد يكون هذا الاشتراك عامة في كل المجتمع، ولكنه قد يكون أحياناً وقفاً على فئات خاصة من الناس في المجتمع. وهكذا فأفراد من الجنس نفسه، أو العمر نفسه، أو أفراد من طبقة اجتماعية واحدة، أو من جمعية، أو مجموعة مهنية، أو أفراد يرتبطون مع آخرين بعلاقات متماثلة، يشبه عادة واحدهم الآخر في عاداته الاجتماعية، مع أنه يختلف سلوكياً عن أفراد ينتمون لفئات أخرى.

وهنا يشير جورج بيتر إلى أن العادات المشتركة بشكل أو بآخر ضمن مجتمع ما، والتي تشكل حضارته تقع في قسمين رئيسيين، أو العادة العملية والعادات الفكرية، والتي يمكن دعوتها بالتناوب "العادات" و"الأفكار الاجتماعية". وتشمل العادات على أنماط سلوكية جاهزة كآداب السلوك والطقوس، وأساليب التعامل بالأمور المادية. بينما لا تُدرك الأفكار الجماعية مباشرة، بل يجب استنباطها من خلال التعبير عنها في اللغة وغيرها من السلوك الصريح، وتشتمل على أمور كالمعرفة العملية والمعتقدات الدينية والقيم الاجتماعية. وتضم تلك الأفكار –في نظر جورج بيتر- علاوة على ذلك مجموعة من القوانين، أو النظم التي تحدد لكل عادة الأفراد الذين يمكن لهم اتباعها، والأفراد الذين يحظر عليهم اتباعها. والظروف التي تكون فيها تلك العادة مناسبة أو لا تكون. كما أنها تعيّن حدود هذا السلوك نفسه وبدائله الممكنة أيضاً. وفضلاً عن ذلك، فهي تتضمن أيضاً جملة من التوقعات الاجتماعية؛ توقعات مثل كيف ستكون ردود فعل الآخرين تجاه سلوك معيّن، وبخاصة من الروادع كالمثوبات الاجتماعية والعقوبات التي يمكن توقعها على الانسجام أو الانحراف.

وهكذا، ومن وجهة نظر التغيير الحضاري؛ فإن السلوك العملي ذو أهمية أساسية، إذ كلما انحرف السلوك الاجتماعي بإصرار في أي اتجاه عن العادات الحضارية الراسخة؛ فإنه يؤدي إلى تعديلات أولاً في التوقعات الاجتماعية، ومن ثم في العادات والمعتقدات والقوانين. وبهذه الطريقة تتبدل العادات الجماعية تدريجياً، وتتطور الحضارة كي تتلاءم مع المعايير الجديدة للسلوك العملي بشكل أفضل.

وبشكل دقيق، يرى جورج بيتر أن التغيير الحضاري يبدأ بعملية الإبداع، وهي تكوين عادة جديدة من قبل فرد واحد يقبلها بالنتيجة، أو يكتسبها أعضاء آخرون في المجتمع. ويبدأ الإبداع عبر الآلية النفسية العادية للاكتساب، ويختلف عن العادات الفردية البحتة في كون أن الآخرين يشاركون به اجتماعياً.

ومن الأمور التي لا يمكن إنكارها البتة ونحن نتحدث عن الحضارة، هي مسألة الاقتباس الحضاري، يقول جورج بيتر: "إن من المشكوك فيه أن تكون هناك حضارة واحدة معروفة للتاريخ أو لعلم الإنسان، لم تكن مدينة بتسعين بالمائة على الأقل من العناصر التي تؤلفها للاقتباس الحضاري. وإن السبب قريب ويمكن كشفه بسهولة، فإن أية عادة لم تترسخ في حضارة ما إلا بعد أن جرّبها عدد كبير من الناس وتبيّن أنها مرضية، وعندما يجد مجتمع نفسه في مأزق؛ فإن الفرص لاقتباس عنصر جاهز في حضارة شعب آخر أكبر من فرص أي ابتكار عشوائي لنوع لم يجرّب بعد. ولذلك؛ فإن الاقتباس الحضاري يوفّر زمناً كثيراً، وتميل معظم الشعوب إلى التفتيش في الموارد الحضارية لجيرانا لاقتباس إجراءات تكيفية، قبل أن تلجأ إلى الابتكار أو التجريب".

ويذهب جورج بيتر إلى أن فُرص الاقتباس تنعدم في حالة مجتمع معزول تماماً، ولذلك فإن الاقتباس يعتمد على الاحتكاك، كما أن الحد الذي يصل إليه يتناسب مع شدة واستمرار العلاقة الاجتماعية بين حَمَلَة الحضارتين. ولا يعني الاحتكاك بالضرورة الاتصال المباشر؛ لأن هناك العديد من الأمثلة عن الاقتباس بواسطة اللغة المكتوبة، أو عن طريق تقليد المواد الواردة من خلال التجارة.

إن التأثير الخالص لمختلف طرائق التغيير الحضاري هو تكييف العادات الجماعية في المجتمعات البشرية مع ظروف الحياة المتبدلة باستمرار على مرور الزمن. وغالباً ما يكون التغيير مؤلماً، وتخور عزائم الناس بسبب تباطئه، وقد يصلون إلى مرحلة اليأس من إحراز تقدم كبير. فلا التاريخ ولا علم الأنثروبولوجيا يقدمان أية أسس للتشاؤم. زمنهما بدا التغيير متوفقاً أو قاسياً للمشاركين به، إلا أن التغيير الحضاري دائماً تكيفي وتقدمي أيضاً، وهو أمر محتوم، ولسوف يقاضي التغيير كثيراً طيلة استمرار الحياة البشرية على الأرض. ولا شيء على الإطلاق يمكنه أن يهدم الحضارة.

لا شك إذن في أن الحضارة باقية ما بقي الفاعل فيها وهو الإنسان، فبناء الحضارة وتطورها مبني على جهود الإنسان، مطلق الإنسان بغض النظر عن لونه ودينه ولغته، إذ إن عملية البناء الحضاري تفرض التعاون الكوني، والاستفادة من التجارِب وتبادلها، وتطوريها للدفع قدماً بالتطور، وفي المقابل؛ فإن العزلة تشكل عقبة في وجه التغيير الحضاري.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها