مأثَمَة فِكرة

غنوه عباس


ضجيجٌ وطَرقٌ لا يَملُّ نخرَ رأسي، واللّيلُ يطولُ بينَ الساعات، كانَ بالإمكانِ أن يكونَ ليلاً مثالياً للسَّهر، أو لاسترجاع زُهور الذِّكريات، لكنَّهُ كانَ أسودَ قاسياً، فمنذُ أن كبَّلتني تِلك الحقيقة المُوجعة، ما عادت الليالي هادئة، دائماً ما أسترجعُ مَشهدَ أُختي نور (أُم آدم)، وهي تستريحُ تحتَ شجرة الليمون، مُحدّقةً بالسماء المُلبّدة بالغيوم، وعيناها مُثقلتان بالدموع، تُخبِرُني أنَّ مَرضَ آدم يَتفاقَم، إذ أصابَتْهُ أذيَّة عصبيّة جديدة، ولا أملَ بالشفاءِ... أذكُرُ حينها أنَّني انتفَضتُ مَصعوقةً، وأمامي يَمرُّ شريط طفولة آدم، وتَفتُّح الحياة على وَجنَتيه، مِن رضيعٍ إلى وليدٍ يافع. وفي آخرِ مرَّةٍ رأيتهُ، انتفَضَت جوارحي لعناقِه، لكنَّهُ مَنَعَني وهَربَ مِن أمامي.

في أيام بقائي بجانبِ أُختي، شَهِدتُ إحدى نوباتِ الصُّراخ التي تَلبسُ آدمَ أثناءَ الَّليل، حينها أخافَتهُ الستارة المُتحركة مع نَسمات الهواء، فقاموا بانتشالها تماماً، لكن لم يَستطيعوا التَّحكُّمَ بأصواتِ السيَّارات، أو بحركةِ الأشجار، وغيرها مِن الأُمور، التي كانَ آدم يُفجِّر حُنجرتَه بعدَ سَماعها.

وهكذا صِرتُ أرصدُ بشَجَنٍ الكدمات الزرقاء وهي تزدادُ في وجهِ أُختي نور، ومَعَها شرخٌ عميقٌ من الحُزن، إذ أصبَحَت كعودِ الثقابِ في وَزنها وشُحوبها، تَمتصُّ حَميمَ غضبِ ابنها المريض، أمّا زوجها فقد وجدَ طريقةً للهروبِ بانشغالهِ في عَمَلِه، طوَّعَ حُزنهُ ومأساته للتميُّز في وظيفَتِه. كنتُ شاهدةً على الأيامِ المَحقونة بالألم اللامُجدي، أتساءل في أعماقي: هل من العَدل أن يضيعَ عُمْرُ أختي بهذهِ الطريقة؟

وذات يوم اقتربتُ مِن آدم، أعجبني مَظهرهُ اللطيف بين الأوراقِ والألوان، فجأةً، نظرَ إلي بِحدَّة وقَطَّبَ حاجبيه، وما إن رَمَشتُ عيني، حتَّى اخَترقَ قلمٌ خشبيٌ مبرودٌ لُبَّ حدقَتي اليُسرى، فتجرَّعتُ ألماً لم يَسبِق أن زلزلَ كياني هكذا، وكردِّ فِعل أخرجتُهُ بِسُرعةٍ من عَيني، ثم سَقطْتُ على الأرض، والدّماءُ لوَّنَتْ يدي ومَلابسي.

وهكذا صِرتُ شخصاً آخر بعينٍ واحدة، يتآكَلني الصمتُ ضِمن جدران المُستشفى، وتَلتهبُ داخلي عشرات الأصوات، أشعرُ بها تتململُ بعباراتٍ عارية الأصداء، لا أرغبُ بها، تُذكي صديداً في جروحي، أراقبُ أُختي وهي تتكئ على حافةِ سريري، تطلبُ المَغفرة على فِعْلَةِ ابنها، وتتنهَّدُ تنهيداتٍ عميقة، كأنَّها تطلبُ من اللهِ الذهابَ للدَّار الآخرة، أمَّا زوجها فيُحدّق في وجهي وتَنسَكِب دُموعه. أثناءَ هذهِ اللحظات، تسلَّلتْ فِكرة شيطانية إلى جوفي، تَملَّكتني ولم تُغادرني قَط... أن يموت آدم...نعم أن يموتْ، لا بُدَّ أن أكونَ وسيلةَ القدرِ، وأُنهي مَهزلَةَ الأَلمِ التي طَالت، أهمسُ لنفسي: نعم سأُلطّخ يديَّ بالدماء، رغمَ خوفي، وأعرِفُ سَلفاً أنني سأعيش حُزناً جديداً إذا فَعلتُها. إلى أن اخترقَ صوتُ أختي حاجزَ أفكاري، وهي تقول لي:
- سنعود للمنزل، وقد اقترحَ الطبيب «حسام» صديقُ العائلة أن يُوصلك بسيارته، فهي أفضل من سيارتنا، وفي طريقنا سنُحضِرُ كُلَّ ما تحتاجينه من أدوية... لا تقلقي.

أثناءَ طريقِ العودة، حاولَ الطبيب «حسام» بكلِّ لُطفٍ أن يُخفِّف عنّي سُوءَ حالتي، يُقلِّب الأحاديثَ الفُكاهية، ويسألني عَن عملي كمُدرِّسة، في البداية اعتقدتُ أنَّهُ حديثٌ عادي، لكنَّه فاجأني حينَ قال:
- بكُلِّ صدقٍ أقولُها، إنَّكِ دخلتِ قلبي مِنذُ زيارتي الأخيرة لزوجِ أُختك، وقد لَفَتَني حُبُّكِ الشديد لآدم رغم عدائيَّته، وكيفَ أنَّ ابتسامتكِ تشحنُ الجوَّ بإيجابية.

 لم أدرِ ما يجبُ قوله في لحظاتٍ كهذه، فتابعَ كلامه:
- أنا بحاجةٍ لخليلِ روحٍ يكونُ معي، كما الحُبُّ الذي قدَّمتيهِ لآدم.

سَرقتُ نَظْرةً خاطفةً لملامح وجههِ، ولأَّولِ مرَّة شعرتُ بإحساسٍ جميلٍ لم يَطرق بابَ قلبي سابقاً، فأخبرته أنَّني سأفكّرُ فيما قاله، ونتكلَّمُ بهِ لاحقاَ، ثمَّ لاَحت على مُحيّاه ابتسامة عريضة.

حينَ وَصلْتُ بيتَ أختي، كانت خُطُواتي تسترجعُ الدقائق الأخيرة بِغبطة، إلى أن تغيَّرَ كُلُّ شيء، فما إن اقتربتُ مِن عتبةِ بيتها، حتى سَمعتُ صوتَ بكائها، تسارعت خُطواتي، والأبواب مفتوحه، سألتُهم: ما بِكم؟!

- أيقظْنَا آدمَ كثيراً، لكنَّه بَقِيَ في الفِراش مُغمِضاً عيناهُ دونَ حَراك... يا قِطعةً مِن روحي... آهٍ يا آدم.

نَظَرْتُ إلى الغِطاء الأبيضِ على كامل جَسده، قَبَّلتُ جبهتَهُ الباردة، وقد غَصَّت رُوحي بذرفِ الدُّموع، كانت شِفاهي ترتَعشُ، وشَعرتُ أنَّني كورقةٍ في مهبِّ الريح. لقد غَرَقتُ في سعيرِ ذنبي، وكأنّني قَتَلْتُه، ولا أعلمُ كيفَ سَمحتُ لتلكَ الفِكرة اللعينة أن تجتاحَ خيالي، وكم أخافُ ألَّا أعودَ لحالِ الطُّهر أبداً...

منذ قليل، دَخلتُ قلبَ أحَدِهِم حينَ رآني معكَ يا آدم، وقد قتلتُكَ سابقاً في نَفسي... أرجوكَ سامحني، سأبقى أحمِلُ وِزْرَ الشيطانِ في داخلي مدى الحياة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها