جماليّة الحِرَف العربيّة في المنتج الفني المعاصر

إيمان بنت عيسى طهاري

يحيلنا واقع الممارسات الفنيّة الجماليّة في مفهومها الموسّع، إلى العلاقة التّلازميّة التي تجمع بين الجانب الذّهني المؤسّس للفكرة، وبين الجانب التّقني التّطبيقي المُجسّد لها، بحيث إنّ نشأة الفعل عامّة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهذه العلاقة المُفعِّلة لقيمة الخلق والإبداع، والمبنيّة أساساً على هذه الازدواجيّة الفكريّة والفعليّة. ولعلّ الحِرف الفنيّة في توجّهاتها المباشرة، لم تحد كثيراً عن هذه الخاصيّات، وإن اختلفت أهدافها عن الفنون التشكيليّة، خاصّة في ما يتعلّق بالجانب الوظيفيّ والنفعي اللّذين كانا شعارين لازمين في تمثّلاتها وإنتاجاتها. ورغم هذه السّمات التي ميّزتها عن سائر الفنون التشكيليّة، فقد توافقت الحرف معها في مستوى انطلاقها من الفكرة المجسّدة، وإن اختلفت غاياتها.
 

لطالما وُضعت الحرف الفنيّة في دائرة الفنون التّطبيقيّة المرتبطة باليومي، وبكل ما يتعلّق بالوظيفي والمحليّ والثّقافي، الذّي لا يتخطّى حدود الجانب الاستهلاكي والصّناعي النفعيّ. لكن، يستوقفنا واقع فنون الحضارة العربيّة بخصوصيّاته التّعبيريّة وجماليّته، وضخامة ثقافته الفنيّة، الذّي كانت فيه هذه الحِرف الفنيّة مرجعاً تراثياً أوّليّاً، ووسيطاً إنشائيّاً مركزيّاً، أثّر عميقاً في وصولها إلى هذه المكانة. في خضمّ ذلك، رسّخت الحِرف معالم فنيّة لثقافات مُتفرّدة في مفاهيمها الجماليّة ورؤاها التعبيريّة، ليثبت صيتها الذّي لمع مع الفن الإسلامي، وامتدّ إلى ثقافات أخرى موالية لها، في تجارب تشكيليّة حديثة ومعاصرة كانت فيها الممارسات الحرفيّة مرجعاً أوّليّاً.

وهنا نتخّذ نموذجاً من نماذج الممارسات الحرفيّة التي كانت فيها الزّخرفة عنصراً فاعلاً في ميلاد حضارة فنيّة إسلاميّة عريقة، ومولّداً أساسيّاً لفكر فنيّ حديث غرباً وشرقاً، أكّدت استمراريّة حضوره في الزّمان والمكان على قيمة الحِرف الفنيّة. ومن ثمّ، جرت العودة إلى فكرها وتقنياتها وطرقها في التّشكيل والتصوّر، بروز أساليب جديدة قد أضفت عليها روح الحداثة والمعاصرة وذاتيّة الممارسين لها وتوجّهاتهم الفكريّة وتصوّراتهم البنائيّة، رونقاً جديداً مع كلّ استحضار لتعبيراتها في تجاربهم؛ لتكون الحرف الفنيّة ضمن هذا التوجّه، شاهداً على ميلاد فن ثقافة وحضارة متأصّلة، وباعثة لخصوصيّة عدّة توجّهات فنيّة ضمن تيّارات اتّخذتها كمرجعيّات في الفعل الفنّي التّشكيلي.
 

1 - الحِرف الفنيّة

تُعرّف الحِرف في اللّغة وفي سياقاتها المتداولة بكونها الصّناعة المرتطبة بالكسب. وتعني الحرف الفنيّة في هذا السّياق، كلّ ما يتعلّق بالصّناعات اليدويّة والتّقليديّة التي تعتمد بالأساس على الأدوات والمواد البسيطة في عمليّة الإنتاج، فتغوص في بؤرة الثّقافي والاجتماعي أو الدّيني، وكلّ ما يتّصل بالحياة اليوميّة للفرد، والتي يكون فيها الخلق والابتكار التّقني والكسب المادّي هاجساً أساسيّاً.

وفي ما يخصّ الحرف الفنيّة الإسلامية، فتُعرّف بكونها جملة المنتجات اليدويّة الناتجة عن مهارات الحرفي المسلم الذاتيّة والمرتبطة بفكره وشعائره وعبادته ومعتقداته، لتشكّل في بؤرة الفعل إبداعاً تختلف نظمه ومعاييره عن الإبداع السّائد والمعروف في وعينا الحالي، الذّي عقب التطوّرات والتغيّرات. فإذا ما تحدّد هذا الإبداع بالابتكار والأصالة والتّجديد في الممارسة الفنيّة، كصفات أوّليّة في تمثّلات المعاصرة، فقد خضعت مقاييسه الإسلاميّة إلى خصوصيّات مُغايرة تعمل جميعها ضمن توجّه فكري تكون فيه العبادة والعقيدة دعامة أساسيّة. ومن ثمّ، يتّحد الفكر والممارسة في الصّناعات الحِرفيّة اليدويّة لتستجيب لمحيط دينيّ إسلامي خاصّ في عقائده وشعائريّته وكيفيّات ممارستها.
 

2 - الحِرف الفنيّة تؤسّس جماليّة الحضارة الإسلاميّة

◀ صلة الحِرف بالفن الإسلامي

استمدّ الفن الإسلامي مفاهيمه ووسائله الفنيّة من تراكمات عديد الحضارات والثّقافات العريقة الضّاربة في القدم، من الأندلس شرقاً حتى الصين غرباً، والتي لم يكن لها الشّأن العظيم إلاّ حينما اجتمعت في مجملها تحت عباءة تجربته. عالم خصب فسح المجال للتمازج الحضاري والتجريب والتّبادل الثقافي، عبر تأثّره بالفنون البيزنطية والسّاسانية على وجه الخصوص ونهله منها. ورغم هذه المرجعيّات المتعدّدة، تبلور فكر جمالي وفن محليّ شرع في تشكيل هويّة وخصوصيّة ذاتيّة متفرّدة، بدأت فيه فنونه الحِرفيّة بالتحرّر رويداً رويداً من سلطة حضور فنون الحضارات الأخرى وسطوتها عليه من ناحية، ومن "الحِرفيّة" من ناحية ثانية، التي انحصرت فيها تمثّلاتها التّعبيريّة كمُنتجات تقف عند الصّنائع والاستخدامات الحياتيّة اليومية، إلى مُنتجات جمالية محكمة الدّراسة ينمّها الحذق والإتقان الفكري والتّطبيقي، لها صيت وإشعاع محليّ وعالمي، فكان "للفنّ الإسلاميّ شخصيّة تميّزه عن غيره من الفنون الأخرى، كالفنّ الغربيّ، والفن الهنديّ، والفن الصّيني، ولكلّ من هذه الفنون فلسفة كاملة"1.

اتّخذت الفنون الإسلاميّة في بداية أفعالها صبغة حِرفيّة صرفة، وهو ما يمكن أن نستشفّه في ما يتعلّق بالمصطلح الذّي كان يطلق على الفنون آنذاك في حدّ ذاته. فقد ميّز مصطلح "صناعة" الفنون عامّة مع المسلمين القدامى، ولم يتبلور مصطلح "فن" إلاّ حديثاً. فتداولت معهم هذه التّسمية في جميع المجالات المتعلّقة بالفنون الجميلة، وفي ذلك "صناعة الشعر" و"صناعة الأدب" وغيرها. الأمر الذّي عكس سمة أساسيّة للفنون الإسلاميّة، تكون فيها الحِرف والصّنائع ركيزة أوّليّة، ومرآة عاكسة لنشاط المسلم. ولعلّ المتأمّل في صيغته الجماليّة، يُدرك اتّصاله الوثيق بالصّناعات، فيعكس تلك الجدليّة العميقة القائمة بين المجالين، والتي تكون فيها الصّناعة نقطة انطلاق للفن ومساهماً أوّليّاً في إبرازه، بل إنّ كلّ صناعة تحتوي لمسة فنيّة.

هكذا تشكّل الفن الإسلامي في واقع ربط قيمة الأشياء بجانبها الوظيفي والنّفعي، فلو اقتصر الاهتمام بالجانب الجمالي والمظهر الخارجي للأشياء دون مراعاة الجانب الوظيفي والاستهلاكي، لما كان للإنتاج أيّة قيمة ولا جودة. تلك هي عقليّة الفنّان المسلم آنذاك، التي كانت فيها الصّناعات والحرف هدفاً رئيساً من الممارسة الفعليّة. بيد أنّ ذلك الجانب لم يخل من بحث محكم النّظام ومتناسق الخصائص والصّفات، يوحّد هذين السياقين في كلّ جماليّ ثابت ذي رؤية فنيّة وفلسفة إبداعيّة خارقة في تمثّلاتها وتشكّلاتها. إذ يبهرنا واقع الفن الإسلامي الذّي جمع بين الحِرفة باعتباراتها المنفعيّة، وبين الفن في سياقات جعلته يتفرّد عن غيره من الفنون القديمة والحديثة، في الشّكل والمعنى، وكما أورد "جلال الدّين الرّومي" في هذا الشّأن: "إنّ الصورة الظّاهرة رسمت لكي تدرك الصورة الباطنة، والصّورة الأخيرة تشكّلت من أجل إدراك صورة باطنيّة أخرى على قدر نفاذ بصيرتك.."2. ومن ثمّ، وفي سياق ما ورد في هذا القول، يجمع الفن الإسلامي انطلاقاً من الحرفة بين المنفعة، وبين الفن الجمالي، ويستقلّ بغاياته الفنيّة إبداعيّاً وفلسفيّاً، بحيث تكون غايات باطنيّة رمزيّة تتبلور مجالاتها التّعبيريّة في استقلاليّة مدهشة.

يتبلور الفن الإسلامي في مفهومه الشّامل في سياق جمالي لا يفصل فيه المسلم بين مكتسباته الحِرفيّة والدّينيّة والدّنيويّة والفلسفيّة، التي تتجمّع تحت سقف فنّي مبتكر تكون فيها الخطوط والأشكال والأحجام والكتل والألوان والمواد المختلفة، وسيطاً يعبّر من خلاله عن آفاقه النفعيّة والفنيّة في آن واحد. فتأتي الممارسات في سياق نفعيّ تغوص في بوتقة الحرفيّ، الذّي يمجّد الأهداف والغايات بدرجة أولى من وراء جملة هذه الممارسات، التي تتخطّى في حدّ ذاتها جملة هذه العتبات، ببحثها عن البعد الجمالي إلى جانب الاستخدام اليومي في ذلك السجّاد المنسوج، أو ذلك الفخّار والسّلاح والصّحن المزّين، أو ذلك الكتاب المنقوش أو ذلك الخطّ المرسوم، أو ذلك المبنى والمسجد وغيرها من الأمثلة، لتتخّذ الحِرف جودة عالية تجعل لها ماهيّة مختلفة ومبتكرة ذات خصوصيّة متفرّدة، ينصهر فيها الحرفي والفنيّ في منتج طريف وعجائبي.

عجائبيّة قد استقاها من ذلك التّعامل النّادر في تشكيل المنتجات الفنيّة، التي اطّلع فيها المسلم على منتجات القدامى، وأخذ منها "موتيفات قديمة جدّاً وطوّرها بسرعة من العبقريّة الرّياضيّة"3، وعبر فلسفته التي ارتبطت بعقيدته ذات البعد الرّوحانيّ، التي درّبت الذّات على الانتقال من المحسوس إلى المجرّد، ومن المتعدّد إلى الوحدة، ومن المتناهي إلى اللاّمتناهي ومن الجميل إلى الجليل، فكان "للفنّ العربي الإسلامي جذوراً مُغايرةً: إنّه ينطلق من مبدأ تجسيد الفكر، متجنّباً محاكاة الطّبيعة وتصوير الإنسان، ليعبّر عن الحياة ذاتها، بالأولويّة على وصف مظاهرها الخارجيّة، وخير ما يمثّل هذا المفهوم في العصر الكلاسيكي فنون الخطّ والأرابيسك والعمارة"4.

◀ عبقريّة الممارسات الزّخرفيّة في الحِرف العربية الإسلامية

تجلّت "الزّخرفة" أو ما يعرف بـ"الأرابيسك" أو "الرقش"5، كحِرفة فنيّة تطبيقيّة من التّراث العربيّ الإسلامي، اتّخذت من الأشكال والألوان سبيلاً للتّعبير عن رؤى المسلم الدّنيويّة والدّينيّة، "وحقيقة أنّ الوحدة الإلهيّة وراء كلّ ما يقدّم؛ لأنّ من طبيعتها ألاّ تترك شيئاً خارجها. وعلاوة على ذلك؛ فإنّ هناك تناسقاً منعكساً على العالم، وهو ليس إلاّ "الوحدة في الكثرة" ونفس الشّيء في "الكثرة في الوحدة" أنّ التّشابكات تعبّر عن مظهر وآخر. كما أنّها تستدعي الوحدة للأشياء التّابعة لها، أي أنّها عامّة تنشأ من عنصر واحد"6. ويمتدّ صدى هذه الحقائق في التّصميمات الشّكليّة الهندسيّة الدّقيقة والمنظّمة والمحكمة البناء والتّوزيع، شكلاً ولوناً. أبعاد روحيّة بُلورت في سياقات جماليّة ماديّة ذات خصوصيّات مُميّزة، في إيقاعيّة طريفة انطلقت من الشكّل البسيط لتُعانق تكوينات مركّبة، ساهمت في بلورتها أفعال عديدة كالمزاوجة أو التّقابل، أو التّعانق أو الإزاحة، أو الدّوران أو الانعكاس أو التّناظر، وغيرها من العمليّات التّطبيقيّة الممارسة على الشّكل. تنتج عن جملة هذه الأفعال مضلّعات مختلفة ومتعدّدة الرّؤوس، ودوائر وأقواس وأشباه منحرفات، ومعيّنات وأطباق نجميّة، وتصميمات شكليّة متشابكة ومتراكمة في إيقاعيّة رتيبة ومتكّررة، تتجمّع في نسيج رقشيّ معقّد، في واقع تتوزّع فيه الأشكال والمفردات في جميع الاتّجاهات، فتجتاح جميع الفضاءات وتحتكرها حتّى لا تترك مجالاً للفراغات.

ينخرط البناء الزّخرفي في سجلّ تكوينيّ صارم ومقنّن، يُعرف بالتّكوينات المنتظمة (les compositions régulières).، التي يُعرّفها "سمير التّريكي" بكونها: "تلك التي تولّد بالتّكرار داخل حيّز لا متناه وغير محدود. وترتكز التّكوينات المنتظمة من وجهة نظر الرّياضيّات على ما اصطلح تسميته بمجموعات الاعتدال، أو(les groupes de symétries)، وعدد هذه المجموعات 17. ومعرفة نظريّة المجموعات هي التي تمكّن مستعملها، إذا كان فنّاناً تشكيليّاً أو معماريّاً من استنفاذ كلّ الإمكانيّات في اقتراحه لتكوينات منتظمة، انطلاقاً من مفردة تشكيليّة معيّنة"7. واقع يجعل من الحرفي المسلم، في خضمّ هذه الإفادة المعرفيّة، ذاتاً عارفةً وعالمة ضليعة باﻟﻌﻠﻮم الحسابيّة والرّياضيّة والهندسيّة، في ظلّ تعامله وحذقه لهذه التّكوينات المنتظمة الدّقيقة والصّارمة البناء والتّوزيع، والتي تؤكّد عبقريّة عجائبيّة. ومن ثمّ، ميّز الزّخرفة نظام هندسيّ دقيق استند إلى قوانين المعادلات الريّاضيّة والحسابيّة، التي جعلت من "Suite arithmétique"، و"Suite géométrique" وسيطاً أوّليّاً في في البناء، بما هو نظام يقوم على تتابع مفردة بسيطة إلى ما لا نهاية، وفق مقاييس مضبوطة (repère o, i, j)، ونواقل محدّدة (vecteurs i et j)، منتجة في تنقّلها من وضع إلى وضع إلى آخر، كثرة مضبوطة ومُقنّنة، وأشكال وعناصر مثلى ذات علاقات عجيبة، تكون الأشكال الذّهبيّة أحد أبرز ملامحها.

لقد عكست أفعال الحرفي عبر الزّخرفة، موهبة عجيبة وخارقة في ظلّ هذا الواقع غرائبي التّشكيل. وقد وصف "هنري فوسيون" (Henry Fossion ) ذلك قائلاً: "ما أخال شيئاً يُمكنه أن يُجرِّد الحياة من ثوبها الظّاهر، وينقلنا إلى مضمونها الدّفين مثل التّشكيلات الهندسيّة للزّخارف الإسلاميّة، فليست هذه التّشكيلات سوى ثمرة لتفكير قائم على حساب دقيق قد يتحوّل إلى نوع من الرّسوم البيانيّة لأفكار فلسفيّة ومعانٍ روحيّة. غير أنّه ينبغي ألا يفوتنا أنّه خلال هذا الإطار التّجريدي تنطلق حياة متدفّقة عبر الخطوط فتؤلّف بينها تكوينات تتكاثر وتتزايد، متفرّقة مرّة ومجتمعة مرّات؛ وكأنّ هناك روحاً هائمة هي التي تصلح لأكثر من تأويل يتوقّف على ما يصوّب عليه المرء نظره ويتأمّله، وجميعها يخفي ويكشف في أنواعه عن سرّ ما تتضمّنه من إمكانات وطاقات بلا حدود"8

مثّلت التشكيلات الهندسيّة السّحرية والبديعة التّكوين، دعامة أساسيّة في الزّخرفة الإسلاميّة التي شغلت جماليّاتها جميع مجالات الحياة العربيّة الإسلاميّة في عصرها. فتجلّت في فنّ العمارة منقوشة على الجصّ، أو على الخشب في القصور أو في المساجد، وفي ذلك نماذج "المسجد النّبوي"، أو "قبّة الصّخرة" بالقدس، أو "قصر الحمراء بغرناطة"، أو "فستقيّات الأغالبة" بالقيروان، أو أبواب "الجامع الكبير" بصفاقس، "فلم يقتصر هذا الأسلوب على المساجد وحدها بل امتدّ بزخارفه وخاماته المتعدّدة ونوافذه المحلاّة بالزّجاج الملوّن إلى البيوت والقصور، وإلى جميع أنماط العمائر الإسلاميّة. فهو أسلوب عام لكلّ الإنتاج الفنّي الإسلامي بما في ذلك المنتجات الفنيّة الصّناعيّة التي يستعملها الإنسان في حياته اليوميّة"9.

قامت الزّخرفة على منطق مذهل في البناء والإنشاء، أقرّ في ثناياه فعلاً حِرفيّاً عبقريّاً وجماليّة فنيّة عجائبيّة، قد أثّرت كثيراً في عراقة الحضارة العربيّة الإسلاميّة. حقائق ملموسة جعلت منها ملهماً لتيّارات فنيّة حديثة ومعاصرة، ولفنّانين غربيّين وشرقيّين جذبتهم روافد التّجربة، فاستلهموا من منطق اشتغالها وقواعدها وأساليبها وصياغاتها وتكويناتها الهندسيّة، في توجّهات تشكيليّة بحتة تتخطّى الجوانب الرّوحيّة والفكريّة التي انطلق منها الحرفي المسلم في ممارساته، ليطرح إشكاليّات ذاتيّة مختلفة في مشهدها التّصويري العام.

3 - جماليّة الأطباق النّجميّة في نماذج عربيّة تشكيليّة معاصرة

وجد ثلّة من الفنّانين الغرب والعرب في مبادئ ومقوّمات الجماليّة العربيّة الإسلاميّة التي اتّخذت من الحِرف الفنيّة منطلقاً لها في الممارسة، دعامة أساسيّة، تجلّت عبر استحضارهم لبعض الخصائص التّكوينيّة للزّخرفة ومميّزاتها. تعبيرات ذات صياغات مختلفة ومتنوّعة، قد سايرت توجّهات الفنّانين وميولاتهم الفكريّة والتّشكيليّة، والتي كان فيها الطّبق النّجمي أحد الأشكال في الفكر الجمالي الحديث والمعاصر.


سجّلت التجربة الفنيّة للفنان المصري "أحمد نوّار"، على سبيل المثال، حضورها الفعلي كجماليّة عربيّة متميّزة. ميزة اكتسبتها من خلال منهجها الإنشائي، الذّي قام على الجمع بين تكوينات هندسيّة وتكوينات عضويّة في ازدواجيّة طريفة قد جمع فيها بين متفرقات. ورغم إدراجه للأشكال المنحنية في مشواره الفني، فقد استحضر الأشكال الهندسيّة في سياق خضع فيه لقوانين الحساب والهندسة، وإن تجلّت معالمها تارة وتحجّبت طوراً. هي صياغة مُتجدّدة، كانت فيها الأطباق النّجميّة هيكلاً بنائيّاً أساسيّاً في أعماله، فشكّلت الفضاء التّصويري في حضورها البصري الحسي أو الذّهني غير المُتمثّل، الذّي عكس تشبّعاً بالموروث، وانطلاقاً من خصائصه بفكر مُستحدث ومُجدّد، مثّله الشّكل المثمّن الذّي اتّخذ مع "أحمد نوّار" تعبيريّة جديدة. وعليه؛ "كانت النّجمة العربيّة الثّمانيّة الأضلاع قد أخذت تدفعه إلى ذلك الطّقس الشجيّ... فإن نوّار لم يكن فقط يُفكّر بالفن؛ وإنّما كان أيضاً يتميّز بتلك الأغوار التي دعته لأن يكون "تركيبيّاً" "تحليليّاً" في وقت واحد، فإنّ ضلع النّجمة العربيّة هو "خطّ"، ووحدة عنصر هذه النّجمة يبدأ بمثلّث، ومحيطها هو "مربّع متساوي الأضلاع"، وأمّا ترتيب القسمة الحسابيّة بين العاكس والمعكوس فليس سوى نتاج لعمليّات التّتابع المطرد في لعبة الرّمز المبتكر والفعل الجميل"10.


يمتدّ حضور الطّبق النّجمي في تجربة الفنّان السّوري "عبد القادر الأرناؤوط"، الذي انطلق من وحدات هندسيّة بسيطة مثّلها المربّع ليُنتج أشكالاً نجميّة مثمّنة عبر أفعال دوران تزيحه عن مكانه الأصلي، مُحدثة كلاّ متكافئاً ومتناغماً، أثراه بتوظيفه لخطّ الكتابة كعنصر ثان مكوّن لتركيبته، تكتسب من خلالها أعماله خصوصيّة تعبيريّة وفرادة. فقد "توصّل (الأرناؤوط) في الخاتمة إلى لوحة هندسيّة الطّابع من حيث التّشكيل، شاعريّة من حيث الهدف عن طريق تنظيم الزّخرفة واللّون. وقادته التّجارب إلى رسم لوحة تنطلق من مربّع أو مستطيل أو دائرة، ثم إيجاد التّوازن في الأشكال عن طريق كلمات تُكتب في إحدى الزّوايا...".11 وفي هذا السّياق، سيطر البناء المركزي التناظري على التّركيب، بمستويات عكست عودة تراثيّة ورمزيّة دلاليّة، اتّخذت من الأطباق النّجميّة، والحرفيّة مقوّمات إنشائيّة أوّليّة، صيغت في بوتقتها الأشكال والألوان بجماليّة فنيّة إبداعيّة ذاتيّة.

✧✧✧​

هي بعض النماذج الفنيّة التشكيليّة العربيّة المتفرّقة، التّي تجلّت فيها الزخرفة الإسلاميّة كدعامة تكوينيّة أساسيّة. وقد ساير الفعل التشكيلي التونسي هذه الخصوصيّات، في سياق التّجريد الهندسي، الذّي راوح بين مقوّمات فنون وحِرف الحضارة العربيّة الإسلاميّة من جهة، وبين خصوصّيات المدوّنة التّشكيليّة الغربيّة من جهة ثانية، لتتميّز تجاربه بخصوصيّة وبنفس معاصر ومُبتكر، عبّرت عنه عديد النمّاذج التّصويرية وفي سياقاتها نذكر تجربة "رشيد الفخفاخ"، أو "سمير التّريكي"، أو "لطفي الأرناؤوط" وغيرهم، التي احتفت بجماليّة هندسيّة مميّزة، بتميّز فكر كلّ ذات وتوجّهاتها الإبداعيّة.
ولعلّ في أعمال "لطفي الأرناؤوط"، على سبيل الذّكر لا الحصر، ما يُبشّر بتلك العودة إلى خصائص ومقوّمات الزّخرفة الإسلاميّة التي كانت فيها الأطباق النّجميّة ميزة بنائيّة أساسيّة. فلم يخل تكوينه الشّبكي المبني على الشّكل المربّع، من ذلك المنحى التّوليدي الذّي اجتاح فيه الشّكل المثمّن الفضاء التّصويري، وتجاوبت فيه أفعال الإزاحة أو الدوران أو التراكب وغيرها، لمعايير حسابيّة ورياضيّة ومقاسات دقيقة ومضبوطة. تجربة سايرت في منهجها التّشكيلي قواعد وأساليب الفن العربي الإسلامي، وحاولت أن تتجاوزه في كيفيّة حضورها الشكلي واللوني والضّوئي الذّي حاول خرق النّظام المعهود. هو توجّه ذاتيّ تحكّم فيه الفنان في اختياره للألوان وكيفيّة توزيعه لها، ولعبه على الفوارق الضوئيّة التي أضفت لأعماله نفساً جديداً، حيث يقول في حديثه عن أعماله: "إنّ أعمالي التّصويرية نادرة لأنّها مزروعة بالثّقاب، ثقاب ذات أشكال مُضلّعة يمرّ من خلالها ضوء النّهار، ومن خلالها نُدرك النهار"12.

برهنت جملة هذه النّماذج التّشكيليّة العربيّة الممتدّة بين المشرق والمغرب، تعاطيها مع الموروث الجمالي الإسلامي، الذّي تجلّى في استعادة مقوّمات الفعل الإنشائي الزّخرفي وركائزه الأوّليّة. وعلى هذا النّحو، تجلّى الطّبق النّجمي أو الشّكل المثمّن بخاصيّات حافظ فيها الفنّان التّشكيلي على تمثّلاتها الإنشائيّة وسياقاتها التّكوينيّة، في بعض مستوياتها وخصائصها، ليتأكّد هذا الامتداد الثّقافي الذي جعل من العودة إلى الموروث وسجلاّته الفكريّة قادحاً أساسيّاً. هو سياق انطلق من الأسس التّراثيّة في كيفيّاتها البنائيّة متجاوزاً صيغها العقائديّة، لتتجلّى في وضعيّات مغايرة بصريّاً وفكريّاً.

وخلاصة قولنا في هذا الصّدد؛ لقد تجلّت الحرف الفنيّة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة كفعل عكس خبرة تطبيقيّة فائقة وعبقريّة تعبيريّة، ساهمت في ابتكار جماليّة عجائبيّة، قد صوّرتها الزّخرفة بتمثّلاتها السّحريّة، فكانت نموذجاً من بين عديد النّماذج الحِرفيّة التي رسمت ملامح حضارة فنيّة عربيّة إسلاميّة عريقة، لها جذورها وتوجّهاتها وأساليبها الذّاتيّة. ثقافة فنيّة، كانت رافداً جماليّاً ومرجعاً لعديد المدارس الفنيّة والتيّارات التي جاءت من بعدها، غربيّة كانت انتماءاتها أو عربيّة، فكانت مبادئها وقواعدها الإنشائيّة ملهماً ومنطلقاً لفكرها التّصويري الحديث والمعاصر، الذّي تمثّل في خلق جديد تتصرّف فيه الذّوات وفق ميولاتها ورؤاها التّشكيليّة.


الهوامش
1. د. بهنسي، عفيف، الفن الإسلامي، دار طلاس، دمشق، 1986، ص: 59.
2. جلال الدّين الرومي، ورد في: الفن الإسلامي: قراءة تأمّليّة في فلسفته وخصائصه الجماليّة، سمير الصّانع، دار المغرب، بيروت- لبنان، ط. 1، 1988، ص: 32.
3. قاجة، أحمد عطيّة. الفن الإسلامي ومكانته الدّوليّة. الشّركة العامّة للنّشر والتّوزيع والإعلام. بنغازي-ليبيا. 1976. ص: 126. 
4. «L’art arabo-musulman procède par des voies différentes : il s’est fixé pour principe de donner forme à la pensée en ne copiant objectivement ni la nature ni l’homme ; par-là, il exprime moins l’apparence que la vie. Cette conception trouve, à l’époque classique, son expression la plus achevée dans la calligraphie, l’arabesque, l’architecture». Naoum, Nabil, Art contemporain arabe, Institut du monde arabe, Ed. Acr, 2000, P. 2
5. الأرابيسك؛ هو مصطلح غربي في شكله، مشتق من لفظة عرب أو عربي للدّلالة على الفن العربي الإسلامي، ويطلق عليه كذلك "عربسة"، أمّا الرّقش فهو مصطلح تبنّاه بعض النقّاد العرب المعاصرين للدّلالة على الفن العربي الإسلامي.
انتشرت الزّخرفة العربية محمولةً على المخطوطات والقطع الفنيّة المتنوّعة، وأطلق عليها اسم أرابيسك "Arabesque"، وهو مصطلح يعني النّسبة إلى عربي، ولقد اعتُمد هذا المصطلح للدّلالة على الأشكال المجرّدة أو المحوّرة عن الواقع، والتي يبتكرها الصّانع في رسمه أو نقشه أو حفره، مستوحاة من الجماليّة العربيّة. ويقابل هذا المصطلح بالعربيّة كلمة "الرّقش العربي"، وفي اللّغة رقَشَ تعني زوّق الكلام والصّيغ، رسمها محسنة مزيّنة؛ أي نمّقها.
http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=10224
6. أحمد عطيّة قاجة، الفن الإسلامي ومكانته الدّوليّة، الشّركة العامّة للنّشر والتّوزيع والإعلام، بنغازي-ليبيا. 1976، ص: 127.
7. سمير التّريكي، مداخلة بعنوان: الفن الإسلامي والرّياضيات: حول المفردة ومفهوم الاعتدال، الدّورة الثّانية لأيّام العلوم والفنون الإسلاميّة، القيروان، أيام: 10 و11 و12 فيفري 1995.
8. هنري فوسيون، ورد في مقال لإبراهيم داود بعنوان: قراءات تشكيليّة... فن الزّخرفة الإسلاميّة، مجلّة الجماهير (يومية سياسيّة تصدر عن مؤسسة الوحدة للصّحافة والطّباعة والنّشر- حلب، سوريا)، الخميس 06 ديسمبر 2007. 
 www.jamahir.alwehda.gov.sy
9. د. أحمد زكي بدري، معجم مصطلحات الدّراسات الإنسانيّة والفنون الجميلة والتّشكيليّة، دار الكتاب المصري- اللّبناني، ط.1، 1991، ص: 196.
10. أحمد فؤاد سليم، ورد في: أطروحة الدّكتوراه بعنوان: المقومات الجماليّة والفكريّة للتّجريد الهندسي من خلال نماذج من الفنّ العربي المعاصر، منذر المطيبع، نسخة موجودة بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، ص: 144.
11. طارق الشّريف، الفن التّشكيلي في سوريّة، المنظمة العربيّة للثّقافة والعلوم، ط. 1، 1997، ص: 87.
12. لطفي الأرناؤوط، ورد في: أطروحة الدّكتوراه بعنوان: المقوّمات الجماليّة والفكريّة للتّجريد الهندسي من خلال نماذج من الفن العربي المعاصر، منذر المطيبع، مصدر مذكور، ص: 121.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها