الموسيقى والأغاني الشعبية الكُردية

(انطباعات الرحالة والمستشرقين)

فراس محمد


إنّ الإبداع الشّعبي عند الأكراد يعكس تاريخ الشعب الكردي، ونضاله الإنساني – عبر قرون طويلة – من أجل حُريته، ومن أجل حقّه في تقرير مصيره. وإذا نظرنا إلى جذور الفلكلور الممتدة في الماضي البعيد، لوجدنا أنّه وثيق الصّلة بمصير الشعب الكردي وواقعه، وفي الفلكلور – من خلال شكل فنّي – ينعكس الإدراك الفلسفي للشعب والظروف المحيطة به.
 

والتراث الشعبي هو ثروة الأكراد الوحيدة التي لم يتمكن الخصوم من النيل منها، وهو الميراث الوحيد الذي لم يتمكنوا من استلابه، رغم أن أولئك الخصوم استطاعوا تشتيت جمعهم على مساحات واسعة من الأرض؛ لهذا لم يستطع الأكراد تطوير ثقافتهم القومية ولغتهم، إلا أنهم ظلوا روحياً وحدة مُتماسكة، وساعد الفلكلور في الاحتفاظ بأصالتهم والتصدي لأعدائهم، ذلك أنّه من المُستحيل القضاء على روح الشعب، وأفكاره ومعتقداته، آماله وأحلامه التي يمثلها الفلكلور.

وعلى الرغم من الظروف التاريخية الصعبة التي مرّ بها هذا الشعب، إلا أنه قد مارس دوراً هاماً في التاريخ الثقافي للشرق الأوسط. إنه حسب (ي. ا. أوربيلي): "قد فقد خيرة أبنائه من الشعراء والموسيقيين والقادة الذين ازدانت بأسمائهم تواريخ الشعوب".

ووصف الأكاديمي (ن. مار) أهمية مُساهمة الأكراد في التاريخ الثقافي لشعوب آسيا: "إنّ القبائل الكردية كانت وما تزال حتى وقتنا هذا تمثل اتجاهاً مستقلاً من حيث مكانتها الاجتماعية والثقافية، وإن المفتاح الذي يؤدي إلى فهم هذه الظاهرة يجب البحث عنه أولاً وقبل كل شيء في الفلكلور الكردي الغني في رقصاته وأغانيه"(1).

لقد جذب غنى وتنوع الفولكلور الكردي – منذ القديم – اهتمام المستشرقين والباحثين في الفولكلور نحوه، وليس بالمقدور عدّ الفولكلور فقط بعض النتاجات الفنية، بل هو مجمل الأحداث التاريخية، والاجتماعية، والثقافية لمجتمع ما، ومقياس لتطور لغة ذلك المجتمع. كل هذه المعطيات تلاقت وتشابكت وتداخلت فيما بينها عن طريق الفولكلور حتى شكّلت كنزاً ثقافياً، وغدت مصدراً قوياً له(2).

لقد كتب المستشرق والمفكّر الأرمني (خ. آبوڤيان) الذي كان يعتبر في القرن التاسع عشر أحد روّاد الثقافة التقدمية الكبار في الشرق، عن الفولكلور الكردي، يقول: "تكمن الرّوح الشاعرية في أعماق كل كردي، وحتى عند الشيوخ الأميين، إنّهم جميعاً يمتلكون القدرة والموهبة في الغناء، وهم يغنون ببساطة وهدوء، يغنون لوديانهم وجبالهم وشلالالتهم وأنهرهم وورودهم وأسلحتهم وخيولهم، يغنّون للشجاعة ولبناتهم الحسان، وكل ذلك يتدفق من أعماق مشاعرهم وأنفسهم".

أما (ن. مار) وهو عالم ومستشرق كبير، فقد أوضح في مقال له كتبه عام 1911 حقيقة أن الفولكلور الكردي ينتشر ليس بين جموع الشعب الكردي وحده، بل وعند شعوب الشرق الأخرى أيضاً كالعرب والفرس والأذربيجان والأرمن والآثوريين. وبصدد ذلك يقول (مينورسكي): "إن الغناء الكردي ورواية القصص الكردية أصبح عادة عامة عند الآثوريين الذين يعيشون في الجبال".

وكتب (فاسيلي نيكيتين) عن الفولكلور الكردي يقول: "إن الأدب الكردي، هو الفولكلور الكردي بالدرجة الأولى، وإننا لا نجد في ذلك الفولكلور بقايا وتراث الأجيال والأجداد في الماضي فحسب، بل إنه يُبرهن على القدرة على الحياة في يومنا هذا، وهو دليل على روعة القوى الخلاقة التي تزيد يوماً بعد يوم، وليس من النادر أن نجد عناصر نتاج الشعوب الجارة تصب وتغنى في قالب كردي"(3).

لقد وصف (ريج) الكرد بأنّهم ميّالون إلى الموسيقى ميلاً شديداً وأغلب موسيقاهم حزينة، ويعرض لنا ريج أسماء بعض الأغنيات التي كانت شائعة آنذاك في عشرينيات القرن التاسع عشر، منها (مَلكي جان)، و(مَمكوزه بَناز)، و(أز دنالم).

ويصف ريج هذه الأغنيات بالأغنيات الرّقيقة، كما يذكر أنّ للكثير من الأغنيات الكردية أدواراً تتناوب.

يبدو أن أغاني الحصاد كانت قد أعجبت ريج، فقد ذكر أغنية (فرهاد وشيرين) التي كانت تُغنى من قبل الحصادين، فأعادت إلى ذاكرته أصحاب زوارق الجندول في مدينة البندقية وهم يُردّدون أغنية (تاسّو). تُرى هل كان هناك تقارب في لحن الأغنيتين، أم أن حركة الحصادين، ومُسيّري القوارب تقاربتا في ذهنية ريج في تلك اللحظة. من يدري؟

ومما جلب انتباه ريج إلى قيمة الموسيقى الكردية، ملاحظته عندما زار عثمان بك في إحدى الأمسيات في السليمانية؛ فإن عثمان بك كان قد هيّأ جوقة موسيقية لتسلية ريج، ويبدو أن الجوقة كانت مكونة من موسيقيين ومغنين قدموا من بغداد.

أما (توما بوا) فقد كتب عن هوية الموسيقى الكردية، فهي –كما يذكر– غير منفصلة عن الرقص والأغاني وهي قسم من أقسام الموسيقى الشرقية، ولكن لا يمكن مزجها مع الموسيقى العربية أو الأرمنية أو التركية، وهو يريد بذلك أن للموسيقى الكردية شخصيتها المستقلة، لا بل يزيد في ذلك، فهو يرى أن الموسيقى الكردية أثرت في الغناء لدى الأقوام المجاورة للكرد، ومن ناحية تاريخية يذكر بوا أن الموسيقى كانت راقية ومتطورة في الامبراطورية الساسانية، ودام هذا التقليد عند الأكراد يتمثل بشغف الكرد بالموسيقى.

ويذكر في كتابه أن الموسيقي الشهير (زرياب) كان كردياً من الموصل، وكذلك يذكر أن (إسحاق الموصلي) بدوره كان كردياً. وهو يتحدث عن واقع الموسيقى الكردية في القرن العشرين إذ يصفها بأنها على الرغم من الأمجاد الماضية للموسيقى الكردية؛ فإنها اليوم تُعد فقيرة وشعبية وتحتفظ بطابع محرك للعواطف وغالباً هي موسيقى كئيبة.

أما (دولوريه) فقد جاء ذكره في كتاب توما بوا، وهو الذي سجل انطباعاته في القرن التاسع عشر عن الموسيقى الكردية، فهي -كما يذكر- تتميز بأنغام منتظمة ولها تعبيرات رصينة وكئيبة، ويعبّر دولوريه عن تعجبه كيف فرضت هذه العواطف وجودها عند قبائل عُرفت بالعنف.

لقد جذبت الموسيقى الكردية انتباه الرحالة الذين جابوا كردستان، ويُعلّق توما بوا على انطباعاتهم إنهم لم يجدوا في الموسيقى الكردية حاجة إلى إثبات أصالتها على الرغم من أن البعض كانت له وجهة نظر تناقض ذلك، ولكن توما بوا لا يعلق على هذا التناقض، ونحن نعتقد أن هذا التناقض في الرأي إزاء الموسيقى الكردية عند الرحالة الأجانب يمكن أن يُعزى إلى أكثر من سبب:

وأول سبب في رأينا، أن بعض الرحالة لم تتسن لهم فرصة الاستماع إلى (كل) أو على الأقل (معظم) النماذج الموسيقية الكردية، بل ربما استمعوا إلى أنموذج أو اثنين ثم جاء حكمهم ذو طابع تعميمي وهذا خطأ أو على الأقل حكم غير منصف.

وثاني سبب في رأينا قد يعزى إلى تأثر الرحالة بالتطور الحضاري، بما في ذلك الموسيقى في البلدان المحيطة بكردستان، فهم ربما جاءوا كردستان عبر استنبول أو طهران وهذه عواصم لامبراطوريات، لا بدّ أن الفن فيها قد تقدّم وتطوّر قياساً بشعب مُضطهَد، تتقاذفه الويلات من الشرق والغرب، والكل يحاول طمس معالم وأصالة القوم.

إن المقارنة لا يمكن أن تكون موضوعية بين موسيقى القبيلة الكردية على شواهق الجبال والموسيقى التي باتت تقدم على مسارح الاستانة أو طهران. إنّ عشرات من السنوات الحضارية وعشرات من السنوات السياسية الدموية تقف وراء الموسيقى الكردية، لذا لا نعتقد أن التقويم (التقييم) عادل عند البعض من الرحالة.

يحدثنا توما أيضاً عن الآلات الموسيقية الكردية وهي الآن في الغالب مصنوعة محلياً ومنها المزمار والطبل والناي، والناي المزدوج والطنبور.

لقد ابتدأ البعض من خارج ومن داخل كردستان يهتمون بدراسة الموسيقى الكردية مثل الدكتور (دي. كريستنسن) الذي أجرى دراسة مستفيضة في موسيقى الرقص الكردية، وكذلك درس الآلات الموسيقية الكردية في منطقة (هكاري).

أما (هاملتون) فقد ذكر شيئاً بإيجاز عن الموسيقى الكردية، إذ عبّر عن رغبته في أن يفهم شيئاً عن الموسيقى الكردية، فجلس إلى جانب عازف شمشال (ناي) على قارعة الطريق، وهو يبعث بنايه نغمات رقيقة لأغنية غراميّة.

إنّ هاملتون يخرج بنتيجة، ونحن لا نعرف ما إذا كانت هذه النتيجة حقيقية من وجهة نظر (علم الموسيقى)، إذ يذكر أنّ ما سمعه وما يسمعه من الأغاني وأغاني الملاحم المرتعشة المرحة، أو أغاني الحروب التي تُسمع فيها ضجّة المعركة تقع كلها على السلم الموسيقي الصوفي الكئيب ذي الربع نغمة، الشبيه بنغمات ناي حواة الأفاعي. وهو - أي هاملتون- يصرّح بانطباع مفاده أن الكرد لا يكنون تقديراً عالياً لموسيقى الإنكليز، ويبدو أن الكرد بدأوا يسمعون أغنيات غربية من خلال الحاكي وكذلك من خلال (راديو) أتى به هاملتون فأصبح أعجوبة الزمان.

يذكر (ويلسون) أن الموسيقى الكردية تعزف على مزمار يشبه موسيقى القرب وغالباً تكون في إيقاعاتها مفرحة. وهذا يتقاطع مع رأي ريج الذي ذكرناه، إذ قال عنها بأنها محزنة ولعل ويلسون كان يقصد موسيقى الرقص.

أما (هَيْ) فله انطباعه المختلف في حب الكردي للموسيقى وهو يذكر أن الأكراد - كما ظهر له – لا يكلفون بالموسيقى، لا بل هو يحسب أنهم يعدّونها لا أخلاقية وأن الآلات الوحيدة الموجودة لديهم هي الطبل والمزمار (زورنا Zurne). والحقيقة فإنّ رأي (هَيْ) يناقض تماماً رأي ريج في كلفة الكرد بالموسيقى.

إننا نعتقد أنّ (هَيْ) مُصيب وغير مُصيب في انطباعه عن موقف الكرد من الموسيقى. فلقد خلط (هَيْ) في أمرين بما يخص الموسيقى، فالكردي في الحقيقة يهوى الموسيقى، ولكنه لا يريد لنفسه أن يكون موسيقياً.

إنّ الكردي يرقص بأصالة رقصاته الشعبية على صوت الطبل والمزمار، لا بل يرقص الرجال والنسوة معاً وبأيدٍ مُتشابكة، وقد أوصلته الموسيقى ذروة الطرب، وأيّ تعبير عن الطرب يفوق الرقص؟ لكن الكردي في ذات الوقت لا يريد لابنه بأيّ شكل من الأشكال أن يكون نافخ مزمار أو قارع طبل، وهم يعدون هذه المُهمّة خاصة بالغجر(4).

إن (مورتر واكنر) يساير (آبوفيان) في انطباعه عن المكانة العالية للغناء الكردي. أما (بلو) الذي تعمّق في دراسة المناطق الشرقية من كردستان فإنه يتفق مع هؤلاء الرحالة والكتّاب حول خصائص الغناء الكردي، وأهميته الكبرى في الحياة، ويقول: "إنّ أشد العشائر الكردية بؤساً، غنيّة في أغانيها وفي ألحانها، ولا تتردد أقاصيص غنائهم التي تسرد وقائع الحروب، عندما يتحرّكون صوب المراعي الجبلية أو حين يتوقفون فوق القمم الصخرية فقط، بل وبين حضرييهم المستقرين في الوديان أيضاً. ويَجمع المغنون حولهم في الأماسي أهالي القرية ويثيرون شجونهم بأغانيهم عن أبطال شعبهم من المحاربين القدماء أو بقصائد عن الحب والفراق وآلامه.. إلخ. إن الأنغام التي كانت تنطلق من حنجرة المغني (عمر آغا) في ديادين، في أغانيه المختلفة، وإيقاعاتها التي كانت مُسرعة، بهيجة أحياناً وبطيئة محزنة أحياناً أخرى، وتحريكه الحي للكلمات بالنبرات أو تثاقله في أدائها، وفضلاً عن ذلك الإيماءات الحيّة التي كانت تصدر منه خلال الغناء، لتثبت قدرته على الغناء بعمق وذكاء وعاطفة، رغم أنه لم يكن يفهم معاني النصوص".

ولا تقل شهادة (لايارد) عن الشعر والموسيقى الكردية لدى الكرد اليزيديين (الايزيديين) عن شهادات غيره أهمية، فهو يصف غناءهم على ضريح (الشيخ عدي) بأنّه كان "احتفالياً وحزيناً"، ويقول: "لم أسمع طيلة حياتي غناءً أبعث على الحزن وألصق في الوقت نفسه بالقلب من ذلك الغناء، لقد كانت أنغام المزمار تمتزج بعذوبة مع أصوات النساء والرجال التي كانت تتوقف بين حين وآخر لتترك المجال للصناجات والطبول".

وتدور الأغاني الكردية غير الدينية حول المواضيع العاطفية والبطولية. إلا أن المهم في هذه الأغاني كما يلاحظ (مار) ليس الموضوعات التي تُكرر دوماً، بل مجموعة أهداف الحكايات والأخبار الواردة فيها. إن واقع تقبل الأرمن للغناء الكردي بكل تقدير واحترام، يؤكد بصورة بليغة الجاذبية الشديدة في الشعر الشعبي الكردي. ويؤكد (واكنر) أن العديد من الأغاني الكردية والإيزيدية انتشرت في آسيا القديمة (آسيا الصغرى) بعد ترجمتها إلى اللغة التركية.

ويعزو الرحالة والعلماء جودة الأغاني الكردية وسموها إلى صفات الفروسية التي يتحلى بها الكرد أنفسهم. ويقول (مار): "إن لم أكن مخطئاً، فإنهم لم يوجهوا السؤال التالي إلى أنفسهم: "أولا يمكننا تفسير الأمر على العكس، بأنّ هذه الصورة الرومانتيكية والبطولية للكرد تتجلى في هذه المواضيع، وعبر الثروة الشعرية البليغة التي توارثوها منذ الأزمنة السحيقة في القدم؟ ويبدو أن ثروة الغناء الكردي ناجمة عن المميزات التي يتحلى بها الكرد دون جيرانهم من الأتراك المسلمين والأرمن والمسيحيين". "ففي الوقت الذي تخلى فيه الأتراك والأرمن عن عاداتهم وتقاليدهم الدينية والشعبية لأخرى مبتدعة، نجد الكرد، كالفرس، يحتفظون بأصالتهم، ويقولون إنهم طالما بقوا كرداً، لا يقطعون صلتهم بتقاليدهم الشعبية والدينية حتى مع اعتناقهم الدين الإسلامي".

ويصف (ميللينكن) إحـدى السهرات الكردية فـيقول: "انعـقدت حلقة الغناء بعـد العشاء، فامـتدت تحت الخـيـمـة وخـارجـهـا، وكـانت تتـألف من مـحـاربين شـبـاب وكـهـول وشـيـوخ وكـلهم مـتـربّعـون على الأرض الخضراء. وفي تلك الأثناء وعندمـا كان حضور المجلس يتحـادثون فيما بينهم ويتضـاحكون بمرح وحبور وبشـاشة وجـه، أخذت تعـلو فجـأة أصوات تترنم تلقـائياً بأنغـام كـردية شجـية، أنغـام عـشاق عـاطفيـة، وأخـذت أحاسـيس عـشـاق الشـعر والنغـم، وعواطفـهم تلتـهب شـيـئاً فـشـيـئاً، فكنـتَ ترى ملامح الـعيـون والأفواه وسائر أعضاء الجـسم تتغير، فتكتسي مظاهرهم التي كانت حدّ الإمـكان مظاهر عشاق، وضعاً يثير الضحك تقـريباً، وبعض الوجوه الخشنة التي كانت إلى جانب المظاهر الـرجولية الوقورة في تناقض مع اللّطـف والصـفــاء واللاّمـبــالاة التي أحـدثـتـهـا فــيـهم قــوة الموسيقى في تلـكم اللحظات، مما يـدعـو للانتباه، في حين كان بعض آخر تتبدى عليهم سيمـاء ريفية بسيطة رغم مظاهر العشاق المتداعية التي كانوا يحاولون أن يظهروا بها أنفسهم".

"استـمرت هذه السهـرة الغنائية مدة ساعتين تقريباً، ولا بدّ لي من القول إنهـا كانت تسلية ممتعة، إذ سرعـان ما جرفني تيار هذا اللحن الموسيقي الرخي العذب أكـثر بكثيـر مما تأثرت بالموسيقى التركـية. وأحسن دليـل على مكانة الموسيقى الكردية هو أن من بين العديد من الأنغـام التي استـمعت إليـها في تلك الأمـسـيـة أن إحـداها أثرت في أحـاسـيـسي الموسيقية إلى حـد أننـي لبـثت زمناً طويلاً فـيـمـا بعـد أردّدها وأطرب لها. ومن سوء حظي أنني لا أتذكرها الآن، وإلا كان بمقدوري إعطاء مثال على اللحن الكردي المسجل موسيقياً"(5).

لقد زار السير (مارك سايكس) مدينة كركوك قبل قرن من الزمان، واستقبله القائد العام للجيش التركي لمنطقة كركوك، ويبدي سايكس إعجابه بشخصية الباشا القومندار (Commandar pacha). وفي حفلة عشاء جلب القائد التركي فرقة موسيقية ويبدو أنها كانت عسكرية للترفيه عن الضيف، لكن السير مارك سايكس ذكر أن الأتراك يصرون عادة على عزف الموسيقى الغربية ويعرب عن أسفه أنهم يعزفونها بشكل رديء وبفوضى. وفي تلك الليلة عزفت الفرقة المارسيلايز (النشيد الوطني الفرنسي) وكذلك عزفت بعض المارشات الألمانية، ولكن السير سايكس الضيف أبدى رغبته في أن يسمع شيئاً من الموسيقى الكردية، وعندها بدت على الباشا التركي علامات السخرية والازدراء لهذا الطلب. إلا أن رئيس الفرقة أبدى استعداده، وتحدث الموسيقيون مع بعضهم البعض، ثم بدأوا يعزفون الموسيقى الكردية ويقول سايكس بهذا الصدد: "أخذت الألحان الرائعة تنساب من آلاتهم حتى جعلته – كما يذكر – يشعر وكأنه يُنصت إلى سيمفونية جايكوفيسكي وبدأ الحزن والانقباض يزولان من خلال المزامير القصبية تصاحبها الطبول والصناجات النحاسية".

ويعلق سايكس على ذلك بأنه لاحظ الموسيقيين بدورهم كانوا يشعرون بسعادة أكبر مما لو عزفوا (الدانوب الأزرق) في ظرف غير مناسب زماناً ومكاناً ودرجات صوتية.

أما (مينورسكي) فقد أشار إلى الملاحم الكردية المغناة، وهو يعد هذه الأغاني الملحمية جزءاً من الأدب الشعبي الكردي. ويذكر من هذه الملاحم المغناة ملحمة (قلعة دمدم) الواقعة جنوب (اورميه) بالقرب من نهر براندوز التي غزاها الشاه عباس الفارسي ويترنم الكرد بإعجاب باستبسال المقاتلين الكرد في تلك الملحمة، وهي - كما يؤكد مينورسكي- تتضمن أحداثاً واقعية. وكذلك يشير مينورسكي إلى الملحمة القومية الرائعة (مم وزين) التي يغنيها الكرد، هذه الملحمة التي تحكي قصة عاشقين، حال عامل التباين الاجتماعي بين زواجهما فقد كانت زين شقيقة أمير بوتان في كردستان تركيا. الحقيقة أن هذه الملحمة التي تنتهي بموت العاشقين لا تقل إن لم نقل إنها تفوق روائع تراجيديا الغرام في الأدب الرفيع العالمي، إذ لا نجد في روميو وجولييت شكسبير ما يفوق مم وزين روعة.

أما (أدموندز) فيحدثنا عن انطباعه عن الأغنية الكردية في قرية بزنيان التي كما يصفها بأنها كانت قرية عامرة تتألف مما يقرب من مائة بيت على ما يظهر من خرائبها، ولم يبق منها غير عشرة بيوت. ويملك فيها الشيخ محمود (الحفيد) بساتين وكروماً.

وعلى ما يبدو أن أدموندز الذي أحب اللغة الكردية وتبحر فيها فيما بعد، كان يرغب في أن يسمع أغنية كردية وعندما طلب ذلك، أتوا له بثلاثة من الدرك، بدأوا يغنون له أغنيات فارسية، اتسمت بطابع العصبية والحماس – على حد تعبيره – ربما ظن أصحاب القرية أن الأغنية الفارسية هي الأجدر في إكرام الضيف، وهذا على ما نعتقده من إشعاعات العقدة السياسية التاريخية فالضيف أجنبي ولا بدّ أنه لا يستسيغ إلا ما كان أجنبياً، أو هو نوع من الشعور بالصغارة إزاء الدولة الفارسية المهيمنة، لكن أدموندز ألحّ عليهم برغبته، يرجوهم أن يسمع نماذج من الغناء الكردي، ونعتقد أنّ القرية المخربة تلك لم تستطع أن تسعف مطلب أدموندز فقد جيء له بمطرب يصفه أدموندز أنه لم يكن يملك الموهبة الغنائية فراح يزعق زعيقاً مفعماً بالحماسة، وقد بدت الأغنية لأدموندز مملة رتيبة، وكل مصراع منها لا يزيد عن ترجيع للجملة وكأنها عملية إخراج آخر دفقة من أنفاس المغني خارج جسمه.

لكن أدموندز من بعد ذلك يكتشف سحر الأغنية الكردية ويصف الغزل والنسيب على طريق الينبوع، دفق من الأغاني ينساب عبر الوادي (كوراني) والشمس تنحدر نحو المغيب ويرتفع القمر وتسحر أخاديد الصخور بأضوائه ويظل صدى الغزل بالحبيبة مسترسلاً(6).
 


المصادر والمراجع: 1 - د. محمد عبدو النجاري: من الفلكلور الكردي (قصص غنائية، حكم وأمثال)، (دمشق، مطبعة الكاتب العربي، ط1،1991)، ص: 21. 2 - روهات آلاكوم: المرأة في الفلكلور الكردي. ترجمة: قادر عكيد، (أربيل، مديرية مطبعة الثقافة، ط1، 2013)، ص: 4.│3 - د. عز الدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي، (أربيل، مطبوعات الأكاديمية الكردية، ط2، 2011)، ص: 14.│4 - د. بدرخان السندي: المجتمع الكردي في المنظور الاستشراقي، (أربيل، مطبعة وزارة الثقافة، ط1، 2002) ص: 435.│5 - باسيلي نيكيتين: الكرد، دراسة سيسيولوجية، تاريخية. ترجمة وتعليق: د. نوري طالباني، (أربيل، منشورات آراس، ط3، 2003)، ص: 168.│6 - د. بدرخان السندي، المرجع نفسه، ص: 441.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها