مسلسل "موضوع عائليّ"

المَوْضُوع فيه إنَّ

د. علاء عبد المنعم إبراهيم


أثار النجاحُ اللافتُ الذي حقّقه المسلسلُ التليفزيونيُّ "موضوع عائلي" -الذي عُرِض على إحدى المنصات الرقمية- أسئلةً مُتشعِّبةً حول أسباب هذا النجاح ومُبرراته على المستويين الجماهيري والنقدي، وما صاحبه من حالة انتشاءٍ احتفالي عبر وسائل التواصُل الاجتماعي المختلفة.
ولأن فريق العمل لا يضم أسماءً لامعة –وفق المعيار التسويقي الشائع- ولأن ميزانيته الإنتاجية تبدو محدودةً، ولأنه لم يتم الترويج له عبر حملات إعلانية وإعلامية كبيرة، فقد بدا أنّ "الموضُوعَ فيّه إنَّ" وأنَّ للنجاح أسبابًا متواريةً تحتاج مزيداً من الجهد التحليلي لتجليتها واستكشاف حدودها وآفاقها.
 

الرَّهانُ على بَساطة الحِكاية

يقدِّم لنا العمل تصويرًا لمشاهد واقعية لإبراهيم الطاهي المُحترِف وعائلته الصغيرة، تتلصَّص الكاميرا بطريقتها الخاصة على حياتهم اليومية، وتقدِّمها كما هي، بطريقة تسكّن الأحداثُ في مُتواليات مألوفة تعتمد على عناصر التشويق البسيطة، عبر سردٍ مُفعِم بالصدق، والمواقف غير المشْحونة بالعاطفة الجيَّاشة، لحدٍ تكاد تتهاوى عنده الحدودُ الفاصلةُ بين الواقعي والمُتخيَّل.

تتسمُ الحكايةُ في المُجمل ببساطة شديدة، رجلٌ خمسيني يعيش في البناية نفسها مع أخته وأسرتها الصغيرة (الزوج وابنين)، تجمعه وإياهم علاقةٌ قوية، يكتشف أن له ابنة ثرية من زواج قصير سابق، تعود الابنة لتعيش في كنف العائلة لتقع في حب ابن عمتها ويقرّران الزواج، في الوقت نفسه الذي يكتشف الأبُ إصابته بورم في المخ يؤثر على ذاكرته، يبحث عن علاج لمرضه لدى طبيبة مُطلَّقة فيقع في غرامها، يخفي عن الجميع حقيقة مرضه، حتى تحين اللحظة التي تتكشف الحقيقةُ، تقف العائلةُ بجانب الأب، وتشجعه على إجراء الجراحة الخطيرة، لينتهي العمل بزواج الابنة من ابن عمها وزواج الأب من الطبيبة.

تحفز الحكاية الخالية من التعقيد الدرامي على هذا النحو إلى التساؤل عن كيفية تحولها لمنبع دافق للإبداع، لتتسع دائرة التساؤل تتدريجيًا إلى كيف يُمكن لنصوص تتشكَّل مُتجرِّدةً من الخيال النافر والعاطفة الهادرة، وتفتقر إلى نزاعات جدليّة- قوامها الصراع المباشر- أن تُؤسِّسَ جمالياتها الخاصة التي تستحوذُ على اهتمام المتلقي، وتنفذُ إلى الشروط العميقة للتأثير فيه؟

يبدو تفسيرُ هذا الأمر مرتبطًا بفعل التلقي وملابساته أكثر من المفعول النصي ذاته، ونقصد هنا أن النص لم يستقطب المتلقي بقيمه الفنية وأداء أبطاله ومحتواه الدرامي فحسب، بل إن المتلقي كان بالفعل في حالة بحث دائم عن نص تتحقق فيه شروطُه المرتبطةُ بسياقاته المَعيشَية وملابساته؛ ففي ظل الأزمات الاقتصادية وتباعاتها الاجتماعية والأخلاقية التي يُعاني منها المتلقي، وما يكتنف واقعه من تعقيدات تجاوز في كثير من الأحيان التعقيد الدرامي في المتخيل الحكائي، أصبح الانخراط في حكاية سهلة أمرًا مأمولاً، بغية مقاومة الواقع المشحون بمشكلات أكبر وأعمق، وصار التماهي مع تصوير مشكلات يمكن تأطير حدودها وتوقُّع حلولها والتحكم في تباعاتها هدفًا كامناً في اللاوعي ينتظر عملًا ينشّطه، وغدت النهايات السعيدة المُعبَّدة بمُقدمات درامية بسيطة عاملاً مُعززًا للتعلُّق بالنص والتواطؤ معه.

وتبدو "نهاية العمل" بنيةً تمثيلية جيدة لحالة التواطؤ تلك بين صانعي العمل ومُستقبليه، فعلى الرغم من محاولة العمل تخفيف وطأة البُعد الحزين لحكاية تعتمد على مأساة شخصية مريضة من خلال توظيف أدوات الفكاهة اللفظية والإشارية والموقفية؛ فإن المتلقي يبدو في حالة من حالات التهيؤ الكامل لاستقبال فعل ختامي يمحو أثر هذا الحس الحزين ويعيد التوازن المعتاد للحكاية، وعندما نتحدث عن التوازن فإننا نقصد به هذا النمط التقليدي في التلقي الذي يهيئ نفسه دون وعي لاستقبال نهاية سعيدة ينتصر فيها الأخيار ويهزم الأشرار، ويبرأ المرضى، ويعاقب المفسدون، وغيرها من الأمور التي تستقي مبرراتها من معيار أخلاقي مثالي قد لا يكون بالضرورة متطابقًا مع الواقع، لكنه يملك قوة تأثيرية ثقافية تتفوق على هذا الواقع نفسه، وهو ما تم ترجمته بشكل مباشر في الحكايات الشعبية التي يستند معمارها إلى غلق النص بنهاية سعيدة، يتم عبرها تنفيذ العقد الضمني مع المتلقي فيما يتعلق "بمثالية الغلق" المتناغمة مع فكرة الحلم الآجل (المستقبلي) الذي لا بد أن يتحقق.

تنتهي الحكاية بغلق الثنائيات المفتوحة أو المواربة فتتزوج سارةُ (الابنة) حسن (ابن العمة)، ويهزم إبراهيمُ مرضه، ويتزوّج مريم (الطبيبة الجميلة)، ويستعيد رمضان (زوج الأخت) علاقتَه -التي كادت أن تنهار- مع زينب (الأخت)، ولا يكتفي العمل بإعادة ترميم الجانب المادي الذي اضمحل في أثناء السرد التصويري، بل يتجه لإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية بين الشخصيات الحكائية باعتبار أن الهدف هنا هو إغراق النص بدفقات سعيدة تتجاوز نظيرتها المأساوية السابقة، وهو ما يتجلى في المشهد الأخير من العمل حيث ولادة الابن (ابن سارة وحسن)، والحفيد (ابن إبراهيم ومريم) بشكل مُتزامن يعيد تشكيل القادم، ويفتح نافذة التفاؤل بمستقبل مفعم بمظاهر القوة والجمال.

قِيم العائلة.. قيم التسويق

أصبح من المألوف أن تتضمّن الأعمال التلفزيونية الهادفة إلى استقطاب أكبر عدد من المشاهدين خلطةً -يُروَّج لها بالعبارة الشهيرة "هذا ما يريده الجمهورُ"- هي مزيج من مشاهد الحركة المُفعمة بالعنف، وبعض المشاهد الحميمة التي تغازل ذوق المراهقين، وبعض الأغاني الشعبية ذات الحس الحاد "أغاني المهرجانات"، ولغة دارجة تنحدر إلى استعارة مفردات السب والشتم، ويبرر معظم صانعي الأعمال الدرامية تنْكِيه أعمالهم بتلك التوابل التسويقية برغبتهم الصادقة في تمثُّل الواقع وشرائحه، وعكس مفرداته التي لا يرغب منتقدوهم في الالتفات إليها.

يتجرد موضوع عائلي من هذا الخلطة، وينفلت من تأثيراتها الإنتاجية، ليصنع نكهته الخاصة المضادة لقيم التسويق المزعومة، نكهة تُطهى في مطبخ العائلة الأليف، وتستمد قوتها من قيمها الثابتة، حيث الترابط والتسامح والتعاضد والتفاهم، ومن لغتها المهادنة التي تحترم الأفراد وسياقاتهم ودورهم الاجتماعي ورتبهم الأسرية، ومن موسيقاها الداخلية الموازية للموسيقى الهادئة المبثوثة في تضاعيف العمل لدعم دلالته وترسيخ قيمه الموضوعية.

ويبدو أن المتلقي الحصيف – وليست هذه هي المرة الأولى التي يفعلها- أراد أن يرسل رسالته الخاصة للقائمين على إنتاج الأعمال التلفزيونية- بحتمية الالتفات إلى البعد القيمي في العمل، ولا يقصد هنا شحن النص بجرعات وعظية أو عبرية؛ وإنما الحفاظ على الوضعية الطبيعية للسواد الأعظم من الأسر العربية باعتبار ذلك أكثر تجسيداً للواقع ومفرداته، وقيمه المتجاوزة للإسفاف والاستخفاف.

عن وسائل التواصل الاجتماعي

تغتنم وسائلُ التواصل الاجتماعي الفرصةَ من حين لآخر لتذكيرنا بحدود سلطتها الفوقية المجاوزة للسلطات التقليدية بمعاقلها المادية ونفوذها المعنوي، قد تتمظهر هذه الفرص في شكل أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، أو فنية كما هو الحال هنا، فنظرة واحدة على وسائل التواصل الاجتماعي في أثناء عرض المسلسل وبعده ستكشف عن حجم السلطة التي تتمتع بها هذه الوسائل في التأثير في الرأي العام، وتشكيل ذوقه وتوجيه مقرؤيته ومشاهداته، وبقدر ما عكستْ النصوص المبثوثة عبر هذه الوسائل حالة الاحتفاء بالعمل وأبطاله بقدر ما دعّمت نجاحه، وعبَّدت الطريق لترسيخ هذا النجاح وتوسيع دائرة تأثيره.

وقد ترافق ذلك مع تنوع لافت في مظاهر التعاطي وتعدُّد في زوايا المُقاربة، فظهرت الاستشهادات بمقاطع نصية حوارية من العمل مشفوعة بعناوين مؤثرة (كالحوار بين إبراهيم وزوج ابنته المستقبلي في يوم الزفاف، الذي تم الترويج له بوصفه نموذجاً للطبيعة المفارقة لحب الأب لابنته وحب الزوج لزوجته)، أو من خلال إعادة نشر قصص مصاحبة لإنتاج العمل وإضفاء روح البطولة عليها، أو الالتفات للحياة الشخصية والمهنية لبعض أبطال العمل وصكها بقيم نبيلة كالصبر والمثابرة والاجتهاد.

في النهاية يمكننا القول إن الـ(إنّ) وأخواتها التي حاول هذا المقالُ الالتفاتَ إليها لا تنتقص من الجهد الذي بذله فريقُ العمل، وأداء أبطاله الهادئ الذي بثوا عبره الحيوية في شرايينه، والابتسامة المتسامحة التي طبعوا بها حلقاته وصدروها إلى متلقيهم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها