من دهشة الواقع إلى سِحر الأساطير

بازوليني.. وسينما الخيال

د. السهلي بلقاسم



يعتبر المخرج الإيطالي  (بيير باولو بازوليني Pier Paolo Pasolini) من المخرجين العالميين، الذين أدهشهم واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية 1945م. مجموعة من المخرجين تبنوا تقاليد منهج الواقعية الجديدة في إيطاليا1 (فريدريك فيليني وانتونيوني، وليتشينوفيسكونتي، وروبرتو روسيليني وفيتيدور دي سيكا...)، وحين تراجع إلى حد ما الواقع الذي أفرزته الحرب، بانتهاء الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... تبلورت الرؤية الذاتية الخاصة لبازوليني ورفاقه المخرجين الذين أنجبتهم الواقعية الجديدة. ومع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات أسهم العديد من رواد الواقعية الجديدة في المرحلة الانتقالية، التي مر بها المجتمع والفن والحياة، من سينما الواقع إلى سينما الأدب والخيال. وسرعان ما استهوتهم الأساطير الإنسانية الكبرى، وشغفوا بتحويلها إلى أفلام سينمائية كبيرة، بسبب التقاطعات بين قوة الخيال في الأسطورة، وقوة الخيال السينمائي، مستعينين بما تتمتع به الصورة السينمائية من قدرة سحرية على تجسيد محاكاة الأسطورة، وبما يمتلكه الفن السينمائي من العناصر الصورية والصوتية والتركيبة، القادرة على تجسيد التحف والأساطير الأدبية، في روائع فنية سينمائية خالدة.


 

بازوليني من الكلمة إلى الصورة

جاء بازوليني من عالم الشعر الذي بدأ يكتابته منذ أوائل الأربعينيات، بعد أن الهمته الطبيعة الخلابة لمدينته (كاسارسا) خيالاً نهماً، متأثراً بأعمال الشاعر الكبير أرثر رامبو. كما كتب القصة القصيرة في أوائل الخمسينيات، حتى إن العديد من كبار النقاد السينمائيين ذهب إلى اعتباره أديباً وفناناً ومفكراً ومناضلاً يسارياً. ويتضح ذلك جلياً في أسلوبه السينمائي. فهو نموذج للفنان السينمائي الذي يعبر عن رؤيته الخالصة للواقع من حوله، وللعالم الذي يعيش فيه، بأسلوب سينمائي متميز يمزج بين اللغة والشعر والقصة والفكر اليساري. ويعتقد بازوليني أن الكلمات رموز للواقع، ولكن السينما هي الواقع في ذاته. إن كلمة الشجرة من وجهة نظره، ليست هي صورة الشجرة المستمدة من الفوتوغرافيا، التي تجعلنا في مواجهة الواقع بكل تجلياته وتناقضاته، ودون أية إحالة، وهذا ما دفع بازوليني للانتقال من مملكة الشعر والقصة إلى سحر الصورة السينمائية.

بدأ بازوليني الذي ولد في العام 1922م العمل في السينما من خلال اشتراكه في كتابة سيناريوهات العديد من الأفلام، التي ينتمي بعضها إلى الواقعية الجديدة عام 1954م، إلا أن المخرج الإيطالي الشهير بدأ حين انتهت الواقعية الجديدة متخذاً مساراً خاصاً به منذ بداية أفلامه (المتسول وماما روما)، اللذان عبر فيهما عن رؤيته اليسارية الواضحة ضد واقع البرجوازية الإيطالية. فهو يصف نفسه بالماركسي المسيحي الذي اتخذ هموم الفقراء هاجساً له، غير أن بازوليني كان ينظر إلى هذا الواقع من زاوية أخرى، زاوية الصراع التراجيدي للرأسمالية الساحقة، في المجتمعات الحديثة. لقد لخص على نحو عبقري في أغلب أفلامه الصراع بين الماركسية، وبين الكاثوليكية في إيطاليا المعاصرة، بأسلوب أقرب إلى الشعر منه إلى الدراما، أو بالأحرى أقرب إلى الدراما في الشعر منه إلى الدراما في السينما.

بازوليني.. من سينما الواقع إلى سينما الأساطير

لقد كانت أغلب أفلام بازوليني الروائية الطويلة والتسجيلية القصيرة، مدخلاً إلى عالمه السينمائي الذي عبر فيه من خلال هذه الأفلام عن رفضه للواقع، ضمن رؤية واضحة وقلق مزمن، إزاء تناقضات الواقع وتضارب النظريات والآراء، والسياسيات حول هذا العالم الغامض. لكنه بعد فيلمه )طيور كبيرة وطيور صغيرة (اتجه بازوليني هرباً من الواقع المتناقض إلى الغيبيات. وقدم مساهمته الفريدة في التعامل مع تأنيس السيد المسيح من خلال فيلمه الكبير "إنجيل متى الثاني عام 1964م". وبدلك بدأت مرحلة جديدة من حياته الفنية، أثمرت مجموعة من الأفلام (نظرية وحظيرة الخنازير، وميديا وأروستيا، إفريقية وثلاثية الحكايات المشهورة، الديكاميرون وحكاية كانتريري، وألف ليلة وليلة(. وهي المرحلة التي أطلق فيها بازوليني العنان لخياله المبدع لاستلهام روائع المسرح اليوناني القديم (ميديا يوربيديس واروستيا ايسخوليس واوديب سفوكليس).

وقد جرت العادة عبر تاريخ الفنون التعبيرية أن يتجه الفنان إلى الأساطير الأدبية والفنية القديمة؛ إما لأنه يريد أن يعبر بها عن الواقع الذي لا يستطيع أن يشير إليه بصريح العبارة، لأسباب متعددة، قد تكون سياسية أو أخلاقية، أو عقائدية أو اجتماعية. كما في مسرحية (الكترا) التي كتبها (جان بول سارتر) إبان الاحتلال النازي لفرنسا. وفيلم (نساء طروادة) لـ(كاكوبانس) الذي أدان فيه الحكم العسكري في اليونان. وقد يكون اتجاه الفنان إلى الأسطورة من أجل إعادة تقديمها وتفسيرها وتأويلها وتحويلها من شكل تعبيري إلى شكل تعبيري متجدد، يتناسب مع طبيعة الحياة المعاصرة. ولكن بازوليني لم يلجأ إلى المعالجات المسرحية للأساطير اليونانية والرومانية القديمة من أجل التعبير عن الواقع بالرموز الأسطورية، ولا من أجل إعادة تفسير هذه الأساطير والأعمال المسرحية الكبيرة. ولكن قدمها للسينما من أجل تجديد عناء البحث الشاق عن الحقيقة الإنسانية المطلقة؟ لماذا؟ ومن أجل من؟ ومن المسؤول؟ وهل هذا ينطبق على فعل القتل كيف ما كان؟ وأين ما كان؟ ولأي غرض كان؟ فأسطورتي (أوديب وميديا) تتقطعان في جريمة القتل، قتل الابن لأبيه وزواجه من أمه، وقتل الأم لابنها، وهي جرائم تستفز المشاعر الإنسانية، وتدنس أكثر المحرمات تقديساً مند فجر التاريخ.

أوديب خارج التاريخ

تعتبر مسرحية (أوديب ملكاً) للشاعر الإغريقي (سوفو كليس) من أعظم الأعمال الفنية الأسطورية، وما زالت مصدر إلهام للعديد من الفنانين والمبدعين في مختلف الأشكال الفنية التعبيرية، كما لا تزال معطيات هذه الأسطورة ذات تأثير كبير في علم النفس التحليلي المعاصر؛ إذ استوحى منها عالم النفس (سيغموند فرويد) معطيات سيكولوجية مهمة، حول ظواهر نفسية، تتعلق بتأثر الابن بوالدته، في ما اصطلح عليه في علم النفس الفرويدي بـ(عقدة أوديب).

ولا شك أن (أوديب) بازوليني الذي أخرجه عام 1967م من أكثر تلك الأعمال أصالة في علاقتها بالمسرحية الأسطورية، بل تعتبر البداية الحقيقية للمخرج العالمي نحو الإبداع الفني في الأفلام التاريخية الأسطورية، برؤية إخراجية متشبعة بالمقدرة التحليلية للهواجس الإنسانية المقلقلة، فـ(أوديب) بازوليني ليس الحاكم المطلق، الذي أطلق سهامه إلى أبعد من المدى الذي وصلت إليه سهام الآخرين، وأحرز الرخاء التام والسعادة الكاملة، حسب نص (سوفو كليس)، وليس (أوديب) البطل الذي ظن نفسه ممثلاً للآلهة بعد أن اكتسب المعرفة، ولكن (أوديب) بازوليني هو إنسان عادي، وهذا ما يسعى إليه بازوليني في كل معالجاته السينمائية للأساطير وحتى للإنجيل، حينما جعل من المسيح ذاته إنساناً طبيعياً. والحدث الدرامي في (أوديب) بازوليني لا يتحقق من خلال مسار الانتقال التراجيدي للبطل من السعادة التامة إلى الشقاء التام، كما في معالجة سوفو كليس. ولكن (أوديب) بازوليني يبدو شقياً منذ البداية، أو محكوماً عليه بالشقاء، ولا مهرب له من هذا الحكم القدري. ويخلق بازوليني الحدث الدرامي من خلال محاولة اكتشافه سر هذا الشقاء.. ليس بالتوقع لمسار الأحداث والتنبؤ بالمصير المحتوم للبطل في روايات الكاهن؛ وإنما من خلال الصراع الوجودي في سعي (أوديب) إلى اكتشاف الحقيقة وما تمثله هذه الحقيقة بالنسبة إليه من التناقض المروع بين الإنسان وقدره المحتوم، فإذا كانت عظمة الإنسان تتجلى في بحثه عن الحقيقة؛ فإن مأساته تتمثل في مشقة إدراكه لتلك الحقيقة.

أوديب وتداخل الأزمنة الفيلمية

يبدأ بازوليني أسطورته السينمائية في زمننا المعاصر، فنرى من خلال نافدة ولادة طفل، ونستشعر طبيعة العلاقة القوية بين الأم والرضيع، ونستشعر أيضاً كراهية الأب الضابط للطفل حد محاولة القتل. وهنا يخرج بنا بازوليني خارج التاريخ إلى الماضي السحيق، حيث نرى الطفل معلقاً على عصا يحملها خادم من خدام الملك لايوس، متجهاً به إلى الصحراء ليلقي به لوحوش البراري. ولكن الخادم يشفق على الطفل، ويتركه لرجل يذهب به بعيداً إلى الملك (بيلويس)، والملكة (ميروب) التي أطلقت عليه اسم (أوديب) فيكبر الطفل ويترعرع. وذات ليلة يحلم حلماً مفزعاً. وفي طريقه إلى الكاهن لتفسير الحلم، يهتف به صوت نسائي ضاحك من تحت شجرة: لقد قدر عليك أن تقتل أباك وتتزوج أمك. ويقع الكلام عليه كالصاعقة، فيهيم في الصحراء، وعلى أبواب طيبة يقتل أباه الملك )لايوس( وحراسه، ويرى أهلها يفرون مذعورين من الوحش الخرافي (أبو الهول)، ويخبر بأن قاتل الوحش ومخلص طيبة من الرعب سيكون ملكاً عليها. ويتقدم البطل أوديب نحو الوحش (أبو الهول) فيقتله. فيكون بذلك قد فاز بعرش طيبة وملكتها. بعد قتل الوحش الأسطوري يشتد الوباء بطيبة وتتساقط الجثث، فيرسل الملك (أوديب) إلى الكاهن في معبد (دلفي) لاستشارته حول سبب اللعنة التي حلت بالمدينة؟ ليكون الجواب: أن سبب اللعنة هو رجل قتل الملك (لايوس)، ويعيش الآن في طيبة. فيأمر الملك (أوديب) بالبحث عن قاتل) لايوس( لكن دون جدوى. ويستدعي عراف طيبة (تيريسياس) ويطلب منه المساعدة في معرفة قاتل الملك، فيأبى العراف المساعدة قائلاً: ما الفائدة من معرفة الحقيقة، وبعد إلحاح (أوديب) وإصراره على معرفة الحقيقة يخبره العراف بأن القاتل هو أنت. إنك والد أبنائك، وأخوهم، وزوج أمك، وقاتل أبيك.

تحكي الملكة (جوكاستا) لـ(أوديب) عن العرّافة التي قالت: بأن ابن الملك سيقتل أباه، مما دفع الملك (لايوس) إلى الإسراع في قتل ابنه. ولكن (جوكاستا) لا تصدق هذا التفسير؛ لأنها كانت تعتقد بأن الابن قد قتل، وتقرر الذهاب إلى الصلاة. وفي هذه اللحظات التي يتحرى فيها (أوديب) الشقي عن الحقيقة، يصل خبر وفاة الملك (بيلويس)، ومبايعة (أوديب) ملكاً على (كورنت). ويجد (جوكاستا) قد شنقت نفسها في غرفة النوم، وتحت قدمي أمه وزوجته يفقأ (أوديب) عينيه، ويتحسس طريقه إلى الخارج، فيعطيه أحد الشباب ناياً يعزف عليه:
 أيها النور
 إنها المرة الأخيرة التي تشرق فيها علي
 لقد أغلقت الدائرة
 وانتهت الحياة كما بدأت

وهنا يعود بنا بازوليني إلى عصرنا الحاضر؛ ليظهر لنا أوديب رفقة الشاب في شوارع روما المعاصرة، بين المصانع، يعزف على الناي، ولا أحد يستمع إلى لحنه الحزين.

إيقاع التركيب الصوري في أوديب ملكاً

يستلهم بازوليني حركة الكاميرا وزوايا التصوير في فيلم أوديب من طبيعة العلاقات بين الشخصيات، ومن طبيعة الأحداث المتداخلة والمتراكبة، فمن اللقطة العامة التي تجمع أوديب وزوجته الملكة جوكاستا في غرفة النوم إلى لقطة لجثة مشوهة.. تشير إلى جثة الملك الأب، تتبعها مجموعة لقطات لجثث كثيرة تعبر عن الوباء الذي اجتاح المدينة. وعودة إلى المشاهد الحميمية في غرفة النوم، ثم إلى لقطة لجنازة جماعية لضحايا الوباء.

وفي المرة الثالثة يقطع بازوليني إلى منظر المدينة الخالية الصامتة إلا من أصوات البكاء والعويل.. واستخدم بازوليني هنا القطع السريع المتواتر بين ما يقع في سريره الملكي، وبين الكوارث واللعنة المتربة عن الإثم الأكبر. من خلال تركيب فكري متواز، يربط بين فعل الجريمة والعقاب، وبين الشعور باللذة والألم؛ لأن بازوليني يهدف إلى مخاطبة عقل المشاهد واستثارة مشاعره. كما في مشهد الحركة الدائرية لأوديب ويديه على عينيه الداميتين، في دلالة لفقدانه التوازن النفسي والعقلي. كما استعان بازوليني بالشريط المكتوب أسفل الشاشة، كما عهدنا استخدامه في أفلام السينما الصامتة، للتعبير عن الانتقالات في الزمان والمكان والفصل بين المشاهد. كما استخدمه المخرج هنا من أجل تدوين الاقتباسات الحرفية من الأسطورة الأصلية، بالإضافة لكون الشرائط المكتوبة تعبر عن المنولوج الداخلي –الحوار الداخلي للشخصيات– كما استخدم بازوليني في أوديب اكسسورات وملابس لا تنتمي إلى أي حقبة تاريخية محددة. حتى الديكورات المستخدمة كانت ترمز إلى تعاسة الأقدار، كما في حديقة أوديب الصحراوية التي تعتبر من أكثر الحدائق الملكية كآبة على الإطلاق. وإذا كانت بداية فيلم أوديب من أكثر المشاهد شاعرية في أفلام بازوليني؛ فإن نهايته تكاد تكون الصرخة المدوية، في الواد الكئيب المهجور. مما يكثف غموض العالم، ويعيد طرح السؤال العقيم من المسؤول؟ فأوديب قتل والده وتزوج أمه الملكة، وفقاً لبدعة قدرية لم يكن أوديب هو السبب فيها أو المسؤول عنها2:
 هكذا أنا لم أر الشر الذي عانيت منه
 وفي نفس الوقت فعلته
 وفي الظلام أنا لم أشاهد الذي لا يجب
 أنا لم أميز الأشياء التي لا أريد تميزها.


1. الواقعية الجديدة حركة ثقافية سينمائية ظهرت في إيطاليا في فترة الحرب العالمية الثانية، وتعتمد التصوير المباشر والبسيط لمعاناة ما بعد الحرب والدمار والفقر والبطالة. وتميزت بخاصيتين أساسيتين التصوير الخارجي في المناطق الشعبية - البلاطويات المفتوحة، واستخدام ممثلين هواة، وسرعان ما انتشرت هذه الحركة في جميع أنحاء العالم.
2. توفي بير باولو بازوليني عام 1975م قتلاً بسيارته قرب مدينة روما، وما زالت ظروف قتله غامضة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها