شين كونوري.. بطل أفلام جيمس بوند

محمد ياسر منصور



في سِنّ (77) سنة، اعتزل الممثل الأسكتلندي الأكثر إثارة في العالم عالَم التمثيل اعتزالاً نهائيّاً، وأصبح يمضي أيامه السعيدة في "جامايكا". إنه يحب شكسبير، ويحب الجَدَل والنقاش، ويرفع عقيرته بالاحتجاج.. ويكره الضرائب والحَماقات، ويحب الصَّمت، وهو سيِّد نفسه وله أسلوب ساخر.


ذاك هو الممثِّل المشهور "شين كونوري"، الذي يُمضي أوقاته في "جامايكا" ممتطياً دراجته الهوائية، ويؤجِّر صوته أحياناً لتمثيل أفلام الصور المتحركة وبرامجها، ويجلس على الشاطئ متأمِّلاً الشمس وهي تغرب في بحر كنغستون مرتشفاً شيئاً من البيرة التي أعدَّها أخوه "نيل" في أدمبرغ. لقد تَقاعَدَ في سِنّ الـ(77) سنة. إنه مَلِكٌ في المَنفى، الذي يحلم برؤية اسكتلندا حرَّة، ولا يجرؤ أحد في حضوره على إطلاق نكتة أو طُرفة تَمسّ الاسكتلنديين. إنه شامخ، وشموخه هذا يفرض الصَّمت، فَنادراً ما كان الناس يتكلمون وهم يرونه يتجوَّل في الحقول، ذلك أنَّ "شين كونوري" يفرض شخصيَّته على مَن حوله.
 

وفي فيلم "الإهانة" لمخرجه سيدني لوميت (أُخرج في العام 1972، ومُنِعَ عَرضه في فرنسا آنذاك لكنه يُعرض الآن)، يُجسِّد شين كونوري دَوْر شرطي يستجوب رجلاً شاذاً يميل جنسياً نحو الأطفال. لقد استشاط غَيظاً وشَعرَ بنيران الحقد تعتمل في داخله فَأَسلم نفسه لحقد رهيب، فهو يقول: "كان العنف يُرعبني دائماً.. إلاَّ إذا كنتُ على أرض ملعب الغولف، فأنا أحب ضَرب الكرة الصغيرة دون أن تُدافع عن نفسها...". إنه يُمضي الجزء الأكبر من حياته على المروج الخضراء، مُنتعلاً حذاءً مُدبَّباً وكَنزة تُثير الضحك، وفي جيبه بضع كرات للغولف. فَغالباً ما كان "شين كونري" يلعب ألعاباً مُثيرة للاهتمام.

لقد كان هذا الاسكتلندي يحب المال كثيراً، وهو الممثِّل الوحيد الذي كان يمتلك مكتباً للمحاماة يعمل طوال الوقت، فهو يقول: "في الوقت الحاضر، حيث يتم توقيع أحد العقود، يتعرَّض المرء للاختلاس"، وهكذا تسبَّب في إفلاس أحد الاستديوهات الكبيرة -وهو استوديو الفنَّانين المتَّحدين- وأرغم بعض المنتجين على التسوُّل بعد أن كانوا مُنتجين متغطرسين، ذلك أن شين كونوري لا يحترم من يتعامل معه؛ وكأنه أَبلَه يمكن غَشّه بسهولة. ويُورِد مثالاً على ذلك فيقول: "عندما عامَلوني على أساس أنَّني قبَّة مستديرة منتفخة أو جَزمة جلدية، وَجدتُّ أن السيناريو كان مضحكاً وهَزلياً، وعندما شاهدتُ الفيلم بعد المونتاج، صَدِّقني، لو أنَّ بِيَدي الأمر، لَكنتُ قَتلتهم...". إنه مُنهِك، وشخصية "جيمس بوند" التي عَبَدتها الجماهير لم تمنحه أو تُورثه هَوية العميل السرِّي "7".. التي تُتيح له تقطيع أوصال الأشرار أو تقسيمهم أو تبديدهم. والقَول الحَقّ، هو أنَّ هذا الممثِّل كان يُبدي ضيقَه ونَفَاذ صبره -بل كان يُبدي أيضاً عَطفه- حِيَال ذلك الـ"جيمس بوند العجوز الطيِّب"، الذي دَفعَ به إلى صفوف النجومية، فيقول ضاحكاً: "أوشكتُ أن أَسقط في الامتحان".
 

في الحقيقة، في العام (1962)، عندما تقدَّم "شين كونوري" لتمثيل دَور "جيمس بوند"، لم تكن لديه خبرة كافية رَغم سِنِّه، فقد كان عمره آنذاك (31) سنة. وكان يعمل في توزيع الحليب (عندما كان عمره 8 سنوات)، ثم عَملَ بحَّاراً في البحرية الملكية البريطانية (وكان عمره 16 سنة)، ثم عَملَ في تدهين التوابيت، ثم مستخدماً جوَّالاً، ثم لاعِب كرة قدم، ثم في أعمال البناء، ولا يمتلك غير كتاب واحد لـ(ستانيسلافسكي)، ودرَّاجة نارية (رويال إنفيلد).

وقد خَطَر له أن يعمل حامِل بَلطة مركَّبة على رمح في إحدى المسرحيَّات الموسيقية، بل بَطلاً في التمثيل! نعم كان يحلم بذلك. كان كاتب سيناريو فيلم جيمس بوند "إيان فيمنغ" يُلقي نَظرة على هذا الاسكتلندي رَثّ الثياب، ويصيح "لا" رَافِضاً إعطاءه الدَّوْر، غير أن "كوبي بروكولي" مُنتج فيلم "جيمس بوند ضد الدكتور نو" أَصرَّ على قَول "نعم"، وقبول هذا الاسكتلندي.

ويقول "إيان فليمنغ": "أُريد كاري غرانت"، لكنه بروكولي يقول "شين كونري"، فَيردّ فليمنغ: "لكنه صعب للغاية"، ويردّ شين كونري الذي نَفَدَ صَبره بِضَرب الطاولة بقبضة يده. الأمر الذي جَعل الطاولة تهتزّ وتَميد، وجَعلَ فليمنغ يضطرب أيضاً. وفي النهاية، أخذ كونوري الدَّوْر. أَمَّا أَجره فكان بائساً جداً (16500) دولار. وفيما بعد تَجاوَزَ أجره الستة ملايين دولار. وعندما يسأله أَحَد اليوم إن كان يقبل تمثيل دَوْر والد جيمس بوند؛ فإنه يتردَّد ويقول مُظهراً رُعباً مُفتَعلاً: "أَتريدني أن ألعب دَوْر والد... روجر مور"؟

ولقد مَثَّل (60) فيلماً، بعضها كان رائعاً.. فقد مَثَّل دَوْر "أغامنون" في فيلم "عصر قطَّاع الطُرق"، ومَثَّل دَوْر "رامبرز" الخالد في فيلم "هايلاندر"، ولَعبَ دَوْر شرطي إيرلندي في فيلم "النزيهون"، وحصلَ فيه على جائزة "الأوسكار"، ومَثَّل دَوْر "روبن هود" في فيلم "الوردة والسهم"... وكان قائد غوَّاصة في فيلم "أكتوبر الأحمر"، وعَمل مع هيتشكوك في فيلم "مارني"، وجَسَّد مؤخَّراً دَوْر أستاذ في فيلم "اعثر على فورستييه".

فهل هذه هي نقطة النهاية لعمل كونوري في مجال السينما والتمثيل؟ سوف نعلم ذلك. فعلى الصعيد الرسمي، لم يظهر في مقدمة فيلم "إنديانا جونز 4" الذي يصوِّره ستيفن سبيلبرغ حالياً. لكن ثمَّة إشاعات بأنه يمكن لشين كونوري أن يظهر في الفيلم ليشدَّ أسماع الصبي الوَقِح، الذي هو "هاريسون فورد". والجواب على هذا كله سيأتي عند عَرض الفيلم.
 

يقول كونوري بكثير من الضِّيق والحَسرة: "لقد تركتُ المدرسة في الثالثة عشر من عمري". لكنه على اتصال وَثيق بالتعليم، فهو يُسهم في تقديم الأموال والمعونات والتبرعات للتعليم، ويُناضل من أجل أن يُتاح التعليم للجميع. وهذا هو الجانب الخَيِّر فيه. فهو يحبّ أن يتمكَّن الجميع -وفي مقدمتهم الأطفال الاسكتلنديون- من التعلُّم. التعلُّم، نعم؛ إنه الكلمة الفَصل ولا شيء يعلو عليها. يقول كونري: "عندما قبضتُ أوَّل أجر ضخم لي، أَقدمتُ على أمرين: اشتريتُ كُتباً...". وماذا أيضاً؟ يقول: "اشتريتُ سيارة جاكوار مستعملة، ويبدأ بالضحك.

لقد جاءَت بعد ذلك حياة الخنفسة وسقوط النيازك البرَّاقة، وتاريخ الفنّ التكعيبي، ثم باعَ سيارة الجاكوار لكن ظلَّ محتفظاً بِسِحر المعرفة والنَّهم نحو التعلُّم. ومن وراء شخصية الممثِّل النجم، يمكنك أن تستشفّ بقاء شخصية صَبي الشوارع، أو أطفال حَيّ مونمارتر في باريس (وهو حَيّ شعبي مشهور) لكنهم أطفال اسكتلنديون. لقد احتفظَ بشيء هام وهو انعكاسات البؤس الذي عاشَه صغيراً. وعندما يخرج من بيته، وقبل أن يُطفئ الأنوار، يتأكَّد "شين كونوري" من أنه قد أغلق الصنابير جيداً حتى لا تُهدَر المياه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها