إدغار موران.. في أحدث حوارٍ له في ذكرى ميلاده المائة

"الشباب هم الفاعل الأساس في التاريخ"

ترجمة: نبيل موميد

حوار: غيوم إيرنير

 

 بمناسبة دخول عالِم الاجتماع "إدغار موران – Edgar Morin" عامه المائة، أجرت معه محطة "فرنسا الثقافية" هذا الحوار منتصف شهر فبراير الماضي (وبالتحديد في الـ 11 من فبراير 2021)، وخصّصه بالكامل لمناقشة دور الشباب في إحداث التغيير داخل مجتمعاتهم، وأهمية انخراطهم المجتمعي الواعي في زمن الكوارث والجوائح، لاسيما أنهم يُمثِّلون الأمل في مستقبل مشرق قد يجنب عالمنا التداعيات الخطيرة لما يجري فيه حالياً.
  

من أجل التفكير، إذن، في شباب الأمس وشباب اليوم، كان هذا الحوار مع "إدغار موران":


 

 هل من الضروري أن أؤكد أنك عالم اجتماع؟ ولكن ما أراه حقيقاً بالذكر أنك من أكثر الشخصيات المثقفة حضوراً في التويتر؛ بحيث يتابعك أزيد من 100000 شخص. كيف جاءتك فكرة الانخراط في هذه الوسيلة التواصلية؟

نُصِحت به، واعتبرته فرصةً بالنسبة إليَّ من أجل استعراض أفكاري الأساسية بشكل مكثف ومختصر وواضح؛ كأننا أمام شكل من الأمثال أو الحِكَم؛ وهو ما يذكر بِحِكَم "لاروشفوكو" (Les Maximes de La Rochefoucauld)، أو بـِطبائع "لابرويير" (Les Caractères de La Bruyère). بعبارة أخرى، أعتبر "تويتر" ساحة للتبادل الفكري على غرار أغورا اليونانية، التي كانت في الماضي متنفساً لتواصل الفلاسفة مع الشعب وكل مُحبي المعرفة والحكمة، وحتى مع من يَسْخرون منهم ويستخفّون بأفكارهم. إن تويتر بالنسبة إليَّ وسيلة للإدلاء بدلوي في القضايا المطروحة للنقاش على الساحة العمومية. وبالتالي، فهو وسيلة من الوسائل التعبيرية المستجدة -رغم أنها لا تكون دائماً منظمة، وتنحو في الغالب ناحية العفوية والتعبير الحر- حتى إن ناشري عازم على انتقاء عدد من تغريداتي ونشرها بين دفتي كتاب.
 

 لطالما اهتممت بالشباب، حتى إن أول كتاب أصدرته في علم الاجتماع غداة الحرب العالمية الثانية، كان حول شباب فرنسا سنوات الخمسينيات وانفتاحهم على الحداثة. ماذا يمكنك أن تقول عن هذا الموضوع؟

من أكثر ما أثارني، وأثار انتباه العالم برمته، سنة 1963 هو ما يسمى بـ"ليل الأمة"؛ وهي محطة إذاعية كانت تذيع برنامجاً ذائع الصيت بين المراهقين بعنوان: "أهلاً أيها الرفاق"، وعبره انتشر فن الروك الأمريكي بين الشباب الفرنسي وأثَّر فيهم بقوة. وقد حدث أن نظم هذا البرنامج حفلاً ساهراً بهيجاً، عجَّ آنذاك بالمراهقين والشباب، غير أنه انقلب إلى فوضى عارمة، وأعمال تخريب للممتلكات العامة، واعتداءات جسدية على الناس.

في هذا السياق، اتصل بي رئيس تحرير جريدة "العالَم – Le Monde"، محاولاً معرفة إن كان بإمكاني أن أحلل هذه الظاهرة وأُشَرِّحها؛ خاصة أن المشتغلين في علم الاجتماع آنذاك لم يكونوا يولون أية أهمية لسوسيولوجيا الفئات العمرية، بل كان عملهم منحصراً فقط في سوسيولوجيا الطبقات الاجتماعية. ومن منطلق حبي للسينما واهتمامي بها معرفياً، لاحظت ظهور بعض الأبطال السينمائيين الذين شكلوا نماذج بالنسبة للمراهقين والشباب، بوصفهم يمثلون في نفس الآن أشخاصاً معارضين ومتمردين، ولكنهم أيضاً يوحون بحنان دافق؛ من أمثال الأمريكيَيْن "جيمس دين – James Dean"، و"مارلون براندو – Marlon Brando".

وهكذا، طَفَت على السطح فئة عمرية تتموقع بين نهاية مرحلة الطفولة، وبداية مرحلة الرشد، لها أخلاقها الخاصة، وطرائقها المختلفة في اللباس والكلام، بل إنها حاولت أن تعبر عن نفسها وعن وجودها؛ وهو الأمر الذي كان مستجداً آنذاك؛ بالنظر إلى أننا لم نكن نتحدث عن هذه الفئة، وكنا نعتبر أن المرحلة التي تلي الطفولة هي الرشد. لقد كان المراهقون يمثلون الفئة المجتمعية المنفتحة على الحياة والمقبلة عليها بقوة ونهم.

ولا يمكنني أن أتحدث عن هذا الموضوع دون استحضار أحداث ماي 1968، عندما كنت أعوض أحد الأساتذة من أصدقائي في تدريس الطلبة؛ حيث عايشت حِراكاً شبابياً قوياً؛ كانوا يرفضون من خلاله تدجين الدولة لهم، ويعارضون الأنساق التي يقيمها الراشدون داخل المجتمع ويحثون على الامتثال لها.
 

 في شبابك، خلال الحرب العالمية الثانية، كنت منخرطاً في صفوف المقاومة الفرنسية ضد النازية. ما الذي كنت تبحث عنه آنذاك؟ وهل كنت تحارب بوصفك يسارياً، أو، ببساطة، باعتبارك إنساناً؟

في تلك الفترة، انتابني إحساس بوجود تعارض بين "الحياة" و"البقاء على قيد الحياة". أما "البقاء على قيد الحياة" فكان يعني بالنسبة إليَّ أن أتوارى عن الأنظار؛ أن أجد مخبأ بعيداً عن الخطر؛ وقد توفرت لدي إمكانية ذلك. وأما "الحياة" فكانت تعني أن أخاطر بحياتي. ورغم المخاطر التي كانت تحدق بنا آنذاك، إلا أنني كنت أشعر بالراحة والتناغم مع ذاتي.

أما بالنسة إلى شباب العصر الراهن فمقاومتهم تختلف، وتنهج سبلاً مغايرة لا شك في هذا؛ فقد قاوموا ابتداءً الاستسلام والخنوع، ثم وقفوا في وجه القدر؛ وهي مغامرة رائعة ومذهلة ستغير في المستقبل مصير الإنسانية ككل. فمنذ سنة 1970، أُطلقت صافرة إنذار في مختلف أرجاء عالمنا محذرة من أن الكرة الأرضية أصبحت على شفا هاوية؛ ولا نقصد بذلك أن الأمر يتعلق باستمرارية الحيوان والنبات الضروريين من أجل معيشتنا؛ وإنما يرتبط الأمر بالحياة في حد ذاتها؛ ذلك أن لهاث الشركات الكبرى وراء الربح بدون رادع لها أفرز معضلة التلوث البيئي، التي لم تعد مقتصرة على الجانب الصناعي، بل إن الزراعة تُلوِّث، والمدن تلوِّث، والتكنولوجيا تلوِّث... وإذا تشكل لدى الشباب وعي بكل هذه الإشكالات، وبمخاطرها على الكرة الأرضية وعلى الإنسان، فسيبادرون من أجل إيجاد حلول ناجعة وفعالة لمواجهتها.

من ناحية أخرى، فرغم أن تأثير الجائحة (وباء كورونا) محدود على الشباب مقارنة بكبار السن، إلا أنهم أيضاً في وضعية حرجة؛ لأنهم محبطون بسبب توقف حياتهم الدراسية، والجامعية، والمهنية... (بسبب ظروف الحجر الصحي). لهذا السبب فهم يحسون بأنهم ملزمون بالمشاركة في إيجاد حل لهذه الآفة وانعكاساتها. لقد اتخذ العالم، من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، مساراً كارثياً، ودخل في طريق مسدود؛ لهذا السبب من المفروض تغيير هذا المسار؛ ولعمري هذه مهمة الشباب.

وأنا أعتقد جازماً أن الشباب هم المحرك، على مر التاريخ، لكل التغيرات المجتمعية؛ فأهم ثورات القرن التاسع عشر تمت بأيدٍ شابة، زد على ذلك أننا، نحن، عندما كنا منخرطين في حركة المقاومة ضد المحتل النازي، كنا شباباً تتراوح أعمارهم بين عشرين وثلاث وعشرين سنة؛ وحتى قادتنا كانوا بين الثامنة والعشرين والثلاثين... الشباب، إذن، هم الفاعل الأساس في التاريخ.

وعليه، فعلى الشباب أن ينخرطوا في سيرورة التغيير نحو الأحسن، وأن يشتغلوا على ذواتهم لإخراج أفضل ما فيها، وأن يركزوا أكثر على قيم الإيخاء، والتعاون، والتلاحم الأسري، والتضامن المهني... التي تدهورت بشكل مهول في مجتمعاتنا المعاصرة. هذه هي الأمور التي إن ركز عليها الشباب ستغير حياتنا نحو الأفضل.
 

 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كنتم مجموعة من الشباب الناجين من ويلاتها. كيف كان شباب تلك الفترة؟ وفي ماذا كنتم تفكرون آنذاك؟

كنا نحلم بعالم أفضل، وبمجتمع يضمن حقوق أفراده ورخاءهم، غير أن هذه الآمال تبخرت مع الحرب الباردة على المستوى الدولي، ومع انشغال كل واحد بمشاكله الشخصية وهمومه اليومية على المستوى الداخلي. لقد عاش كل واحد منا مغامرته الحياتية الخاصة (البعض اهتم بالسياسة، والبعض الآخر بعالم المال والأعمال...).

طيلة حياتي كان يرافقني الأمل في "غير المحتمل"؛ لأن الواقع والتاريخ يرويان لنا أن ما يحدث يكون في الغالب غير متوقع، ومخالفاً لأفق انتظار المجتمع. ومن ثمة، فالتاريخ يشهد أن عدداً جمّاً من الوقائع غير المنتظرة غيرت وجهه وبدَّلت مساره.

ورغم أن جميع الاحتمالات والمؤشرات الحالية تعلن بوضوح أننا نمضي رأساً نحو الكارثة، إلا أنني أظن أن المسألة قد تتغير بفضل الشباب المتحمس، خاصة في ظل فترات الحجر الصحي التي ستتيح لهم -بشكل ذاتي- تشكيل وعي متكامل بمشاكل الواقع، من خلال قراءة الكتب والاطلاع على المؤلفات الهامة. أنا، مثلاً، كَوَّنت نفسي بنفسي، من خلال الانكباب على مطالعة إنتاجات كبار الكُتَّاب من أمثال "مونتيني"، و"دوستويفسكي"، و"باسكال"، و"روسو" وغيرهم كثير. كما يمكن لمعالم وعينا أن تتشكل من خلال الانفتاح على مختلف الفنون، كالسينما، مثلاً، والموسيقى؛ وهي الأمور التي بنت شخصيتي الفكرية، وأينعت بِذرات أفكاري، ومنحتني متعة الحياة.

إن هذه الفترة مهمة في تكوينكم معشر الشباب، لا تتركوها مؤثثة بالفراغ، وعرضة للضياع. من المفروض عليكم أن تُقبلوا على تثقيف أنفسكم، حاولوا اكتشاف حقائقكم الخاصة، واجعلوا روابطكم مع أهاليكم وأصدقائكم متينة، ولا تنسوا أن توجِدوا لأنفسكم مكاناً في العالم الاجتماعي حتى تكونوا في صلب هذه المغامرة التي ترتبط بها مصائركم.

تعيش الإنسانية لحظات خطيرة للغاية، لكنها تحمل في طياتها إمكانية تجاوزها؛ لذلك لا يجب أن نكون عُمياً أو أن نغرق في التشاؤم، بل يجب أن نكون حاضرين؛ لأن الأمر يتعلق بحياتنا وبمصيرنا الجمعي. ولا ننسى أن الجائحة أبانت تضامن جميع شعوب العالم في سبيل محاربتها؛ وهذا يذكرني بما قاله "مونتيني": "في كل شخص [كيفما كانت جنسيته] أرى مُوَاطناً لي"، وأنا أقول: "إن من واجبنا حماية أوطاننا، بَيْدَ أننا جميعنا أبناء وطننا الأكبر "الأرض"؛ لذلك يجب أن نحميها وأن ندافع عنها".


مصدر الحوار المترجَم
www.franceculture.fr/emissions/linvitee-des-matins/edgar-morin-cinq-fois-20-ans

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها