السرد وتمثيل الاختلاف؟!

رواية "هذا الأندلسي" نموذجاً

سعيد الفلاق



 

يأخذ السرد في رواية "هذا الأندلسي"، التي تتحدث عن شخصية الصوفي عبد الحق بن سبعين موقعاً ثالثاً، مترفّعاً عن إقصاء الآخر، أو الاعتراف بأفضلية جنس على جنس أو عرق على عرق. على هذا الأساس سعى السارد من خلال خطابه وحواراته إلى خلق "موقع ثالث" بلغة هومي بابا، موقع يسع الجميع، ويؤمن بالاختلاف؛ لأن الكل متورط في صنع هوية لا تنبني أساساً على الانسجام بقدر ما تتأسس على الهجنة؛ "ذلك أن الهجنة، والتجاذب والانشطار، والاختلاف الثقافي (لا التعددية الثقافية) تشق الهوية، وتجعلها ضرباً معقداً من التقاطع والتفاوض بين فضاءات مكانية وزمنيات تاريخية". ولقد استطاعتْ الأندلس بما كانت تعرفه من هُجنة بناء مجتمع تتعايش فيه كل الأجناس، وتأتلف حول مَعين المعرفة قبل أن يتحوّل هذا الاختلاف إلى أداة للصراع والطرد والترهيب، والاستعباد ونبذ كل اختلاف. وتقف رواية هذا الأندلسي عند نوعين متقابلين من تمثيل الاختلاف؛ الأول قائم على التعايش والمثاقفة الحرة، والثاني يستند على نفي الآخر وقتله وتهجيره قصراً.


 

1. تمثيل ثقافة التعايش

تعود الرواية في تمثيلها لحقبة تاريخية مفصلية، إلى الوقوف عند أحد أهم ما ميّز حضارة الأندلس لفترة طويلة، قبل تداعي الحكم وانهيار الوجود الإسلامي. ويتمثل هذا الأمر في ذلك التعايش والانسجام والتكامل بين المسلمين واليهود والمسيحيين، الذي كان يقوم على احترام حرية المعتقد، وإقامة علاقات إنسانية مشتركة إيماناً بأنه: "لا توجد ثقافة منفردة ونقية محض، بل كلها هجنة مولدة، متخالطة، متمايزة إلى درجة فائقة"، كما يقول إدوارد سعيد. فالإنسان لا يمكنه العيش إلا ضمن هذا الاختلاف. ولذلك حاول السارد إبراز هذا التعايش، نقرأ: "أنا وهذا يهوديّان، وهذا وهذا من قوم عيسى، وهؤلاء مسلمون مثلك. سلهم كيف عشنا وأهلنا في رقُوطَة، وأمثالنا كثيرون في القرى والمدن الأخرى... سلهم بربّنا سلهم". تعالت الأصوات شاهدة: "والله كأسنان المشط"، "كأصابع اليد الواحدة"، "نتبادل العون والنصح، نتقاسم الحياة حلوّها ومرّها" [ص: 101].

يكشف هذا النص عن تكامل الديانات الثلاث على أرض واحدة، وانسجامهم مع بعضهم البعض بعيداً عن الصراعات المذهبية القاتلة، أو عن التعصبات التي تنظر للهوية بأفق ضيق يبيح لها الوجود، وينفي ما عداها. بل إن التعايش كان يشمل جميع مناحي الحياة. "وهفونا معاً بكل جوارحنا والتحامنا إلى تقصّد الألباب دون القشور، وتلطيف التضاد والخلاف، حتى صارت بقرآني تستشهد، وصرتُ بصحيح توراتها أذكّر، ولا مسعى لنا ولا مطمح إلا نعيم الإحاطة وحسن التجاذب" [ص: 39]. ونلحظ هنا شدة التقارب والتساكن بين جنسين أحدهما مسلم والثاني يهودي، دون أن يحيل بينهما تباعد المعتقد في إيجاد لحظات الوصال.

صفوة القول؛ إن الأندلس قدّمت نموذجاً متميزاً لفكر يستوعب الخلافات والصراعات التي تضعف الأمم، غير أنها مع ذلك لم تستطع الصمود كثيراً، إذ سرعان ما انقلبت المبادئ المشتركة، وساد الاضطراب في مناطق واسعة من الأندلس، كان ذلك تمهيداً للقضاء على ذلك الاختلاف بشكل يكاد يكون نهائياً.

2. تمثيل ثقافة التهجير والإقصاء

إذا كانت الأندلس مثالاً يستحق أن يدرس في ثقافة الاختلاف؛ فإنها أيضاً مثال ينبغي أن نقف عنده في الصراع الديني والتعصب، والتشرذم وغلبة القوة واندحار الاختلاف، لاسيما خلال أواخر القرن السابع الهجري، وبداية الثامن أمام تعاظم المد المسيحي، وتقلص قوة المسلمين في الغرب الإسلامي عموماً. فتصاعدت مشاعر الكره والتهجير. "فيمّم وجهة التأمل في هذا البلد النازف المكلوم وسكّانِه الهلعين، النازحين قسراً وكرهاً، وأنا منهم، ولو أن من يطردني هم من بني جلدتي، وملّتي، والعياذ بالله" [ص: 95].

يعالج هذا المقطع كما هو ظاهر نوعين من الطرد؛ الأول يمارسه النصارى، والثاني تمارسه سلطة المسلمين الحاكمين في المناطق الأخرى ضدّ كل من يخالفهم الرأي. لكن ما إن تتلاشى سلطتهم حتى تعلو حدّة الطرد والترهيب، ويصبح السقوط المحتوم وشيكاً "أنا المحكوم عليّ بإفراغها مع المهجّرين أفواجاً أفواجاً" [ص: 115].

بناء على ما سبق؛ نقول مع بول ريكور بأن السرد حارس للزمن، فبواسطته نتمكّن من القبض على اللحظات التاريخية المتوارية، كيفما كانت هذه اللحظات، ذلك أن "الزمن المروي" إضافة إلى الفعالية التخييلية، ينتج حبكة تجعلنا نقترب أكثر من الحقبة التي يقف عندها الروائي. ولا ريب أن بنسالم حميش يعيد تخييل تاريخ مشترك، وما ابن سبعين إلا نتاج لهذا التاريخ، كما أن رواية هذا الأندلسي حلقة مضيئة تنضاف إلى الروايات العربية ذات التوجه التاريخي. وغني عن البيان أن نقول بأن الروائي يستثمر ما تتيحه المكتبة التاريخية من مؤلفات، لكنه ينزاح عنها بتوظيف الخيال.

من هذا المنطلق، لا يمكن أن نقول بأن الرواية تمثل التاريخ بأمانة تبعاً لمعطيات التاريخ نفسه، فهي وإن كانت تعالج المحطات الكبرى لحياة ابن سبعين إلا أنها تتعدى الشخصية التاريخية من حيث إنها ذات عاشت في الماضي إلى جعلها شخصية روائية تشعر وتحبّ وتتكلم، وتتنفّس من جديد وفق حقيقة سردية جديدة. ولعل هذا ما قصده غويتيسولو بقوله: "إننا نعلم من سرفنتيس أن الرواية هي مملكة الشك، فادّعاءات تاريخ مؤسّس عادة على حكايات وأفعال خرافية (مصطنعة)، تعارضها الرواية بحقيقة الخيال الخلاق، وأمانة العمل المتحرّى من الأقنعة، ومن مهازل كل أسطورة مرفوعة إلى سدّة الحقيقة الدوغمائية المتفشية" [مقدمة رواية مجنون الحكم، ص :7] فحسب هذا الفهم، فالرواية خطاب خاضع لسلطة الخيال المنفلت من سلطة القوة التي حرّكت أغلب المؤرخين. لذلك فهي تنتج سرداً مناقضاً لسرديات السلطة والفقهاء، وما رواية هذا الأندلسي إلا مثالاً لذاك السرد البديل، الذي يعيد الاعتبار لابن سبعين وفكره بعيداً عن تكفير الفقهاء وجور الحكام ونسيان التاريخ.

يَتَبدّى من خلال ما سبق، أنه تم تسريد ذات ابن سبعين وفق منظور يُموقع الرجل في عصره، ويعيد النبش في ذاكرة التاريخ المليئة بالأحداث والصراعات، حيث قام السرد في الرواية على استراتيجية خطابية نقيضة تقف سدّاً منيعاً في وجه السلطة السياسية والدينية آنذاك، محاولاً فسح المجال لإبراز النموذج الصوفي الذي كان طوال التاريخ الإسلامي موطن جدل واسع. فضلاً عن أن النص يثير أسئلة أكثر إلحاحاً تتقاطع مع الحاضر، الأمر الذي يجعل التاريخ ها هنا درساً لفهم الواقع والتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً، من زاوية فهم أخطاء الماضي وتجاوزها من جهة، ومن زاوية بناء هُوية سردية تضطلع بمهام النقد والتنوير، والتأكيد على المثقف الواعي بالأخطار المحدقة بالهُوية المشتركة العامة التي ينبغي أن تشكل مصدر قوة لا ضعف.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها