الخلاص بالكلمات

اللغة كوسيلة للحقيقة و الفن كقوة مقاومة للاستبداد

ترجمة: طارق فراج

بقلم: مـاريا بوبـوفا
 


آيريس مردوخ (معرض الصور الوطني - نيويورك)

 

كتب "ألبير كامو"، في أواخر الخمسينيات، وهو يفكر في دور الفنان كصوت للمقاومة: "إن الإبداع اليوم هو أمرٌ خطير". "في عصرنا"، لاحظ "و. ه. أودن"، في الوقت ذاته تقريباً، على الشاطئ الآخر من الأطلسي: "إن مجرد صُنع عمل فني هو في حد ذاته عمل سياسي". هذا الواقع غير الرحيم للثقافة الإنسانية قد صدم وأذهل كل فنانة سعت إلى إحداث تقدم ورفع مستوى مجتمعها بنقطة ارتكاز فنها، لكنها حقيقة أساسية لكل عصر وكل مجتمع. بعد نصف قرن من كامو وأودن، قام تشينوا أتشيبي بتقطير جوهرها المثير للقلق في محادثته المنسية مع جيمس بالدوين: "أولئك الذين يقولون لك "لا تضع الكثير من السياسة في فنك" ليسوا صادقين. إذا دققت النظر، سترى أنهم نفس الأشخاص، السعداء للغاية مع "بقاء الوضع كما هو عليه"... إنما يقولونه لا يزعج النظام".
تستكشف آيريس مردوخ "Iris Murdoch" (15 يوليو 1919 - 8 فبراير 1999) -وهي فيلسوفة نادرة الطراز وشاعرة أيضاً، وأحد أكثر مفكري القرن الماضي ثراءً وتأثيراً- دور الفن كقوة مقاومة للاستبداد وأداة للتغيير الثقافي، في خطاب ألقته في الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب في ربيع عام 1972، والذي تم تضمينه لاحقاً في مجموعة أعمالها الكاملة، بعد وفاتها، وذلك بعد مرور عقدين على إجبار الحكومة الشيوعية السوفيتية "بوريس باسترناك"1. على التخلي عن جائزة نوبل في الأدب، كتبت مردوخ تقول: دائماً ما يخشى المستبدون الفن، ذلك أنهم يسعون لأن تظل الأمور غامضة وملتبسة على الناس، بينما يميل الفن إلى التوضيح. الفنان الحق وسيلة للحقيقة، إنه يصوغ الأفكار التي يجب ألَّا تظل غامضة وتركز الاهتمام على الحقائق التي لم يعد بالإمكان تجاهلها. الطاغية يضطهد الفنان بإسكاته أو بمحاولة تحطيمه أو شرائه. لقد كان الأمر دائماًعلى هذا النحو.
وتمشياً مع تأكيد بالدوين بأنه "يتوجَّب على المجتمعات أن تؤمن باستقرارها وتعمل عليه، لكن الفنان يتحتم عليه أن يعرف، ويجب عليه أن يزودنا بكيفية معرفة أنه لا يوجد شيء مستقر تحت السماء"، تضيف مردوخ: "على فترات منتظمة في التاريخ، يميل الفنان إلى أن يكون جبهة ثورية أو على الأقل "أداة للتغيير"، طالما أنه يميل إلى أن يكون مفكراً حساساً ومستقلًا، له وظيفة خارجة قليلًا عن إطار المجتمع الراسخ".
في شعور يستدعي إلى الأذهان فورة الغضب التي قُذفت في وجه "إ. إ. كامينجز"2. (E.E.Cummings) بسبب تحديه الساخر للتقاليد التي أحدثت ثورة في الأدب؛ تدرس مردوخ كيف يحفز الفن، في أغلب الأحوال، الثورات الأيديولوجية والثقافية من خلال إحداث ثورة أولية في الشكل الفني نفسه: كان الدافع وراء التغيير في الفن دائماً هو إحساس الفنان بالحقيقة.. يتفاعل الفنانون باستمرار مع تقاليدهم، ويجدونها طنانة واحتفالية وبعيدة عن اللمس... يُنظر إلى الفن التقليدي على أنه فضفاض جدّاً، ثم يُنظر إليه على أنه نصف الحقيقة.

 


سلفادور دالي: الفن؛ من إصدار نادر لعام 1969 من "أليس في بلاد العجائب"

 

تعد آيريس مردوخ من بين أعداء الفن المتعددين، ليس فقط الاعتداءات المتعمدة للأجندات والأيديولوجيات السياسية، لكن أيضاً تجاهل أضرار التكنولوجيا -هذا الامتداد التعويضي للنيات الإنسانية، والمنتجات الفرعية التي تحجب دائماً استخداماتها الأصلية المقصودة- كتبت مردوخ، في فترة من الإلحاح الشديد على واقعنا السياسي الحالي الزائف، ومدعومة بخلاصات إخبارية متواصلة: مجتمع تكنولوجي، بشكل تلقائي تماماً وبدون أي نية خبيثة، يزعج الفنان من خلال تولي وتحويل فكرة الحرفة، وإعادة إنتاج ما لا نهاية له من الأشياء التي ليست أشياء فنية تماماً، لكنها تشبهها في بعض الأحيان. تسرق التكنولوجيا جمهور الفنان من خلال اختراع أشكال ترفيهية شبه فنية، ومن خلال تقديم اهتمام مضاد واضح وطريقة منافسة لإدراك العالم.

التكنولوجيا، في الآونة الأخيرة، تزعج الفنان وجمهوره، ليس فقط من خلال تهديد العالم فعلياً، لكن من خلال إظهار مآسيها على شاشة التلفزيون. إن الرغبة في مهاجمة الفن، أو إهماله أو تسخيره أو تحويله بعيداً عن الاعتراف هي، بطريقة ما، أمر طبيعي وبطريقة محترمة لهذا العرض. في موازاة جميلة لنظرية عدم الاكتمال التاريخية عند كيرت جودل3. (Kurt Gödel)، والتي تثبت وجود بعض الحقائق الرياضية التي لا يمكن للمنطق الرياضي أن يثبتها بسهولة، يشيد مردوخ بالنقص باعتباره السمة المميزة للفن -ليس ضعفه ولكن قوته العليا: بهذا المعنى، فإن كل فن جيد هو فن ناقد لنفسه بالأساس، حيث يعبّر في كلمات بسيطة وصادقة، عن الطبيعة المحطمة نظراً لشكلها المُعقد. كل مأساة جيدة هي ضد المأساة. في "الملك لير"؛ يريد لير أن يمثل دور المأساة الكاذبة، الرسمية، الكاملة. يجبره شكسبير على تمثيل المأساة الحقيقية والعبثية وغير المكتملة.

إن الفن العظيم، وخاصة الأدب، والفنون الأخرى أيضاً، تحمل اعترافًا ذاتياً مدمجاً بنقصها. تقبل وتحتفل بالخلط وحيرة الذهن من قبل العالم. إن الكائن المختلَق غير المكتمل ـــأقصد العمل الفني ـــ هو تفسير واضح لنفسه... يصنع الفن مكاناً للانضباط في خضم الفوضى من خلال اختراع لغة تحتفي، في شغف بالتفاصيل الطارئة، وتوضح الحقائق المعلنة بسلطة غير معقدة. ليس من الضروري أن يؤثر عدم اكتمال الكائن المختَلَق على وضوح نمط الحديث الذي يجسده؛ في الواقع، يدعم جانبان من المسألة بعضهما البعض بشكل مثالي. بهذا المعنى، كل الفنون الجيدة هي ناقدها الحميم، حيث تحتفل بكلمات بسيطة وصادقة بالطبيعة المكسورة لتعقيدها الرسمي. كل المأساة الجيدة هي ضد المأساة. الملك لير. يريد لير أن يسن المأساة الكاذبة، الرسمية، الكاملة. يجبره شكسبير على تمثيل المأساة الحقيقية والعبثية وغير المكتملة.

 


إدنا فنسنت ميلاي- عشرينيات القرن الماضي


مثلما صنفت الشاعرة "إدنا سانت فنسنت ميلاي4. (Edna St. Vincent Millay)" فناً غير فنها على أنه الأعظم (في واحدة من أروع المقاطع الأدبية حول قوة الموسيقى)، تعترف مردوخ أيضاً بالقوة المتفوقة للفن على حساب مهنتها الأساسية: "الفن العظيم قادر على عرض ومناقشة المجال المركزي لواقعنا -وعينا الفعلي- بطريقة أكثر دقة وأكثر فاعلية من العلم أو حتى الفلسفة. قبل عقد ونصف من إلقاء توني موريسون خطابها المذهل لجائزة نوبل حول قوة اللغة، وقبل ربع قرن من خطاب "سوزان سونتاج" المؤثر عن "ضمير الكلمات". ما من شك في أن أي فن هو الأكثر أهمية من الناحية العملية لبقائنا وخلاصنا، وهذا هو الأدب. تشكل الكلمات الملمس النهائيّ والمادة الأوليَّة لكياننا الأخلاقي، حيث إنها الأكثر دقة وحساسية وتفصيلًا، وكذلك الأكثر استخداماً وفهماً للرموز التي نعبر فيها عن أنفسنا في الوجود. لقد أصبحنا حيوانات روحانية عندما أصبحنا حيوانات ناطقة. لا يمكن إجراء الفروق الأساسية إلا بالكلمات. الكلمات روح... تعتمد جودة الحضارة على قدرتها على تمييز الحقيقة وكشفها، وهذا يعتمد على نطاق انتشارها ونقاء لغتها. يحاول أي دكتاتور تحطيم اللغة لأن هذه هي الطريقة الوحيدة للمخادعة وتزييف الحقيقة. كما أن العديد من العمليات شبه الأوتوماتيكية للمجتمع الصناعي الرأسمالي تميل أيضاً إلى الخداع والغموض وإضعاف الدقة اللفظية".
مع النظر بعين الاعتبار إلى محاضرة سي. بي. سنو5. (C.P. Snow) الشهيرة عام 1959، تحت عنوان: "الثقافتان" -تعد المحاضرة خطاً فاصلاً ينادي بضرورة إلغاء الحواجز بين العلوم والآداب، وتقريب الالتحام مع الخبرات الإبداعية الخلاقة- تحضّ آيريس مردوخ: يجب ألا نُفتتن بترك وضوح الفكر للعلم. كلما نكتب يجب علينا أن نكتب كما نستطيع... من أجل الدفاع عن لغتنا وإبراز تلك الأشياء التي هي أعمق نسيج لروحنا.
لا توجد ثقافتان. هناك ثقافة واحدة والكلمات هي أساسها؛ الكلمات هي المكان الذي نعيش فيه كبشر، كعناصر أخلاقية وروحية. كلماتها الختامية بيان ونعمة، شهادة مُلهمة ومعبرة عن القوة الروحية المحفزة للكتابة العظيمة: كل من الفن والفلسفة يعيدان ابتكار نفسيهما باستمرار، من خلال العودة إلى الأشياء العميقة والواضحة والعادية للوجود البشري وخلق مكاناً للكلام الرائع والذكاء والتفكير الجاد غير القسري. فلطالما بقيت لنا هذه المنطقة المركزية وطناً للحرية والفن. إن الفنان العظيم، مثل القديس العظيم، يهدئنا بنوع من الوضوح البسيط المتواضع، يتكلم بالصوت الذي نسمعه في هوميروس وفي شكسبير وفي الكتب السماوية. هذه هي اللغة البشرية التي يجب أن نسعى إلى أن نكون جديرين بها عندما نكتب، كفنانين أو كمستخدمين للكلمات من أي نوع آخر.


الهوامش من وضع المترجم:
* ماريا بوبوفا: (من مواليد 28 يوليو 1984)، كاتبة من أصل بلغاري، تعيش في الولايات المتحدة، معلقة وناقدة أدبية وفنية لاقت إقبالاً مُلفتاً لدى القراء اعتباراً من عام 2012.
1. بوريس ليونيدوفيتش باسترناك: (يناير 1890-مايو 1960) كان شاعراً وروائياً ومترجماً أدبياً روسياً، عُرف بروايته الأشهر "دكتور زيفاجو". حصل باسترناك على جائزة نوبل للآداب في عام 1958، وهو الحدث الذي أثار غضب الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، مما أجبره على رفض الجائزة، على الرغم من أن أحفاده كانوا قادرين على قبولها باسمه في عام 1988. وقد كان دكتور زيفاجو جزءاً من المناهج الدراسية الروسية الرئيسة منذ عام 2003.
2. إدوارد إستلين كامينغز: (أكتوبر 1894- سبتمبر 1962)، كان شاعراً ورساماً ومؤلفاً وكاتباً مسرحياً. كتب حوالي 2900 قصيدة، وروايتان عن سيرته الذاتية، وأربع مسرحيات، والعديد من المقالات. يعتبر أحد أهم الشعراء الأمريكيين في القرن العشرين.
3. كيرت فريدريك جودل: (أبريل 1906 - يناير 1978) عالم رياضيات وفيلسوف تحليلي نمساوي. كان له تأثير هائل على التفكير العلمي والفلسفي في القرن العشرين.
4. إدنا سانت فنسنت ميلاي (22 فبراير 1892 - 19 أكتوبر 1950) كانت شاعرة وكاتبة مسرحية غنائية أمريكية. حصلت على جائزة بوليتزر للشعر في عام 1923، وهي ثالث امرأة تفوز بجائزة الشعر وكانت معروفة أيضاً بنشاطها النسوي. استخدمت الاسم المستعار "نانسي بويد" في أعمالها النثرية. وأكد الشاعر ريتشارد ويلبور، "لقد كتبت بعضاً من أفضل السوناتات في القرن العشرين.
5. تشارلز بيرسي سنو: (أكتوبر 1905 - يوليو 1980) روائي وكيميائي وفيزيائي إنجليزي، اشتهر بسلسلة رواياته المعروفة مجتمعة باسم "الغرباء والأخوة"، و"ثقافتان"، وهي محاضرة ألقاها عام 1959 يرثي فيها الهوة بين العلماء والأدباء.

 

رابط المقال الأصلي/الصور: https://bit.ly/2Mn4XSa©

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها