إنسان عصر الآلات

عندما يستلهم الخيال العلمي دمج التكنولوجيا العالية في الكيان البشري!

د. رضا عبد الحكيم إسماعيل رضوان

بحسب علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان): نحن بشر اليوم -وانطلاقاً من حوالي أربعين ألف سنة منصرمة- استقر كياننا على هذا الأنموذج، ومسمانا الإنسان العاقل Homo Sapiens، والذي تطور من سلف سابق له هو الإنسان المنتصب Homo erectus، والأخير تطور من سلف له سابق عليه أيضاً وهو الإنسان العامل Homo ergaster وذلك منذ أكثر من مليون ونصف سنة. إن فرضية تطور الإنسان من كيان إلى آخر، هي فرضية راسخة لدى الأنثروبولوجيين، فهم يزعمون أن هذا التطور تطور فطري طبيعي. وبحسب علماء البيولوجيا وعلم النفس، أن كياننا الحالي، أي الإنسان العاقل، منظوم في قسمين: الأول، وهو المادي البيولوجي ويتمثل في أعضائنا ووشائجنا وتفصيلاتنا المادية بكافة أشكالها وأنواعها داخليا وخارجياً، والثاني، وهو المعنوي النفسي ويتمثل في فكرنا وشعورنا وإرادتنا.


بغض البصر عما يقوله علماء الأنثروبولوجيا، لم يترك التقنيون أصحاب التكنولوجيا العالية، مجالاً من مجالات حياتنا اليوم، إلا وتدخلوا فيه بشكل أو بآخر، والجاري حالياً، ارتيادهم كياننا البشري، بشقيه العضوي والنفسي، ووسائلهم في ذلك إدخال الآلات الصنعية إدخالا، فتندمج مع الكيان الإنساني، ولتصبح الفطرة في ذمة التاريخ، ولينطلق إنسان المستقبل مدعوماً بالآلة، كآخر حلقة من حلقات تطور الإنسان إذا صح هذا التعبير، حيث يخضع هذا الإنسان لجل آليات التحكم فيه، وفي وظائفه بيولوجية كانت أم نفسية!

هكذا يسيطر الخيال العلمي Science Fiction على مناهج فكرية حديثة، لها شراحها ودارسيها، فما زال الخيال العلمي يبحث في رسم خريطة مستقبلنا، حتى في نوعنا البشري! فمثلاً من أعمال الخيال العلمي، والتي بثتها بعض الأدبيات، التعامل مع الذاكرة والذكريات كبيانات، يمكن حفظها على شريحة، يتم زرعها في المخ، ليتم استرجاعها بنجاح، والهدف هو التحكم في ذكريات البشر والتحكم في المخ، وتبرير ذلك هو إمكانية علاج الخرف والسكتات الدماغية، ومن الخيال العلمي أيضاً، استهداف التقنيون الكمال البدني والخلود، أي ابتداع الإنسان الخارق، والذي هو في ذات الوقت قادر على كل شيء، و"كامل" وأبدي لا يموت، إن أصحاب الخيال العلمي يريدون أن يذهبوا إلى ما وراء الظروف الحالية للإنسان، وهو في جوهره يعني التغلب على الحدود "الطبيعية" المتأصلة في الوجود الإنساني، والمتمثلة في أن يولد، ويعيش عمراً قصيراً نسبياً وحياة نصف واعية، ثم يموت. فهؤلاء -أي أصحاب الخيال يقصدون اختراق هذه الحدود الحالية، الطبيعية والمعرفية وربما الروحية. ومن أجل أن يفعلوا ذلك، فهم يتعقبون ترقيات بيوتكنولوجية للجسم الإنساني، وبالتالي يحاولون، تخيلياً، أن يقضوا على الآثار السلبية للشيخوخة، وأخيراً -في طموحهم على الأقل- الموت. هذا والتكنولوجيا يمكنها -بالأقل- دمج البشر جزئياً مع الآلات، لتشكيل نوع هجين نصف آلي مبرمج، متحكم فيه سهل التوجيه، وهذا ما أطلعتنا عليه السينما العالمية، إنه الإنسان السايبورغ cyborg، وهو مكون من مزيج من مكونات عضوية ومكونات ميكاترونية Mechatronics تضم آلات وأدوات أنتجتها الهندسة الميكانيكية، والكهربائية، والحاسوب والإلكترونيات.
 

نحن

في عصر الثورة التكنولوجية، تلك الثورة التي لم تطل الجانب الصناعي فقط، بل طالت جوانب أخرى، بمن فيها الإنسان نفسه، وبدأت تدريجياً في تغيير العديد من المظاهر المتعلقة به وممارساته وقيمه وثقافته، وهناك توقعات بأن يصل الأمر إلى تغييرات جذرية في طريقة حياته. يوضح الكاتب ههنا، المنظور الثقافي السائد لدى شريحة من المفكرين أصحاب الخيال العلمي المتطرف حول إنسان المستقبل، وما ستؤول إليه البنية البيولوجية والكيان النفسي (الإدراكي / العصبي) لإنسان الأجيال القادمة المدعوم تقنياً (أي بشر العصر التالي وأجياله التي ستتلبس بها التكنولوجيا فائقة التطور). نعم هناك مؤيدون للدفع التقني بالإنسان المعاصر، إنه كنتيجة للتكنولوجيا العالية المتدخلة في الإنسان وتكوينه الفطري، فإن تعديله قادم لا محالة، والأمر كذلك سيقتضي الحال ثقافة جديدة تستوعب هذا الفكر، بل وتدافع عنه ضد معارضيه، إنها "ثقافة ما بعد الإنسانية transhumanism أو ما بعد بشر اليوم (أو قل: الإنسان المؤلل) ".

قام الفيلسوف ماكس مور بتقديم تعريف دقيق لاصطلاح "ما بعد الإنسانية": فهو يقول: "تعد النزعة عبر الإنسانية فلسفة قائمة على المنطق، وفي الوقت ذاته حركة ثقافية تؤكد وجود الإمكانية والرغبة في إدخال تحسين أصيل على الحالة الإنسانية عن طريق العلم والتكنولوجيا. يسعى مبدأ عبر الإنسانية إلى الاستمرارية وتسريع تطور حياة الكائن الذكي، لتتجاوز شكلها الإنسان الحالي، وتتخطى المحدوديات الإنسانية عن طريق العلم والتكنولوجيا، وفق إرشاد مبادئ وقيم تطوير الحياة".

إن الابتكارات التكنولوجية المستمرة، بدأت تخلق واقعاً جديداً للإنسان، وستخلق تغيرات جوهرية في أسلوب عيشه، لتدشن مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها. فعبر التقنيات فائقة التطور، أصبح واقعياً دفع قدرات الإنسان الإدراكية والوجدانية والمفاهيمية والبدنية، فلقد قدمت التقنية أدوات للتلاعب في العالم من حولنا، وبأدوات، كالمقراب والمنظار، عززت التقنية قدراتنا الإدراكية، وفتحت الباب على مصراعيه أمامنا لاكتشاف الكون على مستويات جديدة، ووسعت تقنيات كالكتابة والحواسيب، مداركنا وعقولنا وذاكرتنا. جل هذا مهّدَ إلى التحكم الآلي في الوظائف البشرية، إذا صح هذا التعبير.

إن أصحاب الخيال لإنسان ما بعد الإنسانية، يضربون أمثالاً عدة للتدخل التقني في الإنسان، منها التدخل الجيني، كما في تعديل الحمض النووي dna، أو التدخل التعويضي وذلك بدمج أدوات وآلات في جسم الإنسان، أو التدخل الدوائي بتعديل أجسادنا بوساطة الأدوية كي نصبح أذكى وأقوى، وأسعد حالاً وأطول عمراً. وهذا متوقع لا مناص بالنسبة للأجيال التالية، حيث ستضاف تقنيات جديدة إلى التقنيات المألوفة حالياً، فتحسن من قدرات الإنسان البيولوجية والنفسية والعصبية.
 

جذور خيال ما بعد الإنسانية

لقد دخل القرن العشرون يحمل منذ بدايته طفرات في الفهم العلمي والقدرات التقنية، وظهر تبعاً لذلك مفكرون يتبنون توقعات مستقبلية انطلاقاً من العشرينيات، منهم بوردون ساندرسون هالدين صاحب كتاب ديدالوس: أو العلم والمستقبل (1924م)، وجون ديزموند برنال مؤلف "العالم والغريزة والشيطان" (1929). وأنهما يتحدثان عن مجتمعات مستقبلية توظف العلوم المتقدمة، لتعديل الخصال البشرية، وتوجه تطورنا المستقبلي كجنس محدد. وفي العقود التالية كان لهذه المؤلفات أثر عظيم في مؤلفي الخيال العلمي، وبدا ذلك جلياً في السينما العالمية التي صاغت الكتابات في نماذج الروايات التمثيلية.
 

الانطلاق من الخيال إلى واقع تنظيمي

لقد ظلت أفكار هالدين وبرنال ممثلة لتيار تحتي مستمر يسري في فكر القرن العشرين، إلى أن تحول إلى تظاهرة فكرية، أنجبت بدورها "حركة ما بعد الإنسانية" والتي أضحت منظمة عن وعي وإدراك من القائمين عليها، وتشكلت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بالتزامن مع الحماس الشديد المبكر الذي تمت معاينته في بؤر التقنية العالية، فقد نشر واحد من أوائل مفكري حركة ما بعد الإنسانية ويدعى ف. م. اسفندياري كتابه "المحلقون عالياً: بيان مستقبلي" (1973). وفي العام 1989 نشر كتابه الواسع الأثر "هل أنت إنسان ما بعد الإنسانية"؟ وخلال فترة الثمانينيات طور المفكرون حركة ما بعد الإنسانية ذات رؤية مستقبلية لها روافد في الفلسفة والعلوم والفنون.

يتنبأ فلاسفة ما بعد الإنسانية بزمن ستفضي فيه التدخلات التقنية في قدرات الجسم والعقل البشريين إلى تعديلات بالغة في القدرات. فإنسان ما بعد الإنسانية هو "إنسان اليوم" مع بعض التعديلات، فهو يعيش لفترة أطول بكثير منا وسينعم بسعادة أكبر وسيستمتع بمهارات أعظم، وربما يتم رفع شخصية الإنسان (بالمعنى المعلوماتي) على نظام حاسوبي متقدم ومعمر جداً، فيتم تواصل الإنسان مع العالم بعدة طرق!

لقد تأسست الجمعية الدولية لما فوق الإنسانية في ثمانينيات القرن العشرين، حيث يعزز أعضاءها وعلماء غيرهم الاندماج بين البشر والحواسيب، وضمن أشياء أخرى يوصون بالاستخدام الواسع النطاق للمزروعات الإلكترونية لتحسين القدرات الإدراكية، وللهندسة العصبية لتوسيع وعي الإنسان، وللدمج بين المكونات الحية والاصطناعية في الجسم وخلاياه وأجهزته من أجل زيادة المرونة والازدهار والعمر.

جاء علماء معهد مستقبل الإنسان في كلية الفلسفة ومدرسة جيمس مارتن للقرن الواحد والعشرين في أكسفورد، ليصوروا إنسان المستقبل ككائن مركب، ما لم يكن كجسم مندمج تماماً مع التكنولوجيا. فهؤلاء يشيرون إلى منتصف القرن بوصفه التاريخ المحتمل للوصول إلى "التفرد: singularity"، وهي اللحظة التي يزعم أن يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي على الذكاء الإنساني، ويصبح بشكل ما "وعياً ذاتياً" كما يتوقع هؤلاء المفكرون، أن هذا يجعل الطريق ممهداً لظهور الذكاء الخارق الذي يتحقق من خلال الربط بين الذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية (ما يحمل تهديداً للبشرية في المستقبل) هنا يمكن تصور الإنسان المدمج مع الآلة ذو الذكاء الاصطناعي الخارق (الذي سيحل محل البشر).

إن أصحاب الخيال العلمي الذي أخذ في اعتباره التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الهائل يناصرون الدفع التقني للإنسان من منظور تطويره ذاتياً، أي التأييد المطلق لتحويل الإنسان، أي اعتناق فرضية " تحسين الوجود الإنساني تأسيساً على قضايا الوعي وغيرها من محاور تضمن الارتقاء والتطور لبشر المستقبل " والسؤال: ترى هل يتحقق ذلك حتى يمكن -على الأقل- متابعة فرضية أنثروبولوجية جديدة تدرس تطور ما سيؤول إليه إنسان ما بعد الإنسانية؟ على غرار ما آل إليه الإنسان العاقل خلفاً للإنسان المنتصب خلفاً للإنسان العامل؟

 


هامش
"حجج الكرامة المؤيدة والمعارضة لعبر الإنسانية" ترجمة د. إيهاب عبد الرحيم / النزعة عبر الإنسانية والماركسية: الروابط الفلسفية، ترجمة سحر توفيق / بدا عصر السياسة فوق الإنسانية، ترجمة حمدي أبو كيلة راجع: مجلة الثقافة العالمية: العدد 187 السنة 33 (2017) انظر: أحمد عزمي: اختراعات قادمة من عالم الخيال العلمي http://www.dotmsr.com/news
جدير بالذكر أنه: أطلق خبراء google عملاق التكنولوجيا مشروعاً جديداً هو كاليكو calico "منع الشيخوخة والقضاء على الموت". ويستهدف المشروع جعل المعلومات الخاصة بكيفية محاربة الشيخوخة أكثر "ذكاء"، وذلك بالجمع بين كميات البيانات، التي جمع بعضها وقورن بواسطة محرك بحث google، مع قدرة على "التعلم الذاتي" وعندئذ، يحتمل أن تستطيع المعلومات أن تطور نفسها مولدة المزيد من المعلومات الجديدة، وهذا يفترض أن يؤدي إلى القضاء على المرض ويطيل عمر الإنسان بمقدار قابل للقياس، ويؤدي أخيراً -إن أمكن- إلى هزيمة الموت.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها