مايرهولد .. ومسرحه الشّرطِي

شعرية الجسد الميكانيكي في الأداء المسرحي

بدر الدحاني


يعد الجسد المسرحي قِوام الفرجة وجوهرها، إذ يشكِّل بوساطة ميكانيزماته الأدائية والحركية والتعبيرية صوراً بلاستيكية ذات بعد شاعري خلاَّق، يأخذ المتفرج إلى عوالم التفكير والخيال والتأمل. ونجد العديد من الأبحاث والدراسات العلمية تُقِر بفاعلية الممثل في تحريك دينامية الفرجة الركحية، وبخاصة الدراسات الغربية الحديثة من قبيل مخرجين أثروا في الحركة المسرحية العالمية، أمثال: (مايرهولد، برشت، غروتوفسكي، إدوار غوردن كريك، أنطونان أرتو، بيتر بروك، ستانسلافسكي وآخرين...). وسنحاول من خلال هذا المقال، التركيز على فلسفة فيسفولد مايرهولد في المسرح، وبخاصة في أداء الممثل المسرحي؛ وذلك بتسليط الضوء على بعض من تقنيات البيوميكانيك، وإسهاماته في التشكيل الجمالي للجسد وشعرية الحركة. فما مفهوم الشعرية؟ وماذا نقصد بالبيوميكانيك؟ وإلى أي حد ساهمت أفكار مايرهولد في تجديد المسرح ومجاوزة مبدأ الطبيعية والواقعية المبتذلة في نظره؟



في مفهوم الشعرية

يطلق على الشعرية أو البويطيقا كل نظرية داخلية للأدب1. والشعرية هي اختيار أسلوبي للمبدع وفق مجموعة من القوانين والسمات التي تشكل المفهوم في أبعاده التركيبية. إنها: "مجموعة من الاختيارات والتقنيات الأدبية، والبلاغية، والأسلوبية، والتصويرية، التي يستعملها المبدع في كتاباته التأليفية والإبداعية... والشعرية هي مجموعة من القوانين والخصائص والعناصر التي تميز فنّاً أدبياً عن باقي الفنون والأجناس"2. ولتطبيق المفهوم إجرائياً، نستعمله للدلالة عن جمالية الجنس الأدبي أو الفني؛ لأن مفهوم الشعرية هو مفهوم مرادف للجمالية في الفكر الفلسفي، وبخاصة عند فلاسفة الفن والجمال؛ فنقول مثلاً: شعرية الخطاب، شعرية الأدب، أو شعرية الرواية، أو شعرية المسرح، وغيرها من تطبيقات المصطلح إجرائياً على الفنون والحقول الفنية والمعرفية.

ويأتي استعمال المفهوم إجرائياً في هذا المقال، للحديث عن شعرية الجسد وجمالياته التعبيرية والحركية والأدائية؛ لأن تمثلات الشعرية في الجسد المسرحي، تكمن في قدراته البدنية والحركية الهائلة والخلاَّقة، أي في الخصائص الفنية والأساليب الإيقاعية للجسد. وفي المقابل نجد مفهوم الشعرية هو ذاته الذي يُعنَى بقواعد وسمات الإبداع، أي كل من له وظيفة فنية وجمالية، نشير له بالشعرية، وهذا مرادنا في استعارة المفهوم.

 

في مفهوم البيوميكانيك

يعد مفهوم البيو ميكانيك أو علم الميكانيكا الحيوية "أحد فروع علم الفيزياء، وهو العلم الذي يبحث في حركة أي كائن حي من جميع النواحي (التشريحية - الفسيولوجية – النفسية - البدنية - الميكانيكية - الفيزيائية)، والذي يتعامل مع القوة المؤثرة على الأجسام الحية سواء في حالة السكون أو الحركة، وتعرف الميكانيكا الحيوية بأنها دراسة السلوك الحركي في ضوء القوانين والمبادئ الفيزيائية العامة، وهي بهذا المفهوم تعتمد على طرق البحث في الفيزياء التقليدية، وما توصلت إليه من طرق ووسائل في محاولة لتطبيق ما يمكن تطبيقه على الجسم البشري"3. وقد أسهمت أبحاث عالم الطب الروماني Galen في دراسة حركة الإنسان دراسة علمية دقيقة، قَدَّم من خلالها تصنيفاً عاماً يفرق فيه بين الأعصاب الحركية والأعصاب الحسّية، وهذا ما أكده في إشاراته العلمية بخصوص الحركة، التي تتم وفق مرورها من المخ إلى العضلات.

وفي معجم المسرح جاء تعريف البيوميكانيك بوصفها: "دراسة الآلية المطبقة على الجسم البشري.. وقد استعمل مايرهولد هذا التعبير ليصف أسلوباً لتدريب الممثل يرتكز إلى تنفيذ فوري للمهمات التي أُمليت عليه من قبل المؤلف والمخرج"4. ويتبدى من خلال المفهوم، أن جسم الإنسان يخضع لقوانين علم الميكانيكا، وأن هذا الجسد يعمل وفق مرجعية فكرية ومعرفية لصاحبه، أي أن هناك علاقة وطيدة بين الجسد والفكر، اعتباراً لكون العقل وجل الأعضاء المتحكمة في الوعي لها علاقة بالإنتاج الحركي للجسد، وأن المعرفة جزء أساسي في جودة الإنتاجية للحركة الجسدية؛ والحديث عن الكفاءة الأدائية للحركة، هو حديث عن التقنيات والميكانيزمات التي يتوفر عليها الجسد الإنساني، والتي تتطلب كفاءات ومهارات تُكتَسَب من خلال التدريبات الميكانيكية، وهذا بالذات ما كان يشتغل عليه الروسي الكبير "فسيفولد مايرهولد" في مسرحه.
 

مايرهولد وفلسفته المسرحية

يعد فسيفولد مايرهولد من أهم المخرجين الثائرين على المنهج الواقعي/ الطبيعي في المسرح، فبعد أن خرج من مسرح موسكو الفني سنة (1902)، شرع في البحث عن أساليب ومناهج جديدة لمجاوزة تيار الواقعية الطبيعية، التي تحد من قدرة المسرح على التحرر والابتكار. وبعد عمليات البحث والتنقيب لتحطيم كل ما يعيق حرية الابتكار لدى الممثل، وجد مايرهولد منهج البيوميكانيك الذي يقوم على أسس النظرية الفيزيائية/ الميكانيكية، وذلك بإعداد الممثل جسدياً من الخارج، لا من الداخل، كما ينهج أستاذه "ستانسلافسكي" في إثارة الأحاسيس الباطنية للممثل.

يؤكد مايرهولد على مبدأ البلاستيكية كتحطيم للطبيعية ومجاوزة مبادئها القاتلة للمسرح، بقوله: "المسرح الطبيعي لا يعرف مفاتن البلاستيكية، ولا يجبر ممثليه على تدريب أجسادهم، وعندما يفتح مدرسته، فإنه لا يعرف سوى أن الثقافة الجسدية ينبغي أن تكون موضوع دراسة أساسية"5. فالمسرح في نظر مايرهولد هو تجسيد للشاعرية والمسرح الخالص، وهو ما أتاح الفرصة لبروز الإشارات والرموز والحركة، بدل الأشياء التي يُعبَّر عنها بشكل مباشر وبدون أي ابتكار لافت. ونظرية البيوميكانيك هي تَمَثُّل حقيقي لهذا المسرح الفيزيائي والرمزي الذي يُولّد العلامات عن طريق شعرية الجسد الأدائية والتعبيرية.

يرى مايرهولد على "أن الانفعالات ما هي إلا حركة"... حيث يقوم منهج البيوميكانيك في نظره على مقومين أساسين وهما: العضوية والحركية، فالعضوية تعني الحيوية التي تتضح في ردود الأفعال الشرطية والانعكاسية، أما الحركية فهي الفيزيائية والميكانيكية التي تنصب على حركات الجسد الديناميكية من رأس وعين ويد وقدم، اعتماداً على الموسيقى الحركية"6. فمنهج البيوميكانيك عند "مايرهولد" يُقَعِّد للأسس النظرية والتطبيقية والمبادئ الأساسية في الأداء التمثيلي، فهو يستلهم من علم الميكانيكا والبلاستيكية والنظرية الفيزيائية ما يحقق آفاق التشكيل الحركي الشاعري، معتمداً في بلوغ هذا الابتكار الأدائي على الإيقاع الخلاَّق، والقدرة الجسدية والرشاقة في الأداء، والحيوية الداخلية، والانسجام بين العضوية والحركية، والموهبة التعبيرية التي تنسج الحركة وفق النوتة الموسيقية.

المسرح الشرطي وشعرية الحركة

يقوم منهج البيوميكانيك في مسرح مايرهولد على فعل الحركة وطرق تشكيلها، وهذا ما أكده في كثير من الأحيان بقوله: "الكلمات لا تقول كل شيء، بل نحتاج إلى رسم الحركات"؛ فالحركة أفقاً للابتكار في المسرح، وهي التي تفسح المجال للتخييل والتأمل وتدريب الفكر على التفكير، وغيرها من أشكال الابتكار والتجديد في الطابع الفني للمسرح. فنظرية الميكانيك تتحول إلى نظرية التمثيل عند "مايرهولد"، عبر اعتماده أسس علم الميكانيكا في الأداء التمثيلي، فقد اعتبر الجسد بمثابة آلة تتوافر فيها كل الشروط الضرورية لخوض تجربة "ميكانيكية الجسم" التي تتجسَّد في الحركة النموذجية، من خلال تشكيل الحركات البلاستيكية التي تأخذ الذائقة الفنية إلى عوالم الخيالات المرئية.

ومما تقدم، "يأتي دور البلاستيكية كرسم في الفضاء؛ لكي تؤدي المعنى الحقيقي الدال عن طريق الإيماءة والإشارة المدروسة والدقيقة المعبِّرة بعيداً عن الألفاظ، وبذلك يدعو مايرهولد إلى ابلاستيكية غير مطابقة للكلمات، والتي تحقق لنا دلالة تحويله، فهي قادرة على أن تعطي للحركة معنى أصيلاً يقرن الكلمة بدلالتها. فمثلاً الحركة العنيفة وهي عبارة عن صفعة لخد الممثل المقابل دلالة على الغضب. وبذلك تحمل الحركة معناها الأصلي المطابق للكلمة"7. لهذا؛ فالجسد في مسرح "مايرهولد" الشرطي، يعكس صورة التعبير الرمزي والأيقوني، البديل عن الكلمات والحوارات الكثيفة التي تفقد الركح جماليته الأخاذة.

عموماً؛ يدعو منهج البيوميكانيك لدى مايرهولد إلى القطيعة المعرفية مع التيار الطبيعي الصرف، الذي يحاكي الواقع كما هو، ويحد من قدرات الجسد الإبداعية، ومن ثم، فكر المتلقي الذي يُعَطَّل جراء هذه المحاكاة التقليدية التي لا تدعو إلى المشاركة الفاعلة من خلال تفكيك مضمرات الإرساليات الدَّالة عن المعنى. إن فلسفة مايرهولد في المسرح تُشبه ما يمكن أن أسميه بـ"الشعرية الثائرة"؛ فكل شيء وُجِدَ في المسرح إلا وأخضعه لأسلوبه الشرطي، فقد ألغى الإضاءة الأمامية، واستغنى عن المناظر المسرحية بصيغها المألوفة، حرر الممثل من الديكورات، وهيأ له المجال للابتكار بالجسد وعن طريق الجسد، وحتى الجمهور المسرحي لم يسلم من شعريته الثائرة، إذ كَسَّر المنطق الدرامي السائد، وجعل المُشاهد طرفاً فاعلاً في الإبداع المسرحي لا جامداً فيه، فهو يبتكر الصور اللاَّمكتملة بفكره ومخيلته التي تعودت على الابتكار في مسرحه، بل ورسم التلميحات المسرحية التي تغني العرض وتشكل معانيه الميزانسينية.

ختاماً؛ يمكننا القول بأن رؤى مايرهولد لم تستند على أسس بسيطة، بل توسلت بأسس عملية وتطبيقية قاسية، أي كثيفة التدرب والتمرن الجسدي والفكري؛ فهدف مايرهولد من خلال تدريباته، ليس تخريج ممثلين تقنيين بالمعنى الحرفي للكلمة، بل تهييء ممثلين مفكرين قادرين على التخييل والابتكار والإنتاجية الفاعلة، ويتبدى ذلك بجلاء من خلال تطبيقاته العملية في الورشة التدريبية التي كان يرأسها، إذ كان يركز على نقاط مهمة منها: "طلبه من الممثلين بدراسة الرسم التقني، والرياضيات، والموسيقى، والعلوم الاجتماعية، وتاريخ المسارح العالمية..."، وغيرها من الحقول المعرفية والتقنية والفنية التي تثري المعرفة والمخيلة. فالفكر والجسد شيئان متلازمان، فلا جسد دون فكر، إذ يعد هذا الأخير فاعلاً إيجابياً في إنتاجية الحركة الشاعرية على المسرح، فالجسد المسرحي يستلهم من ذاكرته المعرفية ما يفيد بلاغة الحركة وسياق المشهد الدرامي، فهنا بالذات تكمن علاقة الفكر بالجسد، التي كانت مثار نقاش كبير بين فلاسفة "الظاهراتية" الذين ناقشوا موضوع الفكر والجسد من المنظور "الفينومينولوجي"، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر: "ميرلوبونتي" و"هايدغر".


الهوامش
1 -  Oswald Ducrot et Tzvetan Todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Points, 2ditions du Seuil, 1972. p : 106.2
2 -  Oswald Ducrot et Tzvetan Todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage - op.cit - p : 106.
3 -  محي عبد الحي، الرقص الشعبي في النوبة: دراسة أنثروبولوجية في فن الأداء الحركي، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2015. ص: 79.
4 - باتريس بافيس، معجم المسرح؛ ترجمة: ميشال خطار؛ المنظمة العربية للترجمة، بيروت ـ لبنان، ط1، 2015. ص: 99.
5 - Lercher Anne-Marie, Carli Mario. Théâtre des années 20 : Le rejet du naturalisme libère le corps. In: Littératures, numéro spécial 2,1980.Théâtre, cinéma, télévision. p : 94 .
6 - محي عبد الحي، الرقص الشعبي في النوبة: دراسة أنثروبولوجية في فن الأداء الحركي، مرجع سابق. ص: 84.
7 - عبد الكريم عبود، الحركة على المسرح بين الدلالات النظرية والرؤيا التطبيقية؛ دار الفنون والآداب، منشورات ضفاف، العراق، ط1، 2014. ص: 188.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها