بين السياسة والجاسوسية..

شارع دمشقي بنكهة شيكاغو

شادي سلامي رزق


حكايات الماضي تشهد عليها أزقتها وشوارعها.. دمشق القديمة في قصة رائعة ومحكمة، وبغاية الجمال والرشاقة، تعيد إلينا أيام الزمن الجميل بين دهاليز السياسة والأخلاق ومشارب الهوى، "شارع شيكاغو" "كالندبة على خد الشام".
 

بين القصة والرواية استطاع مؤلف العمل ومخرجه المبدع (محمد عبد العزيز)، أن يتخطى حاجز "الثالوث" و"التابوهات" إلى رحلة سفر.. لمفرداته نكهة خاصة قلّما نجدها في الأعمال الدرامية السورية، والتي أتت على لسان بعض شخصياته المحورية من حيث جرأة الطرح، ولسان شخصياته الذي تطلب ذلك منها ضرورة المكان، كشخصيات الفتيات اللواتي يعملن في تلك المشارب، مثل (شمس وكهرمان).

ويعدّ مثالاً عن لغة بسيطة تعبر عن روح الفكاهة والدعابة ممزوجة بالألم والقهر والانتقام، للواقع المرير الذي عاشته شخصية (سماهر)، وعلى لسانها جملة "لاحقين نموت"! ولكنها ماتت في النهاية تاركة ذلك الوجع الذي يرمم الإنسانية بداخلنا، تلك الشخصية المحورية الهامة التي قامت بدورها الفنانة المتألقة (أمل عرفة)، ومنها الحركية كشخصية حامل صندوق العجائب وكلمته المشهورة "بتتاه"! والذي قاده طمعه في النهاية إلى حتفه، أثناء بحثه عن الذهب المطمور تحت شارع شيكاغو، مع الشيخ عبد الجبار الذي كان يمثل رمزاً معيناً في تلك المرحلة، وقام بأدائها الممثل القدير فايز قزق.

لطالما كانت لتلك الأحياء والشوارع ذات الالتفافات التي تضيع بنا ونضيع بها، نشرد بها وتشرّدنا، قصصاً تقول بين ثناياها: "حارتنا ضيقة ومنعرف بعضنا".. (شارع شيكاغو)، أو (شارع الملك فؤاد) تيمناً باسم الملك (فؤاد الأول) أيام مصر، ومن ثم (شارع بور سعيد)، تعددت الأسماء والأزمنة والأشخاص ويبقى ذلك الأثر.
 

∵∴∷ الحبكة

نعود في العمل الدرامي المشوق لأحداث وقعت في أطراف دمشق عام 1961، وما قبلها في فترة الوحدة بين سورية ومصر عام 1958، وخطاب الرئيس الراحل (جمال عبد الناصر)، وحديثه عن دور سوريا في تاريخ الأمة؛ وأنها قلب العروبة النابض، وما ترتب عليها آنذاك من فتح ملفات الماضي عبر تقنية "فلاش باك"، "على قد مو قاسي صعب يتصفى حسابو"، جملة قالها الفنان (عباس النوري) لتدل على قسوة الزمن الممزوجة بذكريات الماضي السحيق في أعماقه.

ومن خلال شخصية (نعمان كحل الليل)، والذي قام بدورها أيام الشباب الممثل الموهوب (حسام سلامة)، الذي يفتتح العمل به هو و(الطاووس) القاتل المأجور، و(برهان) عنصر التحري، والأخ الوحيد لـ(ميرامار) وتوأمها غير الحقيقي، نراهم جميعاً وهم ذاهبون لدفن جثة (ميرامار) في الصحراء المقفرة وحيدة هناك. وقد أخذ دور تلك الشخصية في الكبر الممثل الكبير (دريد لحام)، على أنه يريد الاعتراف والتبليغ عن مكان دفن جثة ميرامار كونه القاتل، في زمن الرئيس (جمال عبد الناصر)، وجماعة التحري التي يترأسها العقيد (السراج) المعروف بحزمه وشدة بأسه، حتى أمام المشير المصري الذي كان أعلى رتبة منه بالتأكيد، ولكنه كان يضاهي المشير بصرامته، فهو المسؤول عن "المكتب الثاني" في ذلك الوقت.

يتم اغتيال (كحل الليل) في ليلة ظلماء لنظن أن القصة وقفت عند هذا الحد، ولكن خيوط اللعبة والتشويق قد بدأت الآن عن طريق المقدم (يوسف)، والذي قام بدوره الفنان (وائل رمضان)، وابنة أخ (نعمان كحل الليل)، واسمها (ميس) التي قامت بدورها الممثلة (نادين سلامة)، ثم نمضي معاً في متابعة سرد القصة والتأرجح بين الزمنين أيام الوحدة عام 1958، وعام 2009 ضمن قالب بوليسي سينمائي تشويقي كبير، حيث يتعرف على أخت (ميرامار)، واسمها (نور الهدى)، والتي قامت بأدائها في الكبر الممثلة القديرة (نادين خوري)، وهي التي تعرف أدق التفاصيل المحورية والهامة في العمل عن شخصية (ميرامار)، والتي من خلالها نكتشف مدى دقة المخرج لجعلها تعتني بالزهور وسقيها في أرض الدار، وهو ما سوف يدلنا في النهاية على معنى الحياة.

مشاهد من المسلسل


تبدأ الحكاية من عشق مدفون مع أسرار فتاة عمياء في غاية الأنوثة والجمال، والتي تجعلك أسير الهوى بمجرد أن تنطق عبر رقة لسانها وعذوبتها، (عفاف عبيد القطان)، ولقبها (ميرامار) والتي قامت بدورها الفنانة الرائعة (سلاف فواخرجي). يغدق العمل بأدق التفاصيل بدءاً من أصغر شخصية إلى أكبرها، ومن أصغر موقف إلى أعظمه، لا يوجد هناك مشهد بالمجان، حيث عُنيّ المخرج بتلك التفاصيل والفواصل التي تجعلنا نضع يدنا على خدنا، ونشرد في الحنين على أنغام صوت دقات "بوظة بكداش العربية" مثلاً، "دُم تَتَكْ. دُم تَكْ تَكْ. دُم تَتَكْ. دُم تَكْ تَكْ.."، وصوت الآلات الموسيقية المرافقة لبريق عَينيْ (ميرامار)، وهي تشع بريق اللحظة وعاطفتها، وتدفق مشاعرها وأحاسيسها ومناجاتها ودعائها.. تأخذنا بتنهيدة الشهيق وأنّات الزفير.. هي كانت عمياء ولكنها استطاعت أن تجد مرادها:
وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ .. فهو المرادُ وعشْ بذاك الواحد

من خلال رائحة تشبه رائحة عود الكبريت في أولى لحظات اشتعاله؛ وكأنها تقول إن "مراداً" هذا ما هو إلا شعلة متقدة من الحب والحماس، وروح الشباب الثائر الذي يتزامن مع ثورية (تشي جيفارا) في ذلك الوقت، والذي سيجعلنا نتابع قصتهما حتى النهاية، ناهيك عن إبداع الوتريات، وناي الروح التي تعزف لحن الشاعرية في قلبنا، وهنا عن الموسيقى التصويرية للعمل أتحدث، بصخبها وجنونها، وجنوحها إلى الثورية عهد تشي جيفارا، وعبد الناصر موسيقى (سعد الحسيني)، حيث نسمع صدى الأيام تلك في كل كلمة مع الصحفي (مراد عكاش) "العونطجي" حسب رأي (برهان)، والذي كان يتبع لمجلة (المضحك المبكي)، وهو من جماعة (حبيب كحالة)، وقام بدوره أيام الشباب الفنان (مهيار خضور)، بينما لعب دوره أيام الكبر بإتقان بارع الفنان الكبير (عباس النوري)، الذي بدأت متابعته وملاحقته من قبل جماعة "المكتب الثاني" التحري (برهان)، والذي قام بدوره أيام الشباب الفنان (جوان خضر)، أما في أيام الكبر فقد قام بدوره الفنان الكبير (جمال قبش).

تتزامن القصة في حزيران عام 1959 مع زيارة بطل قومي عالمي لدمشق، وهو (إرنستو تشي جيفارا)، والرسالة التي جاء من أجلها إلى المنطقة.

∵∴∷ بين السياسة والجاسوسية

يتم طرح فكرة التخلص من "شارع شيكاغو" لأسباب تتعلق بالانحلال الأخلاقي، والفساد والفسوق على حد زعم الشيخ عبد الجبار، مهدداً بالذهاب إلى مصر والاستعانة ببعض الجماعات، إلا أن (برهان) لا يرجح فكرة التخلي عن الشارع كونه يخدم مصالحه إلى حد كبير، حيث يقترح (برهان) على الشيخ شراءه نظراً لامتلاكهم الثروة الطائلة لفعل أي شيء تقع أنظارهم عليه، مهما كان ثمنه أو كانت غايته، على الرغم من عدم قدرته على التخلي عن فوائد ذلك المجتمع المتحرر لاعتبارات أمنية استخباراتية.. حيث نرى دور "المكتب الثاني" جلياً في انتشار أعينه في كافة المناطق، وخاصة "شارع شيكاغو" عن طريق راقصات محترفات، وهن في الأساس جاسوسات كشخصية (كهرمان)، ليخبرنا ذلك العالم الغامض أن مصير كل من دخل هذا الطريق هو الهلاك لا محال، والذي أدى إلى مقتل شخصية (سماهر) نفسها في العصر الحديث للعمل، على أنها لم تنفذ ما طلبه منها (برهان) بقتل أخيها (يوسف).

نرى هنا الانتقال السلس بين المشهد والآخر، وبين الزمن والآخر بحرفية عالية لا يشوبها أي خلل فني.. ولتشعر بالتشويق حقاً لمتابعة ما سيحدث في المشهد الآخر، أو الحلقة التالية.

∵∴∷ النهر المتجدد

يعود بنا المخرج إلى نِيّة العاشق الكبير (مراد) شراءه ذلك الشارع، علّها تعود حبيبته إلى الحياة، ويجعل الدنيا كلها ملكها فقط، فماذا لو كانت الدنيا جميعها عمياء!

يطرح العمل فكرة العشق المتجدد، المتمثلة بابنة (برهان) الشابة (سارة) وابن أخ مراد (تيم)، عندما يلتقيان لأول مرة في منزله، تتأرجح علاقتهما بين الرغبة، وعدم امتثال كل منهما لرغبة الآخر؛ إلا أنهما قد يقعا بحب بعضهما في النهاية، وهو ما حاربه (برهان) في بداية الأمر، بعد إرساله له عدة تهديدات، إلا أن رغبة (سارة) في حبه أقوى من رغبة أبيها لدرجة التحدي؛ كـأن تقف بوجهه رافضة سخطه وجبروته.

ومرة أخرى يحقق المخرج انتصاراً لقصة حب بين أخت (سماهر) "سميري"، كما يحب أن يسميها ذلك الشاب عاشق السينما وحارس مبناه، موضحاً دور السينما في خلق حالة حضارية مليئة بالمغامرات وقصص الغرام، على عكس تلك التي يستخدمها صعاليك هذه الأيام، والجلوس في المقاعد الأخيرة بحجة متابعة الفيلم على إيقاع أجواء رومانسية، والتصفير لدى مشاهدة أي مشهد جريء يتعلق بقبلة!

ولا يمكننا إهمال دور الصحفية (جورجيت)، وصديق (مراد) الصحفي (حسني)، اللذان قدما الكثير من حياتهما لمساعدة (مراد)، و(ميرامار) على تجاوز محنهما فهما نعم الصديقان، فمن خصالهما الجرأة والتحدي والمجابهة والمواجهة لكل موقف حرج وطارئ، وهذه هي الخصال التي يجب أن يتحلى بها كل صحفي يحترم مهنته، ويؤدي واجبه ورسالته، ولو أنه ضعف في النهاية إلا أنه يؤكد على ضرورة كوننا بشراً في النهاية نقوى ونضعف، "فالعين لا تقاوم المخرز"!

∵∴∷ العالم السفلي

يخبرنا المخرج بنهاية دخولنا في نفق من الأنفاق المظلمة، التي كان يريد أن يختم بها قصص الكنز المدفون أسفل "شارع شيكاغو"، وقصة الجرار الأربعة المليئة بالذهب، والتي كان يبحث عنها الشيخ (عبد الجبار)، بمساعدة من طمع للحصول عليها عن طريق الخرائط التي كانت بحوزتهم، والتي كانت تحوي إشارة عقرب في أربع اتجاهات مختلفة، إلا أن طيف (ميرامار) قد أخذ (يوسف) و(ميس)، وهما يبحثان عن لغزها الغامض، فالذهب العتيق يذهب بالأبصار والأذهان إلى المجهول!

∵∴∷ ثالوث الروح

بينما تسقي (نور الهدى) الورد المزروع في بيتها، نرى كيف أن الورود تتفتح وتبرعم؛ لأنها تستقي الحب والجمال من روح (ميرامار)، المدفونة تحت تلك الورود في "أرض الديار"، فهي الدمشقية الأصيلة التي سيبقى عبقها منثوراً حتى في أقاصي الجبال والأديرة، التي احتضنت ابنتها وابنة (مراد)، التي كانت أيقونته من خلال دعائها له "الله يعطيك عمر نوح، وصبر أيوب ورزق يونس".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها