تاريخ الكتب الصوتية

ترجمة: عبدالله بن محمد


تاريخ الأعمال المسموعة، من مسرحية سيرانو دي برجراك العظيمة إلى أحدث التطوّرات في مجال الكتاب الصوتي، يظل غير معروف نسبيًا، رغم أنه شهد سلسلة من الثورات الصوتية.

في مقطع خيالي من عمل "التاريخ الهزلي لدول وإمبراطوريات القمر"، يكتشف سيرانو دي برجراك صندوقًا غريبًا: "عندما فتحتُ الصندوق، وجدت بداخله قطعة معدنية تشبه الساعات التي نعرفها إلى حد كبير، كان مليئاً بعدد لا حصر له من النوابض الصغيرة وآلات غير محسوسة. إنه كتاب بالفعل، لكنه كتاب معجزة لا يحتوي على صفحات أو حروف. في النهاية، هو كتاب قراءته لا تحتاج إلى عيون ثاقبة؛ بل آذان صاغية".

في قلب هذا الوصف الذي يعود لسنة 1655، والذي يعكس رواية ذاتية وخيالاً علمياً في آن واحد، كان سيرانو دي بيرجيراك يتخيّل الكتاب الصوتي. رسميًا، لم يظهر الكتاب الصوتي للعلن إلا في منتصف القرن العشرين، على غرار المسلسلات الإذاعية والتسجيلات الشعرية. في الواقع، الكتاب الصوتي، الذي يمكن تعريفه بدقة على أنه نص مقروء يتم تسجيله بصوت عالٍ، يرتبط تاريخيًا بثورة تكنولوجية كبرى: في عام 1877، اخترع توماس إديسون الفونوغراف، وهو ما أتاح تسجيل الموسيقى، والكلام. بعد ذلك، فكّر هذا الأخير -العالم والمخترع- في "كتب الفونوغراف" لمساعدة المكفوفين، وهذا الهدف الأسمى سيظل دائمًا راسخًا في الحمض النووي للكتاب الصوتي. في فرنسا، ساهم ظهور المسرح الإذاعي، ثم "الدراما الإذاعية" في الخمسينيات من القرن الماضي، في تشجيع قراءة وتسجيل المسرحيات والنصوص.

ومنذ البداية، مثّل الراديو والكتاب الصوتي، معاً، عنصرين متلازمين ومتنافسين إلى حد ما، قبل ظهور البودكاست لاحقًا.

من التسجيل الصوتي إلى الكتاب الصوتي

تعتبر ساندرين ترينر، مديرة مؤسّسة France Culture، أن هؤلاء المخترعين الأبطال، بتنوع مشاربهم، يجمعهم هذا التاريخ المشترك وهذا الشكل من المقاومة الحالية لهيمنة الشاشات، وهم الذين فضلوا الصوت على القراءة: "جميع مشغّلات الصوت تهدف إلى تيسير القراءة. بعيدًا عن المنافسة، يمكن لكل واحد منهم أن يجد مكانه ويطوّر علاقته بالخيال من خلال الصوت في عالم مشبع بالصور، وخاصّة من خلال القطع المختارة أو التعديلات الرئيسة. من بين تلك الأعمال، الإنتاج الإذاعي المقتبس من "حرب العوالم" لأورسن ويلز، الذي تم بثه عام 1938 على محطّة CBS، وأثار حالة من الذعر العام في الولايات المتحدة؛ لأن المستمعين كانوا يؤمنون بغزو حقيقي من المريخ.

في فرنسا، بعيدًا عن هذا التأثير، اكتفى عدد كبير من الشعراء بتسجيل نصوصهم على لفائف من الشمع، مثل بول إيلوار وغيوم أبولينير، وقد كانا يحلمان بنشر كتبهما على شكل أقراص شعرية. منح تشارلز كروس، صديق آرثر رامبو وبول فيرلين، اسمه لأكاديمية مختصّة في الموسيقى والتسجيل، وتمنح جوائز من بينها فئة "التسجيل الصوتي والإبداع الراديوفوني" التي تكافئ بانتظام الكتب الصوتية. بصرف النظر عن الراديو والتكيفات الشعرية، لم يظهر الكتاب الصوتي فعليًا حتى عام 1932 في الولايات المتحدة، بعد عام من تسجيل التاريخ الشفوي للقبائل الهندية على أقراص من الألومنيوم بواسطة اللغوي جون بيبودي هارينجتون. تقول فاليري ليفي سوسان، الرئيس التنفيذي لشركة Audiolib التابعة لمؤسّسة Hachette Livre ورئيس لجنة الكتاب الصوتي للنقابة الوطنية للنشر: "المشكلة الرئيسية هي طول المدة التي يستغرقها تثبيت الأصوات... من بضع دقائق لتسجيل قصيدة أو دراما أو كتب مختصرة على وسيط مادي، انتقلنا بعد ذلك إلى أقراص MP3. اليوم، في عصر الهاتف الذكي واعتماد المحامل الرقمية، التطوّر لا يتوقّف، وأصبحنا نتواصل مع جمهور كبير جدًا، حتى غير المهتمين بالقراءة. لقد تجاوزت بعض الكتب الصوتية، على غرار كتاب Sapiens، 100 ألف نسخة".

صوت الصفحات

في فرنسا، لم تظهر بعض دور النشر الرائدة إلا في ثمانينيات القرن الماضي. وبإشراف أنطوانيت فوك، رئيسة دار Éditions des Femmes، ظهرت أول مجموعة من الكتب المسموعة للبالغين. بعد أن أصبحت تُعرف بـ"La Bibliothèque des Voix" (مكتبة الأصوات) في عام 1981، كانت المؤسّسة تتميّز بمقاربتها الأدبية، ولكنها كانت أيضًا نسوية في توجهاتها. حيث فتحت أبوابها لسماع كتب بأصوات نسائية - مثل كاثرين دينوف أو باربرا هندريكس مؤخرًا.

من جانب آخر، ظهرت إصدارات Thélème في التسعينيات للاستجابة للتطلعات الملحة التي عبّر عنها مؤسّسها أديلين ديفاي: "قمت بكتابة النصوص التي أردت سماعها". وستدرك دور النشر الأخرى، مثل Frémeaux & Associés، مبكرًا خصوصية الكتاب الصوتي: "إنه وسيط ساخن، بينما يظل الكتاب الورقي في النهاية وسيطًا باردًا"، يستطرد باتريك فريمو، مؤسّس الدار.

الكتاب الصوتي يحفّز على الفور خيال السامع، أكثر من أي سلسلة سمعية بصرية أخرى. عند الاستماع، لا يساورنا أدنى شك في أن الصوت يتحدّث إلينا".

ومن المزايا الأخرى للكتاب الصوتي، التي أدركها بعض الممثّلين في ذلك الوقت، نسقه المتجانس واحترام النص المقروء، كما أشار كريستيان هوغونيت، رئيس مؤسسة Semaine Sound التابعة لليونسكو: "نحن نحترم المؤلف وفي نفس الوقت نفتح باباً على العالم، بفضل الأصوات الراسخة في الحاضر. إن قوة الصوت تكمن في زمنها الحاضر".

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استفاد الكتاب الصوتي من التقدم التكنولوجي الذي سيميز لاحقاً المراحل المختلفة من تاريخه. وفي هذا السياق، مثّل ظهور مشغّل الأصوات بصيغة MP3 ثورة في المجال بكل بساطة، بعد أن كان تسجيل الكتاب الصوتي في البداية يعتمد القرص المضغوط ويتطلب مساحة كبيرة. في الوقت نفسه، ستمكّن الأجهزة الجديدة القادرة على تشغيل مختلف أنماط الصوت من استخدام الأجهزة المحمولة بالتوازي مع ممارسة أنشطة أخرى. وبالتالي؛ فإن تطوير الهواتف الذكية ومشغلات الموسيقى وتزايد عدد ناشري الكتب الصوتية القادمين من الصناعة الورقية سيساهم حقًا في تسريع تشكيل سوق الكتاب الصوتي.
 

في سوق وعالم مترابطين

شيئًا فشيئًا، أنشأت دور النشر الكبرى، الواحدة تلو الأخرى، مجموعات مخصّصة للكتب الصوتية. في عام 2004، أطلقت (غاليمارد) مجموعة "استمع للقراءة"، في حين أدّى الاندماج بين دور النشر Hachette وAlbin Michel وFrance Loisirs إلى نشأة منصة Audiolib في عام 2008. لكن تغيّرات المشهد الصوتي لم تكن جليّة إلا بعد ظهور بعض منصات التنزيل، وخاصّة Audible، التي اشترتها أمازون في عام 2008. بينما استحوذت كل من الولايات المتحدة وألمانيا والسويد على أكبر الأسواق عبر التاريخ، بدت فرنسا قلقة بنفس القدر من ظهور فاعلين مهمين ومنصات منافسة.

في عام 2021، ساهم ظهور المشغل الصوتي (Merlin) بالشراكة بين "بايارد" Bayard وراديو فرنسا في خلق مناهج جديدة في النظام الصوتي، مثل مشغّل الصوت للأطفال أو "عُلب القصص": لاحظ أنتوني فورنييه، المحرّر الصوتي في إصدارات بايارد، "أن التقارب بين راديو فرنسا وبايارد يمثّل همزة وصل بين مجالين في الصناعة الصوتية. لذلك من الممكن أن تولّد هذه الشراكة شراكات أخرى، على سبيل المثال نحو الأداء الحي".

إلى جانب التأسيس التدريجي لهذا السوق، ساهمت العديد من الهياكل النقابية تاريخياً في الاعتراف بالكتاب الصوتي. وهكذا، تم إنشاء جمعية "اقرأ" غير المعلنة في عام 2002 ونحتت لنفسها اسمًا من خلال إنتاج الكتب الصوتية بقدراتها الذاتية، بينما لم يتم الانتهاء من بناء السوق بعد. ومنذ اثني عشر عامًا، يتم منح جائزة France Culture للكتاب الصوتي، تكريماً لأفضل "الكتب التي يمكن الاستماع إليها". وفي عام 2009، قامت جمعية "ريشة الطاووس" La Plume de Paon، التي ترأسها سيسيل بالوزينسكي، بحملة لدعم الكتب الصوتية بأبعادها الثقافية والتعليمية والاجتماعية. في كل عام، يمنح المركز الوطني للكتاب الجائزة الكبرى للكتب الصوتية، تغطي فئاتها المختلفة الكتب المعاصرة والكلاسيكية والوثائق، وكذلك كتب الأطفال والرواية البوليسية.

مختبر تجريبي

على غرار الراديو، يحتل الكتاب الصوتي اليوم مكانة خاصة في مجال الإبداع والثقافة ضمن مشهد متغيّر بالكامل. ويفسّر الممثل الكوميدي روبن رينوتشي ذلك بقوله: "إن التسجيل أمام الميكروفون يتطلّب فهماً، يُمكّن من نقل صور المؤلف بطريقة مسموعة". من الضروري الوصول إلى نقاء العبارة عبر محو الذات تمامًا، حد التماهي مع التأثير الصوتي المطلوب".

وبعد أن قام بتسجيل صوتي لكتاب "البحث عن الوقت الضائع" لمارسيل بروست في الإصدارات الكاملة لدار النشر Thélème بالشراكة مع خمسة ممثلين آخرين، قام روبن رينوتشي أيضاً بتسجيل رواية "الشذوذ" L'Anomalie لهيرفي لو تيلير، الحائزة على جائزة غونكور في عام 2020 والتي فاقت مبيعاتها الورقية الآن أكثر من مليون نسخة. تقول لوريت ساجيت، مديرة تطوير الكتب الصوتية في غاليمارد: "بحجم مبيعات بلغ 15000 نسخة، يؤكد الكتاب الصوتي صحّة قاعدة 1٪". ولكن بعيدًا عن هذه النسبة المئوية مقارنة بالشكل المطبوع الأولي، يمكن أن يصبح الكتاب الصوتي بديلاً موثوقًا عن الورقي".

وسواء تعلق الأمر بالكتب الصوتية أو الراديو أو وسائل الإعلام الأخرى؛ فإن كل هذه المبادرات تساهم بالتأكيد في التشجيع على القراءة بجميع أشكالها وتيسير اكتشاف النصوص الأساسية من قبل أكثر الجماهير تنوعًا. لقد أثبت الكتاب الصوتي، منذ اختراعه، أنه نوع أدبي مستقل بذاته، بمنهج عابر للثقافة. ورغم أن القراءة مثّلت دائماً "قضية وطنية أساسية"، إلا أن الكتب الصوتية لم يُسمع صوتها عالياً بعد.
 


 


المصدر
: مجلة Lire Magazine Littéraire - عدد مايو 2022.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها