الواقعية في أعمال عبد القادر الريس

أمير الشلّي


الواقعية هي حركة فنية ظهرت في كل من فرنسا وبريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر.. جاء هذا التيار الفني كردة فعل تجاه المدارس الفنية التي انشغلت لعقود في رسم الطبقات الملكية والأرستقراطية دون الاكتراث بالطبقات الفقيرة والمهمشة. وهكذا أوْلى رواد تيار الواقعية اهتمامهم في رسم الطبيعة وأشكال الحياة البسيطة دون مبالغة أو أدنى تحريف.


نشأت الواقعية في فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1848 لتكتسح بعدها كامل أنحاء أوروبا. ليصل صداها إلى مشارق الأرض ومغاربها حيث كان للاستعمار دور كبير في نشر الثقافة الأوروبية في العالم العربي ومن بينها ثقافة الفنون التشكيلية. تأثر عدد من الفنانين العرب بهذا التيار الفني، فرسموا لوحات ذات التوجه الواقعي استمدوا مواضيعهم من خصوصية بيئتهم العربية الإسلامية، وبهذه الطريقة صنعوا نماذج تؤكد استقلاليتهم الفكرية والثقافية.

يعد الفنان التشكيلي الإماراتي عبد القادر الريس أحد أبرز الرسامين الذين اتبعوا المنهج الواقعي في فن الرسم. ولد عبد القادر الريس سنة 1951 في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة. عندما كان في سن 14 توفي والده مما جعل عائلته تمر بظروف مادية صعبة، ما أجبره على الانتقال للعيش في الكويت مع أخته. مكث الريس في الكويت حتى بلغ 18 من عمره، وفي ذلك الوقت أكمل تعليمه الأساسي في المدرسة النحوية. في عام 1974 عاد إلى الإمارات المتحدة، وتابع تعليمه ليتحصل على شهادة في الشريعة والقانون من جامعة الإمارات العربية المتحدة. منذ عام 1974، توقف الريس عن الرسم تمامًا لمدة 12 عامًا لأسباب مجهولة، ليعود بعد انقطاع طويل فرسم التراث العمراني الخليجي والطبيعية الإماراتية الساحرة.

حظيت هذه الرسومات باهتمام هائل من وسائل الإعلام الوطنية والدولية، ليصبح بعد سنوات قليلة اسماً بارزًا في مجال الفنون الجميلة في الإمارات ودول الخليجي العربي. عُرضت أعمال الريس في عديد الأماكن المرموقة داخل وخارج وطنه الأم. كما تحصل على عديد الجوائز المحلية والدولية من أهمها جائزة السعفة الذهبية في معرض مجلس التعاون لدول الخليج العربي. يمكن العثور على لوحات الريس في القصور الإماراتية والمكاتب الحكومية، وفي المجموعات الفنية الشخصية لأفراد العائلة المالكة في دبي.

ارتبط اسم عبد القادر الريس بالأسلوب الواقعي الذي يتسم بنقل التناقضات الدراماتيكية للظل والضوء. رسم عبد القادر بيئته بكامل تفاصيلها سواء العمرانية أو الطبيعية. رسم الفنان في الهواء الطلق مازجًا المثالية الكلاسيكية مع التفاصيل الطبيعية مما أدى إلى إنتاج أعمال شديدة التطابق مع الواقع. رسم الريس المناظر الطبيعية والريفية لدولة الإمارات العربية المتحدة، من جبال وصحاري وواحات ونباتات وبحار وسماوات. كما رسم المباني والبيوت وأبراج الرياح والمراكب الشراعية. لم يحقق عبد القادر الريس تطورات رائدة في تصوير مصدر الضوء الطبيعي فحسب، بل كان أيضًا من أوائل الفنانين من جيله الذين اهتموا بشدّة بشروق وغروب الشمس في أعماله. كانت المناظر الصحراوية الشهيرة التي استكشف فيها هذه التأثيرات مصدر إلهام لرسامي المناظر الطبيعية من بعده.

لم يكتف الفنان برسم بيئته بكامل تفاصيلها حيث اهتم برسم وجوه الأطفال والبسطاء من حوله، هذه البورتريهات تتسم جميعها بالدقّة في رسم الجسد وملامح الوجه. ملامح وتعابير رسمها بدقّة متناهية اهتم فيها بإظهار الظل والضوء مما أدى إلى خلق مشاهد تنافس في واقعيتها الصور الفوتوغرافية. هي لوحات ذات طابع سردي تُجسد الحياة اليومية للمواطن البسيط. كما تطرقت أعماله إلى قضايا سياسية واجتماعية في جميع أنحاء المنطقة العربية، لا سيما القضية الفلسطينية وحرب الخليج والأزمة السورية.

بداية من سلسلة لوحاته التشخيصية بدأ عبد القادر يتمرد تدريجياً على الأسس الجمالية للفن الواقعي من خلال الاقتصار على رسم الانطباعات اللونية، والاستغناء عن بعض التفاصيل التي فضّل استبدالها بضربات الفرشاة السريعة، وطلاء خلفية العمل بمساحات لونية ذات نتوءات بارزة. اعتمد نفس المنوال عند رسمه لبعض المشاهد الحضرية والطبيعية مع إدراج زخارف وبعض الرموز التراثية، وجعلها تستقر في خلفية مشاهده الطبيعية. وهكذا أصبح له أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره.

بدأ الريس باعتماد الأسلوب الواقعي ليتخلص تدريجيًا من حدود الشكل لتحضر شخوصه في شكل أطياف لونية ذات العيون والملامح الواقعية، هذا التفكك التدريجي في البنية التشخيصية، نبّأ بتركه التوجه الواقعي نحو صياغة أشكال تعبيرية جديدة أكثر ذاتية. وهكذا انتقل تدريجياً نحو الأسلوب التجريدي، فرسم لوحات رغم تجردها من التشخيص السردي إلا أنها تحمل بين ألوانها وأشكالها عناصر ورموزاً مستمدة من بيئته وتراثه. ليدخل عليها في فترة متأخرة من حياته الخط العربي، ما جعل أعماله تصبح أكثر ديناميكية ذات اختيارات لونية، غالبًا ما تراوح بين الحارة والتُرابية مما جعل لوحاته تشع بالدفء والحيوية.

إن الفنان عبد القادر الريس هو فنان مخضرم، فرغم تخصصه في التوجه الواقعي إلا أنه خيّر تركه، والانتقال إلى الانطباعية ثم إلى التجريد المطلق. عادة ما ينتهج الفنانون مذهبًا فنيًا واحدًا طوال حياتهم خوفًا من عدم تحقيق نفس النجاح الذي حظوا به، الأمر مختلف مع عبد القادر الريس الذي ما إن ينتهج أسلوباً فنياً مختلفاً إلا ويبدع فيه. فبين لوحاته الواقعية الساحرة، وبورتريهاته ذات التعابير المليئة بالعاطفة، ولوحاته التجريدية ذات الإيقاعات الهادئة، نلتمس مهارة في التجدد المستمر.

تُظهر لوحات عبد القادر الريس اعتزازه بجمال بيئته وأصالة ثقافتها، فالبرغم من التجدد الأسلوبي المستمر إلا أن هويته العربية كانت وما زالت حاضرة في جميع ممارساته.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها