الاغتراب.. في ديوان "فقط لو يَدُكِ"

د. مازن أكثم سليمان

تُشكِّلُ عتبة العنوان بوّابةً كاشِفةً لدلالات الاغتراب في ديوان "فقط لو يَدُكِ" للشّاعر الرّاحل بسّام حجّار، فلو وُجِدَتْ هذهِ اليدُ الأُنثويّة لاكتفى بها، ولما أراد غيرها؛ ولأنَّهُ -من المُرجَّح- عدم وجودها، فالذّات الشّاعِرة في اغترابين: أحدُهما اغترابٌ عن الواقع الذي يفتقدُ فيه إلى الألفة والانسجام والفعاليّة، والثّاني اغترابٌ بالمُتخيَّل الذي يُعوِّضُ فيه عطالة الذّات باستحضار كائن آخَر (أُنثويّ) يُسقِطُ عليه مُمكنات الوجود المهدورة في حقيقة الأمر. ويُمكِنُ تعيين معالِم الاغتراب في هذا الدِّيوان تبعاً للعناصر الآتية:

أوَّلاً: الاغترابُ عن الذّات

قالَ الشّاعر: "حينَ تُغادرهُ/ تتقارَبُ جُدرانُهُ/ البَيت الذي/ _موحشاً_/ يجدُ روحَهُ في الزّاويةِ/ وَيحدُسُ _منذ لحظةٍ فقط_/ بنسج العَنكبوتِ الذي/ يتدلّى/ من/ ألفتِهِ/ الشّاغِرهْ" [الصَّفحة: 9].

إنَّ إيجاد الرّوح بكامل الحفاوة السّامية في هذا الشّاهد مُرتبطٌ بوجود "البيت" المفقود والمتروك، وشرطُ الكينونة الذّاتيّة مُتعلِّقٌ باستعادة (الألفة الشّاغِرة) في هذا البيت، ولهذا فالاغتراب يمتصُّ ذات الشّاعر إنْ في عالَمه الوقائعيّ الذي خلَّفَ وراءَهُ "بيتاً" يُفترَضُ أنَّهُ يمنحُ التَّوازن، أو عبرَ مُتخيَّل هذا "البيت" الذي يُمكنُ _بإمعان تأويليّ ما_ أنْ نحدسَ بأنَّهُ هو ذاته عامل اغتراب وانكماش وهروب من الواقع إلى قوقعته المُتوارِية، التي يشعرُ فيها الشّاعر بالدِّفء والائتلاف والتَّعويض.

قالَ أيضاً: "هَل يبتعدُ الآن؟/ أم أنَّكَ تُسقِطُهُ في فراغِ/ عينيكَ البليلَتَينِ/ في يَدَيكَ/ في الهَواءِ الطَّلْقِ/ للأمكنةِ البَعيدةِ/ كأنَّ النّافذةَ وراءَكَ/ تنظرُ إلى الدّاخلِ/ وتبتعدُ هيَ أيضاً/ فيما يَأْخُذُكَ الشّارعُ والمُنعَطَفُ/ إلى غَصَّةٍ كالمُحيطْ" [الصَّفحة: 10].

من الواضح أنَّ ثمَّةَ استيفاءً دلاليّاً للاغتراب في هذا المقبوس، فمن جانبٍ أوَّل يبتعدُ "البيتُ" في فراغٍ وجوديّ يقلبُ فعاليّة "النّافذة" لتنظُرَ إلى الدّاخل حُرقةً وتيهاً وغياباً، ومن جانبٍ ثانٍ لا يأخذُ "الشّارع والمُنعطَفُ" والعالَمُ الخارجيُّ الشّاعرَ إلاّ إلى "غصَّةٍ" تُشكِّلُ مُعادِلاً وجوديّاً للاغتراب المُمتد بعمق واتِّساع "كالمُحيط"، فالذّات واقعةٌ -لا محالة- في براثن اغترابٍ عنها إنْ بمُحاوَلة مُطابَقتِها (الخارج/ العالَم) الوقائعيّ، أو بمُحاوَلة مُطابقتِها (الدّاخلِ/ البيت) المُتخيَّل، ثُمَّ بتشتُّتها عنهُما في آنٍ معاً.

ثانياً: اغترابُ الحُبّ

قالَ الشّاعر: "هل يأتي غُرباء/ ويَأْخُذونَ شَمْعَتي/ وأبكي/ أو نَنَامُ/ شَقيقينِ خائِفينِ في سَرير" [الصَّفحة: 36].

ينهضُ الاستفهامُ في هذا النص على خيارين دلاليين يوطِّدان حالة الحبّ الاغترابيّة، فالـ"غُرباء" إذا أتوا، فلكي يأخذوا "الشَّمعة" بقُدرتِها على الإضاءة والأُنس والانسجام، بما هيَ رموز لحالة الحُبّ وجدانيّاً وحسِّيّاً وجَماليّاً؛ أي إنَّ الـ"غُرباء" الذينَ هُم رمز البِنية الاجتماعيّة في العالَم المُحيط بالذّات العاشِقة سيتسبَّبونَ إذا أتوا بالظَّلام وبُكاء الذّات واغترابِها عن حالة الحُبّ.

غيرَ أنَّ مُواجهةُ هذا الفعل الاغترابيّ لنْ تكونَ إلاّ اغتراباً أشدّ في الحُبّ عبرَ تجميد فعل الحُبّ بينَ الحبيبيْن اللَّذيْن سينامان كَـ"شَقيقين خائفين في سَرير"، فالخَيار الدَّلاليّ الثّاني هو فعل إطاحة أو فعل إرجاء -في أقلّ تقدير- للحُبّ الخائف في قلبِ مكانهِ الذي يُفترَضُ أنَّهُ مكانه الأثير؛ وهو: الـ"سَرير".

قالَ أيضاً: "هَذا سَرابٌ/ أَنْ نَلْتَقي في حُجْرَةٍ واحدةٍ/ على سريرين مُتَلاصِقَين/ نَبْحَثُ عن جَسَدَينا الضّائعين" [الصَّفحة: 47].

نعم: إنَّهُ "سَرابٌ" هذا الذي يُسمَّى بِالحُبّ؛ لأنَّهُ ينطلِقُ بدايةً بوصفهِ تعويضاً عن الاغتراب في العالَم المُحيط لا بوصفِهِ فعلَ كينونةٍ أصيل، ولأنَّهُ –أيضاً- حتّى بعد الهُروب إلى "حُجْرَةٍ واحدةٍ"، و"على سريرين مُتَلاصِقَين" ظلَّ الجسدان العاشقان ضائعيْن، وظلَّت ذاتا العاشقين مُغتربتين عن نفسِهِما، وعن الحُبّ في انبساطِهِ الحُرّ الجميل.

ثالثاً: الاغترابُ عن الآخَر

قالَ الشّاعر: "هَذَا سَرابٌ/ أَنْ يَكونَ الجَمْعُ هُنا/ وأَنْ أَهْتَدي إلى النّافِذَةِ/ لأرى/ أنَّني خَلْفَ النّافِذَةِ/ وأَنَّ الجَمْعَ يَبْتَعِدُ/ أَنْ أَهْتَدي إلى النّافِذَةِ/ حِينَ يَرْحَلُونَ/ وأَراهُمْ يَغْتَسِلُونَ/ بالمِلْحِ/ ويَطْردونَ أَرواحَ أَيْديهم/ وأَراهُم/ يَنْتَظِرُون" [الصَّفحة: 54].

يبدو اغترابُ الذّات الشّاعِرة عن الآخَر في هذا الشّاهد مرتبطاً باغتراب الآخَر ذاته عن نفسه، فالشّاعر يحكمُ بِالـ"سَراب" المُتعلِّق بحُضور الآخَر عبرَ ثلاثةِ مُستويات:
1. "أَنْ يَكونَ الجَمْعُ هُنا": فوجود الجمع بمحيط الشّاعر هو الحالة (السَّرابيّة) الأُولى التي تُعيِّنُ الاغتراب.
2. "وأَنْ أَهْتَدي إلى النّافِذَةِ/ لأرى/ أنَّني خَلْفَ النّافِذَةِ/ وأَنَّ الجَمْعَ يَبْتَعِدُ/ أَنْ أَهْتَدي إلى النّافِذَةِ/ حِينَ يَرْحَلُونَ": ولا ينفي الحُضورُ في "الرَّحيل" و"ابتعاد" الجمع الاغترابَ، بقدر ما يُعمِّقُ هذا "الرَّحيلُ" الاغترابَ، ليكونَ مُدجَّجاً بالفقدان والتَّنائي وفعل "الرُّؤية: أرى" القلبيّة المُوحش.
3. "وأَراهُمْ يَغْتَسِلُونَ/ بالمِلْحِ/ ويَطْردونَ أَرواحَ أَيْديهم/ وأَراهُم/ يَنْتَظِرُون": بعد حُضور الجمع، ثُمَّ حضورهِم المقلوب بوصفِهِ ابتعاداً وغِياباً، تأتي حالةُ الاغتراب الثّالثة بتعليق الزَّمن، والحُضور في لحظة السُّكون و"الانتظار"، بما هيَ لحظة اغتراب الذّات الشّاعِرة عن الجماعة باغتراب الجماعة ذاتِها عن نفسِها.

قالَ أيضاً: "لا تَحْسَبي أَنَّني أَضْحكُ/ أو أَبكي/ لأنَّ الوقتَ والأصدقاءَ وحَشْدَ المُوَظَّفِينَ والحَانَات/ هُنا/ أَضْحكُ لأنَّ يَدَيكِ قَريبتان/ أَبكي لأنَّ يديكِ بَعيدَتان" [الصَّفحة: 72].

لا يحملُ حُضور الآخَر للذّات الشّاعِرة أيَّة دلالة، فهو كالغِياب، والاغتراب لا ينجلي بوجود الأُنثى لسببين: الأوَّل أنَّ حُضورَها قلِق وغير مُستقرّ، فهو موزَّع في الحركيّة المُضطربة لثُنائيَّة (القُرب/ البُعد)، التي تنجمُ عنها ثُنائيّة (الضَّحك/ البُكاء)، والسَّبب الثّاني أنَّ حُضور الأُنثى -في حدِّ ذاتِهِ- ينطوي على دلالة الهُروب إلى الحُبّ بوصفِهِ ردَّةَ فعلٍ وهميّة على الاغتراب عن الآخَر، لا بوصفِهِ فعلَ كينونةٍ أصيل.

رابعاً: الاغترابُ الوجوديّ

قالَ الشّاعر: "الرِّحلةُ طويلة وشاقّة في المسَافةِ بين النّافذةِ والسَّريرْ؛ كُنتُ أخافُ لأنَّني لَمْ/ أَكُن أَعلَمُ إلى أَينَ يُفْضي بي النَّومُ كُلَّ ليلةٍ. كُنتُ أَعلَمُ أنَّهُ ليسَ موتاً،/ ليسَ يَقظةً، بل يقظة الموتِ في خُرافاتِهِ المُلَوَّنةْ" [الصَّفحة: 23].

إنَّ "الرِّحلةَ طويلةٌ وشاقَّةٌ في المسَافةِ بين النّافذةِ والسَّريرْ" بفعل الخوف، والخوف فعلُ وجودٍ اغترابيّ زائف كما يرى هيدغر، ولاسيما أنَّ مُسبِّبَ هذا الخوف هو سُؤال الموت والمصير والغِياب، لهذا تضطربُ رحلةُ "النَّوم" لدى الذّات الشّاعِرة بوقوعِها فريسة سديم (اليقظة/ الموت)؛ أي بانفتاح الوجود على اغتراب الخوف من المجهول، لا على تعيين الموجود البشريّ لذاتِهِ في وجودٍ حقيقيّ يُستبدِلُ بالخوفِ القلَقَ عبرَ كينونة أصيلة يدعوها هيدغر: "الوجود-للموت".

قالَ أيضاً: "لَمْ أَجِدْ ما يُشْغِلُني عَنْ ضِيقِ البَارحةِ/ كانَ وَقتُ البَارحةِ قليلاً بعضَ الشَّيء/ نَهارٌ يبدأُ بالقهوةِ الصَّباحيَّةِ/ وينتهي بالقهوةِ الصَّباحيَّةِ/ وبينَ الصَّباحينِ وقتٌ قليلٌ/ للعيشِ العُمُوميِّ/ والنَّظَافةِ" [الصَّفحة: 83].

لعلَّ إشكاليّة الزَّمانيّة من أكثر الإشكاليّات الدَّالَّة على خطر الوقوع في الاغتراب الوجوديّ، فالوقتُ يكادُ لا يتحرَّكُ عند الذّات الشّاعِرة: "نَهارٌ يبدأُ بالقهوةِ الصَّباحيَّةِ/ وينتهي بالقهوةِ الصَّباحيَّةِ"، وهوَ نهارٌ قليلٌ وضيّقٌ ولا شاغِلة فيهِ، وكُلّ ما هنالكَ أنَّهُ امتدادٌ زمنيٌّ سُحِبَتْ أصالتَهُ الكيانيّة وسقَطَ في المعيش العيانيّ اليوميّ، حيثُ تنفتِحُ فَجوة الحياة على اغتراب الذّات عن أسئلتِها الحقيقيّة التي هربتْ منها إلى الـ"العيشِ العُمُوميِّ" الزّائف.

وهكذا، تنبسطُ أساليبُ الوجود في ديوان "فقط لو يدُكِ" لبسّام حجّار عبرَ استيفاءٍ دلاليٍّ مُتعدِّد الطَّبقات لكيفيات الاغتراب، انطلاقاً من الاغتراب عن الذّات التي تفتقدُ إلى التَّوازن في ظلِّ الوحشة العارمة التي تُحيطُ بها، مُروراً باغتراب الحُبّ الذي يُخفِقُ في أنْ يكونَ فعلَ وجودٍ أصيل بقدر ما هو فعلُ هُروبٍ، ولاسيما في ضوء الاغتراب عن الآخَر والجماعة الاجتماعيّة المُحيطة بالشّاعر التي تُعاني هيَ نفسها –أصلاً- من الاغتراب، وانتهاءً بالاغتراب الوجوديّ الذي يَدفَعُ في ظلّ غياب الأجوبة المُطمئنَّة عن أسئلة المصير والموت والغِياب إلى الالتحاق بأساليب وجودٍ يوميّةٍ زائفة.





ديوان "فقط لو يَدُكِ": بسّام حجّار (بيروت - لبنان: دار الفارابي، ط1، 1990).

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها