راهنية البحث التناصي في الشعر المغربي

نحو استكشاف التفاعلات النصية في القصيدة المغربية المعاصرة

نبيل الهومي


تحفل إنتاجات الأدباء المغاربة المعاصرين بالكثير من الدرر الإبداعية، ولا جرم أن تميز أهل المغرب في مجال الأدب، وسيما في ميدان الشعر، يقدم إلماعة حول الحركة الثقافية التي يعرفها شعراء المغرب المعاصرين، وتخلع على أعمالهم صفة الإبداع، وخصيصة التميز، ويرجع هذا الإبداع في الشعر المغربي المعاصر إلى مُكْنَةِ مبدعي النصوص بالأساس، ذلك أن كتب التراجم تطالعنا بِسِيَرٍ ثَرَّةٍ عن شعراء المغرب، الذين ذاع صيتهم في البقاع، ودَوَّى ذكرهم في الآفاق. وتبعاً لذلك، يجد الدارس للنصوص الشعرية المغربية، على اختلاف تجارب أصحابها، فرصة سانحة للوقوف عند آيات الإبداع، ومكامن الفرادة، وكسر مغاليق الدلالة، من أجل إثبات أصالة الإبداع الشعري المغربي المعاصر، لاسيما وأن كثيراً من النصوص الشعرية المغربية المعاصرة تغيب عن عيون الدارسين، ولا تقر بأذهانهم إلا نصوص مشرقية يَطَّرِدُ الحديث عنها في كتب الأدب، وتدعي احتواء جزالة اللفظ وجلال المعنى. وبذلك يتسرب الوهم إلى أن بلاد المغرب في الحقبة المعاصرة لم تنتج إبداعاً، وأن ضمور الحس الإبداعي لكُتَّابِهَا ناتج أساساً عن الاستنساخ والاجترار والتقليد.


على الرغم من ازدهار الرواية في الفترة المعاصرة، فإن الشعر حافظ على مكانته الأثيرة؛ إذ تطالعنا في هذا العصر مجموعة من الدواوين الشعرية الرائقة، التي تنوعت أغراضها، وتعددت مقاصدها، كما أن بروز مجموعة من الشعراء، الذين مهروا في سكب تجاربهم الحياتية في قوالب إبداعية، وتضمين تجارب الآخرين وبث روح المعاناة التي تراودهم والآلام التي رسف بها واقعهم في نصوص شعرية، أدى إلى إشعاع هذا الجنس في بلاد المغرب.

تتعدد دواعي دراسة "التناص في الشعر العربي المعاصر بالمغرب"؛ ومنها أن التناص يعد من المفاهيم الرحالة بين نفر من المبدعين، ولا غرو أن المفاهيم الرحالة مفاهيم ثرّة لا تموت، وتبقى خالدة في أتون الدراسة ودهاليز النقد. ويعزى حضور مفهوم التناص بشكل مطرد في الشعر المغربي المعاصر إلى كونه ضرورة إبداعية ملحة، فلا مناص للشاعر وهو يقدم على نظم القصيدة من الاستناد إلى النصوص الأخرى الغائبة، بغية تدبيج عمله واستيحاء أفكاره. كما أن النص الشعري المغربي المعاصر، وسيما نصوص شعراء من قبيل إسماعيل زويريق، وعبد الكريم الطبال، ومصطفى الشليح، ومحمـد علي الرباوي، تتجاذبها مجموعة من الثقافات التي تلتقي في فضائها الفسيح، وتصويب سهم الدراسة نحو دراسة التناص في شعر هؤلاء، مردّه إلى ما يحدث من تفاعل ومواءمة بين المضامين الشعرية عندهم، سيما أنهم يتسمون بحصافة الرأي وسعة الثقافة، وقد تأتت هذه الملكة للشعراء المغاربة من خلال النهل من مشارب ثقافية متعددة، كانت دافعاً محفزاً لإبداع أشعارهم، فضمنوا بذلك قصائدهم مختلف المعاني التي حازها شغاف قلبهم، واحتوتها حافظتهم.

وقد شكلت عوالم الحكي الإنساني بما تضمنته من قصص وحكايات، وباعتبارها آثاراً خالدة وجهة هؤلاء الشعراء المعاصرين، في النهل من معانيها السامقة، والاهتداء بوحيها والاستنارة بهديها. كما أن من العوامل التي تجعل الدارسين يُيَمِّمُونَ وجههم شطر هذا البحث هو تركيز الدَّارِسِينَ في دراستهم للشعر المغربي المعاصر على البحث في الصور التي يحفل بها هذا الشعر، ومنها على سبيل التمثيل لا الحصر صورة المرأة1، واعتناؤهم كذلك بما يَضُمُّهُ هذا الشعر من أبعاد2، وغضهم الطرف عن البحث في تعالق نصوص الشعر المغربي المعاصر مع نصوص أخرى غائبة، سيما وأننا نجد ندرة في البحوث التي تطرقت للبحث في التناص الحاضر في ثنايا قصائد الشعراء المغاربة المعاصرين مقارنة بنظرائهم المشارقة.

أضف إلى هذا أن البحث في الشعر المغربي المعاصر هو محاولة لإثبات أصالة الإبداع الشعري المغربي المعاصر، على اعتبار أن أعلامه على علم بصناعة الشعر وقرضه، فضلاً على ما أُوثِرَ عنهم من الذكاء وطول الباع وسعة الاطلاع، وما عرف عنهم من بلاغة القول وفصاحة اللسان. ولربما سيمكن البحث التناصي في الشعر المغربي المعاصر من تخليص هذا الضرب من الإبداع في الفترة المعاصرة، مما حاق به من الظنون الجانحة أغلبها إلى وسم هذا الشعر بوسم الغموض والغرابة، ورد الاعتبار بذلك إلى نصوص شعرية مغربية معاصرة خرجت عن المعتاد والمألوف، وجنحت نحو انتحاء منحى وجداني في بناء كلماتها، وتسطير أقوالها، في زمن ما عادت كتابة الشعر فيه تغري أحداً، وأضحت مثار إهمال وإحجام وانصراف من قبل الناس، حتى إن بروديسكي استقدم يوماً إلى المحكمة بتهمة الطفيلية والكسل، فلما سأله القاضي عن مهنته أجاب بروديسكي: "أنا شاعر فسأله القاضي: لماذا ترفض أن تعمل؟ أجاب برودسكي3: أنا أعمل، أكتب قصائد"4.

أسئلة التفاعلات النصية داخل القصيدة المغربية:

تتحدد الإشكالية الرئيسة للبحث في رصد اشتغال التناص داخل نصوص الشعراء المغاربة المعاصرين، وكيفية توظيف شعراء الحقبة المعاصرة للتفاعلات النصية داخل قصائدهم الشعرية، وتبعاً لهذه الإشكالية تهجس بأذهان الدارسين مجموعة من الأسئلة المتناسلة، يمكن إيجازها في العناصر الآتية:
◂ كيف يتم توظيف التناص في الشعر المغربي المعاصر؟
◂ هل تحدث تعديلات وتغييرات على مستوى النص المصدر ليتلاءم مع النص المستقبل؟
◂ ما حدود الثبات والتغير في النص المهاجر إليه؟
◂ هل يمكن أن نعد التفاعلات النصية داخل الشعر المغربي المعاصر وسائل للإقناع؟
◂ ما مدى إسهام التناص في تحقيق فعل الإقناع لدى متلقي الشعر المغربي المعاصر؟
◂ هل يتم بناء سياق النص المصدر داخل النص المستقبل؟
◂ كيف تتم عملية تأويل التناص في الشعر المغربي المعاصر من قبل النقاد، وما دلالة هذه التأويلات؟

 الدراسات المقاربة للتناص في الشعر المغربي المعاصر:

يجد الناظر في البحوث التي تعرضت للتناص في الشعر العربي المعاصر وفرة في الإنتاج؛ إذ تطالعنا كثير من البحوث التي اتخذت من قصائد الشعراء العرب المعاصرين متوناً للاشتغال، غير أن الملاحظ هو كثرة الأبحاث التي تعرضت للتناص في الشعر المشرقي مقارنة مع صنوه المغربي، ذلك أن المتأمل في الدراسات التي قاربت التناص في قصائد الشعراء المغاربة المعاصرين يجد ندرة في هذا المجال، بل إننا لا نكاد نظفر بدراسة مستقلة وسمت بعنوان "التناص في الشعر المغربي المعاصر"، واتخذت من القصائد الشعرية المغربية المعاصرة نماذج للاشتغال، ومع ذلك فقد حضرت دراسة التناص في الشعر المغربي المعاصر في ثنايا دراسات قيمة، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر:

1- ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب؛ مقاربة بنيوية تكوينية للدكتور محمـد بنيس؛ هي في الأصل رسالة جامعية تقدم بها محمـد بنيس لنيل دبلوم الدراسات العليا، قارب فيها الشعر المغربي المعاصر من زاوية المنهج التكويني. وبخصوص التناص، وهو مناط دراستنا في هذا البحث، فإننا نجد أن الباحث كان له قصب السبق في اعتماد المفهوم في البيئة النقدية العربية المعاصرة، ولم يطلق بنيس مصطلح التناص أو أي من مرادفاته على هذه الآلية، وإنما وضعها تحت مسمى "النص الغائب"، ويقر بنيس، في دراسته، بما أوردته فيما قبل جوليا كريستيفا، بأن النص ليس منفصلاً عن كل علاقة خارجية بالنصوص الأخرى، وإنما هو شبكة تلتقي فيها عدة نصوص، وهذه النصوص تقتبس مضامينها من نصوص أخرى يعسر على الدارس تحديدها؛ إذ يختلط فيها الحديث بالقديم، والعلمي بالأدبي، واليومي بالخاص، والذاتي بالموضوعي، مما يؤكد أن تحليل النص الشعري لا ينبغي أن ينحو منحى المقاربة الأحادية، ويتعامل مع المتن الشعري بوعي ساذج، بل إن المحلل ينبغي أن يتسلح بثقافة واسعة تجعله يلامس خبايا النص كلها، ويسبر أغوار عوالمه اللامتناهية، وقد حدد بنيس قوانين التناص في الاجترار، وهو تكرار النص القديم وفيه ما يسمى بنسخ النص، والامتصاص، ثم الحوار وهو الذي يتم عن طريقه استحضار النص الغائب5.

2- تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830م إلى 1990م للدكتور عباس الجراري؛ يدخل هذا العمل في زمرة الأعمال التي ما فتئ الباحث يؤلفها، وتنعقد في ضفيرة واحدة هدفها النهوض بالأدب المغربي وكشف إبداعيته، وإخراجه من حيز الجمود إلى دائرة الوجود، وتنبيه القراء إليه حتى تلحظه أعينهم ويتذوقوه. وقد ناقش الباحث في الفصل الثاني من الباب الثالث الموسوم بعنوان "مقومات ومؤثرات" قضية التناص، مبيناً أن الشعر المغربي الحديث، خاصة، اتجه إلى الاقتباس من النص القرآني، باعتباره نصاً مقدساً ومعجزاً. وبالتالي فقد ارتبط النص القرآني، بحسب الباحث، بأدبية النص الشعري المغربي الحديث، على اعتبار أن أغلب شعراء المغرب في العصر الحديث رانت على قلوبهم معاني النص القرآني، واحتوت حافظتهم على بلاغته المعجزة ولفظه الفصيح.

3- في بلاغة القصيدة المغربية، للدكتور مصطفى الشليح، هي في الأصل أطروحة نال بها صاحبها شهادة الدكتوراه تحت إشراف الدكتور عباس الجراري بجامعة محمـد الخامس بالرباط، وقد قارب الباحث في هذه الدراسة نماذج من شعر الشعراء المغاربة المحدثين؛ ومن بينهم: أحمد المجاطي وعبد الكريم ثابت.

تبعاً لما سلف، يتعين على دارس التناص في الشعر المغربي المعاصر العمل على تحليل أبعاد تلقي النصوص الشعرية المغربية المعاصرة؛ من خلال الوقوف عند البعد التداولي للنماذج الشعرية المختارة، ومسوغ الاهتمام بالبعد التداولي ينصرف إلى الإقرار بأن الخطاب لا يحقق وجوده إلا بواسطة التفاعل الحاصل بين المتكلم/ منتج الخطاب والمُخَاطَب/ متلقي الخطاب؛ سيما وأن التناص يؤثر في عملية إنتاج المعنى داخل القصيدة، ويوجه أفق انتظار المخاطبين نحو غايات خاصة يبتغيها الشاعر، وفي استحضار هذا المعطى، يتبين أن الشعر ليس فقط آلية تقوم على الإمتاع بدلاً من الإقناع، انطلاقاً من حقيقة ترسخت في أذهان النقاد مؤداها أن "الشعر لا يخاطب في المتلقي غير عاطفته، ولا يحرك فيه إلا أحاسيسه، بل لا يصور من العالم إلا ما يطرب، فيحصل الإمتاع، ويتأكد الإلذاذ دون أن يكون للعقل دور في حصول الإمتاع أو الإلذاذ6، بل هو كذلك يرسم معالمه داخل دائرة الإقناع، وسلطة العقل؛ إذ إن قيامه على الغموض والإلغاز والشك والخلاف، يجعله في تَمَاهٍ مستمر مع حقل الحجاج القائم على الاختلاف والاعتراض. كما أن استهداف الشعر للبعد الحجاجي المتمثل في التأثير في النفوس، وحملها على قبول الدعوى، يجعل حجيته تصل إلى حجية الأجناس النثرية ذات المقصد الحجاجي من قبيل الخطبة والرسالة، ولذلك قرر حازم القرطاجني أن الشعر يحاذي الخطابة في الإقناع بالفكر والعواطف، يقول في هذا المعنى:

"قد تقدم أن التخييل هو قوام المعاني الشعرية، والإقناع هو قوام المعاني الخطابية، واستعمال الإقناعات في الأقاويل الشعرية سائغ، إذا كان على وجه الإلماع في الموضع بعد الموضع، كما أن التخييل سائغ استعماله في الأقاويل الخطابية في الموضع بعد الموضع، وإنما ساغ لكليهما أن يستعمل يسيراً فيما تتقوم به الأخرى، لأن الغرض في الصناعتين واحد، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول، لتتأثر بمقتضاه"7.

 


مراجع: 1- صورة المرأة في الشعر المغربي المعاصر؛ أطروحة دكتوراه مسجلة باسم الطالبة سناء التراري وبإشراف أحمد هاشم الريسوني، بنية العلوم الإنسانية والترجمة، تخصص النص الأدبي العربي القديم، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، الموسم الجامعي: 2013/2014.2- نمثل لهذا بأطروحة موسومة بعنوان "البعد المأساوي في الشعر المغربي المعاصر" أعدتها الطالبة أحلام النويخ، وبإشراف الأستاذ أحمد هاشم الريسوني، بنية العلوم الإنسانية والترجمة، تخصص النص الأدبي العربي القديم، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، 2011.3- شاعر روسي حصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 1987، للمزيد من التفصيل، ينظر: شاكر نوري، برودسكي... مرآة عملاقة لكوكب معزول، المدى الثقافي، العدد 513، تشرين الأول 2005.4- نور الدين الزويتني، ديوان قلب الثلج، ط1، دار كتابنا للنشر، لبنان، 2015، ص: 48.5- ينظر: محمـد بنيس، حداثة السؤال، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1985، ص: 117.6- سامية الدريدي، الحجاج في الشعر العربي؛ بنيته وأساليبه، ط2، عالم الكتب الحديث، إربد- الأردن، 2011، ص: 49.7- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمـد الحبيب بلخوجة، ط3، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986، ص: 361.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها