سلّةُ بيض!

د. فهد أولاد الهاني

 

حدّقتُ في وجهه لبعضٍ من الوقت، كان وجهُه مَكسُوّاً بتجاعيدَ تُخبِّئ تحتَ طيّاتِها ذكريات من الأحزان العميقة، وتتناثر على مُحيّاه نُدبُ آهات تتردّد بين ثنايا تنفّسه مختلطة بشهيقه تارة وبزفيره تارة أخرى، لم يكن الوحيد الذي تظهر عليه الفاقةُ والمسْكنة بالسّوق، لكنّه كان بارزاً من بين الباعة الذين رأيتهم، قصيرَ القامة، محدودبَ الظهر، ذا لحية كثــّة بيضاء ناصعة، يُغطي رأسه بطاقية زرقاءَ من الصّوف، وبجانبه عُكازٌ يتدثّر أسفلُه بســلكٍ من حديد، يعلُوه صدأ وبعضُ ترابٍ يابس. كان يفترش أوراقاً من "الكَرْطُون"، تتخلّله ملامحُ براءة لا يكاد يُخطئها النّظر. أمّا سلّة بيضِه فقد وضعها أمام ركبتيه، وحرص على تثبيتها بحجرٍ من يمينها وآخر من يسارها. دنوتُ منه قليلاً ثمّ سألته:
- كم ثمن البيض؟

ردّ في حنوّ وعيناه بين إطباق وفتح.
- ثمانون سنتيما للواحدة. يا ولدي.

تظاهرتُ له بامتعاضي المفتعل ممّا حدّده من سعر، ثمّ أردفتُ متسائلاً بلهجة من التهكّم.
- أقلتَ ثمانين سنتيما؟ إنّه سعرٌ مبالغ فيه.

حدّجني ببصره قلِيلاً، ثمّ حدّق في سلّته هنيهة من الوقت، لم يعلق على كلامي البتّة وإنّما اكتفى بأخذ نفسٍ عميقٍ، وكأنّي به قد تجمّدَ منه اللّسانُ فلم يدر ما يقول. حِينها اغتنمتُ فرصة عجزِه عن الكلام ﻷحثّه على ضرورة تخفيض السّعر، ألححتُ عليه من دون خجل. بالغتُ في إلحاحي عليه مُبدياً له بعضاً من عيوبِ بضاعته. كنتُ متيقّناً من أنّ خطتي المغرضة ستنجح، ولذلك طلبت منه أن يخفّض السّعر إلى سبعين سنتيما..

لم يكن عرضي لينال إعجابه، فقد انعكس طلبي على قسمات وجهه حتّى اكتسحها بعضُ احمرار لافت، ولعلّه من شدّة عجزه عن الردّ فضّلَ أن يُطأطئ رأسَه متأمِّلاً سلّة بيضِه القصبيّة. آنذاك خِلتُه وهو ينظر إلى سلعته المتواضعة كأنّه يحتج على حظه التّعس، يحتج على بؤسه وفقره وقلّة حيلته وضنكه من العيش. لقد حسبته، في احتجاجه الصّامت، يلعنُ كلّ دجاجةٍ باضت بيضةً من الذلّ حتى تداعى لها فقراءٌ مُعوزون. صحيحٌ أنّ البيض لا يعني الفقر دائماً، فهناك من باضت له دجاجتُه ذهباً، وهناك من تذوّق أكثر من مرّة بيض البحرِ مع قنينة من الخمر اﻷحمر المعتَّق، ذاق كلّ ذلك وربّما أكثر وبمعيّته حسناء تتثنّى له بمفاتنَ من قِوامها فيلعق منها لذّة تضاهي ما يلعقه من شرابه. يلعق منها كلّ شيء، يلعق تحتها بعد أن يستدرج فوقها، وقد تبيض له فيتنكّر لها، وأحياناً قد يعلق هو بسلّتها فيبيض لها ممّا يملك بيضاً لا تنكسر قشرته، عساه بذلك يحقّق أحلامها التي لا تتكسّر؛ وكيف لها أن تتكسّر وقد مُلك قلبه بغمزة من عين، أو هزّةٍ من رِدف، أو بسمة من ثغر...

كان البائع العجوز غارقاً في حيرة من التردّد حينما ذكرته بمقترحي من السّعر، ناقلاً له عرضي بلغة مختصرة، لكنّها لغة لا تحتمل التّأويل، لغة تفصح بألفاظها عن مناوراتي التي لا تأبه بسنّ الرّجل وحاله من الضعف
- سبعون سنتيما هو الثّمن الذي سأمنحك إيّاه مقابل كلّ بيضة، ما رأيك؟ سأبتاع منك عدداً لا بأس به.

تأمّلتُه في صمت، فلمّا استشعر منِّي تحديقيَّ المزعج، قاطعني بهَمْهَمة تختزل كلّ معاني الرّفض والممانعة:
- إييه يا ولدي، لا يمكن. الثمن عندي وعند الجميع هو هو . الثمنُ معلومٌ اليومَ عند كلّ الناس، ثمّ إنّ بيضي هذا طازَجٌ ونقي. ألستَ ترى جودته وفخامته؟

أجبته من دون اكتراث:
- لكنّ البيض موجود بكثرة في السّوق، وعسى أن يجد من يشتريه، كما أنّ وقت يوم السّوق قد بدأ ينفد، وبعد قليل سيرفع المؤذن آذان صلاة المغرب.

حاول أن يردّ لكنّه فضّل أن يعدِّل من جِلسته مانعاً عكازه من السّقوط، بعد أن كان يستند إلى جدارٍ مهترئٍ من زُقاقات المدينة القديمة، لكنّه في النّهاية استجمع قُواه بالرّغم ممّا اكتنف يُمناه من رعشة خفيفة، ثمّ قال:
- وددتُ بيعه لك بأقلّ من ذلك يا ولدي.
غير أنّه أردف معلِّلاً:
- البيض سعرُه في ارتفاع كلّما كثُرت الحفلات، وكلّما أُصِيبت الدّواجنُ بأمراض معدية. ثم إنّه ليس لنا ممّا نبيعه إلّا قليل من الرّبح. زِدْ على هذا عِظم المشقّة وبُعد المسافة ومصاريف التنقّل...

تعمّد أن يختم كلامه بابتسامة ودودة، ابتلع على إثرها بعضاً من ريقه أو ربّما أكثر من ذلك. حينها ساد بعض الصمت بيني وبينه، لكنّي أشحت بنظري عنه إلى بائع الخضر الذي بجواره، وهممت بالمشي موحياً له بفقدان زبون ربّما كان سيحظى منه بشراء قدر لا بأس به من بضاعته. وحينما انصرفتُ عنه تناهى إليَّ صوته السّبعينيّ الذي يخالطُ صداه بقليل من الحشرجة، صوتٌ يتودّد لي بالعودة حيث صاحبُه، حيث العجوز، وحيث السلّة. قَفَلْتُ راجعاً بحِصان اﻻنتصار، وقد غشيني من الزّهو ما يبعث سريرتي على فرحة خبيثة، وكأنّي سِيزيفُ الذي انتصر على حكم اﻵلهة، وتطاول على قداستها بما جُبِل عليه من حيلة. نعم أنا سيزيفُ البيضيّ، هكذا سميتُ نفسي احتفاء بربح المعركة، ثمّ رفعت بصري ﻷنظر إليه فوجدته ينظر إلى سلّته بألم دفين، تلفّظ بعده متحدِّثاً: 
- خذ البيضة الواحدة بخمسة وسبعين سنتيما. خير اﻷمور أوسطها أليس هذا صحيحاً؟ خذها بارك الله لك...

أجبته متيقّناً من الانتصار ومتحاشياً خطابه:
- سبعون سنتيما هو الثّمن الذي سأدفعه في البيضة الواحدة. لن أزيد سنتيما واحداً. فالبيضُ موجودٌ في السُّوق.

هزّ رأسَه إيجاباً من دون أن ينبِس ببنت شفة، ثمّ ناولني كيساً من البلاستيك ﻷختار ما أريد. انحنيتُ على سلّة البيض فاحصاً كلّ بيضة واحدة واحدة، عازلاً أفخمَها وأشدَّها اكتنازاً. كنتُ كلّما انحنيتُ على السّلة إلاّ وخلتني عُقاباً يهجمُ من السّماء بمخالبه القاتلة على فريسته بعد طول تأمل وتربّصٍ شديدين. لقد اقتلعتُ منها ما يحصل منه رضى نفسي التي تشتهي اغتنام كلّ ثمين، بحيثُ لا أقتادُ إلى كيسي إلاّ سِمانَ البيض، تاركاً فؤاد العجوز يتحسّر على ما فضُل في سلّته من نحيلة ضعيفة مُهملة. كنتُ أدرك بأنّ خياراتي تخلع قلبه من صدره أسفاً على ما يفارق سلّته من بيض فخم. لا شكّ أنّه حدّث نفسه بمثل هذه الأسئلة:
- كيف ستبدو سلّتي بعدما اقتُلِعت منها كلّ بيضة سمينة؟ من سيقبل بما تبقّى من بيضي الهزيل؟ والسّعر ما مصيره؟ هل سيبقى على نفس القدر؟ هل سيقبل به الآخرون؟

أسئلة كثيرةٌ راودته وهو يراقب أصابع كفي التي تؤلمه بخَياراتها كلّما تردّدت بين الكيس وسلّة البيض. كانت أصابعي تُتقن الانتقاء وكأنّها تعزف بما تُصيبه من هدف، عند كلّ غارة، "نوطة" من الحزن يتردّد صداها ألماً وحسرة في أذني العجوز.

بعد وقت من الانحناء، اعتدلتُ واقفاً وقد أنهيتُ مَهَمَّتي بنجاح، طلبتُ منه أن يمدَّنِي بكيس بلاستيكيٍّ ثان معلّلاً ذلك بخوفي من هشاشة الكيس اﻷوّل حرصاً على البيض من اﻻنكسار، ثمّ دفعت له، بعد احتساب المجموع، ورقة نقديّة من فئة عشرين درهماً. لم يمهلني كثيراً من الوقت حتّى أدخل يده اليمنى بين عنقه وصدره ليسحب من تحت جلبابه البنيّ المهلهل كيساً من الجلد، كأنّهُ رمّانة محكوم عليها بالإعدام. تعمَّد أن يَفُكَّ الحبل المنعقد على رقبة الكيس بهدوء، ثمّ فتحه من فتحته فتراءت منه قِطعٌ معدنيّةٌ صفراءُ ورماديّة. انتقى منها عيّنة بعد أن قرّب عينيه من الكيس، حدّق في النّقود بإمعان، وكرّر التّحديق، فالتقط واحدة صغيرة الحجم ثمّ أخرى أكثر منها بقليل. رفع بصره نحوي بقلق ليُعيده من جديد نحو الكيس الذي يكادُ يَقِيءُ ما بداخله في راحة كف العجوز؛ لكنّه عالج ما شرد منه من نقود وأعادها إلى قطيعها حيث دِفءُ الكيس الذي تسكنه، كما يظنُّ، بركة من الله، ثم أرجع لي ما التقطه وهو يقول:
- "الله يْخْلْفْ. الله يْجازِيكْ بِخِير"

لم أكن لأكترثَ لدعائه بل أجبتُه ببسمة مصطنعة، ثمّ انصرفتُ ممسكاً كيس البيض بيدي اليسرى بعد أن ضاقت يمنايَ ممّا تحمِله من الخضر والفواكه وغير ذلك. انصرفتُ مُطرقَ الرّأس وئيدَ الخُطى، غير أنّني حقّقت هدفي بإرغام الشّيخ على تخفيض سعر البيض. كانت فرحتي عارمة، وكأنّي انتصرتُ على نابليون بونابرت. أحسستُنِي منتشياً حينما ادّخرتُ بضع سنتيمات من وراء هذه الصّفقة. يا له من يومٍ جميل، يا له من عجوز ساذج. أعتقد أنّني كنتُ مفاوضاً يتحلّى بكثيرٍ من المكر والصّبر. هكذا كلّمتُ نفسي ومدحتُها وأنا أخترقُ ازدحام السّوق الذي فاضت أزقتُه ذهاباً وإيّاباً بالمارّة والباعة والعربات المختلفة شكلاً وحجماً. راوغتُ منهم الكثير متمايِلاً جهة اليمين وحريصاً على ما بيُسراي مخافة أن ينكسِر. تزاحمتُ، تدافعتُ أحياناً، شتمتُ في صمت أحياناً أُخَر، ترجّيت بعضهم ليفسح لي فسحة ضيّقة أتسلّل من خلالها، كنتُ كلّما تجاوزتُ أحدهم إلاّ وبدلتُ كلّ جهد من جسدي لأحميَ ما بيساري..

وأخيراً؛ خرجت من زحمة السّوق إلى الشّارع الذي اعتدت أن أسلكه بخُطى من الوَقار نحو منزلي، ثمّ عرّجتُ إلى الشّارع الرّئيس الذي تتقاطع به الطرق متناسلة. حاولتُ أن أنتقلَ إلى الرّصيف المقابل، لكن شيئاً ما صدم ذِراعيَّ اﻷيسر بقوّة من الخلف وخلَعَ معه كيس البيض من يدي، حتّى سقط ما فيه على اﻹسفلت المعبّد. وقع نظري على الكيس وقد تخالط فيه المحّ مع الزّلال، والتفتُّ مفزوعاً فإذا بدرّاجة هوائيّة يقودها مراهقٌ طائش.

أدركتُ حينها أنّ المِقوَدَ الأيمنَ لدراجته قد ارتطم بي، وأنّ الدّواسةَ اليمنى لعجلته قد غاصت حافتُها في الكيس فمزّقته. لقد أدهشني ما وقع، واندهشت أكثر لضعف حيلتي في حماية البيض. خمنت في الاقتصاص من الفاعل لكنَّ بِنْيَتَهُ الجسديّة لم تشجعني على خوض المغامرة، لذلك اكتفيتُ بأن أتبعته بنظرة غاضبة وهو يبتعد عنّي. لقد ابتعد بدراجته التي كادت أن تخرج عن سيطرته إلاّ أنّه استدرك توازنه ولم يتوقف. حاولتُ أن أتظاهر باللّحاق به، غير أنّ القميص الذي كان يلبسه ثبّط من عزيمتي، كان قميصاً رياضيّاً أبيض اللّون، وعلى جِهته الخلفيّة مُلصقٌ رياضيٌّ كُتب عليه الرّقم ثمانون.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها