الثَّوب

محمد فطومي

ربّما كانت بادئ الأمر رائحة آسرة رقيقة لزهرة غابيّة سحريّة تحوّلت إلى كلمات عندما بلّلها المطر، أو ربّما أمنية أسرّها حطّابٌ في أعماقه، فأفشاها فأسه إلى شجرة حور عجوز، همست بها بدورها قبل أن تسقط. لا أحد يعلمُ تحديداً من نطق بتلك الكلمات أوّل مرّة ومتى كان ذلك وأيَّ ريحٍ حملتها إلى أرضِ الدُّخان، فتناقلتها الأفواهُ حتّى وصلتْ إلى «غايالوم» القاسي، أمير بلاد «توم تاناي» التي تعني: تلّة الرّعاة، بلغة تلك الوهاد الوحيدة والكئيبة، حيثُ سلسلة من القرى الفقيرة والجميلة المتناثرة في شكل هلال، يحكُمُها قصرٌ رماديّ، نُحِت من صخرة واحدة لامست أبراجها السّحاب.

علمنا فقط، من نصوص الورّاقين الغابرين، أنّ «غايالوم» كاد يقطعُ رأس وزير الحرب عندما بلّغه بما يُشاع:
- يروَّج بين النّاس، سعادتَكَ، أنّ في أرضنا يختبئ ثوبٌ إذا لبسه الأعزّة ذلّوا، وإذا لبسَه العامّة ازدادوا به مهابة ووقاراً.
- أيكون هذا في بلادي، دون أن أعلم! قال الأمير مغتاظاً.

غرز خنجرَه في نمرٍ مُحنّط قربَ كُرسيّه وأردف بصوت باردٍ كأنّه يخرج من فم ميّت:
- أريدُ الثّوب وإن أصبح سافلُ الأرض عاليَها.

طالت حملاتُ التّفتيش عن الثّوبِ كلَّ شبر في أرض الدُّخان. رُوّع القرَوِيّون وعمّ الخراب، وكان «غايالوم» يقتل كلَّ قائد يفشَلُ في إيجاد الثّوب، ليستبدله بآخر على الفور. أخيراً لاح له بعد أن يئس من رجالِه، أن يهبَ إقليم البرتقال من يأتيَهُ به، وأن يجعله من حاشية المقرّبين.
أحجم النّاسُ في القُرى عن الكلام وانقطعت الزيارات والتّجارة بينهم خشية أن يزلَّ لسانُ أحدهم بما قد يُكلّفُه حياته، حتّى صار أفراد العائلة الواحدة يتوجّس بعضهم من بعض ولا يأمنون جانبهم. لكنّ سُخطَ الأمير كان في ازدياد يوماً بعد آخر، خصوصاً أنّ أحداً لم يتقدّم لغنيمته الكبيرة بخبر يُطفئ اللّهيب الذي يضطرم في داخله.
حتّى جاء يوم وقف فيه رجُلٌ مُسنّ على صهوة جواده أمام بوّابة القلعة يطلبُ مقابلة الأمير في شأن يخُصّه وحده. رجّح الحُرّاسُ أنّه أتى لفكّ لغز الثّوب. بعد طول انتظارٍ أُذنَ له بالدّخول. مثل أمام الأمير الذي حال، الآن، وجهه إلى الرّمادي الأزرق لشدّة احتقانه ونفاد صبره.

- من أنتَ أيّها الرّجل وماذا تريد؟ إن كنتَ قد جئتَ لغير الثّوبِ فاعلم أنّها أنفاسك الأخيرة التي تملأ صدرك! إنّي أسمعُك فعجِّل!

ارتبك الشّيخُ وارتعدت أوصالُه:
- صدقاً، أيّها الأمير، قال مرتعشاً، أنا أجهلُ أمر الثّوبِ، ولا أظنّك تحاسب جاهلاً على جهله. بل جئتُ أطلب حلمك فما أحمله إليك عظيم. أنا طبيبٌ أيّها الأمير، جئتُك لاجئاً من بلادٍ بعيدة ظلمني فيها أهلي، طامعاً في حمايتك، حاملاً لك في كيسي هذا عُشبة تشفي من كلِّ الأسقام وتُطيل الأعمار حتّى كأنّها لا تنتهي.

أدخل الشّيخُ يده في صرّة يتأبّطُها وأخرج زهرة ذابلة، بسطها على كفّ يده وقال:
- لكن كما ترى يا سيّدي، لقد ذبُلَتْ، وما ذَبُلتْ إلّا لأنّ في أرضكَ سُمّاً مخفِيّاً في ثمرة ممّا تُنبتُ الأرض أو لحم أو خمر أو ما يخرج من البحر، لا أحد يعلمُ أيّ الأطعمة يسكنها السمّ القاتل.
- ماذا قلتَ أيّها الخرف؟ صرخ «غايالوم».
- ما كنتُ لأكذبَ عليك أيّها الأمير وأنا أطلب أن تؤمّنني، وإنّي لأخشى عليك من عدم تصديقي لأنّي لا أملك على كلامي دليلاً يعرفه كلانا ولا تملك سعادَتكَ دليلاً على كذب علمتُ بُطلانه وحدي ولم تعلَمهُ.
- بماذا تُشيرُ، حتّى نعرف أيّ الطّعام نترك جانباً فلا يُصيبنا منه أذى؟ قال «غايالوم» وقد حلّت الحيرة والقلق محلّ الغضب.
- أرسِل في كلِّ يوم صنفاً من أصناف الطّعام يُوزّعه رجالُك على المساجين والعامّة وأجزل العطاء لننظر أيّ الطّعام سيقتلهم، فتتلفه حتّى يحين من الأقدار شأنٌ آخر. ولتكتم الأمرَ كي لا يصل الخبرُ إلى النّاسِ فيُضربون عن الأكل.

هكذا راحَ الجُندُ في كلِّ مرّة يغدقون على سُكّان القرى بصنف من الطّعام، فيما كان سُكّانُ القصر يكتفون بمؤونتهم التي في المخازن.

بعد شهر، نفدت المؤن من القصر، دون أن تظهر على النّاس علامات تشير إلى الثّمرة القاتلة. راح الجوع، ينالُ من الأمير ومن معه خشية الموت. مُتطلّعين إلى السّاعة التي يُزَفُّ لهم فيها خبر قرية مات جميعُ أهلها. تدهورت صحّتهم وضاقت بهم الأرض، فيما بدا النّعيم على القرويّين وارتسم على وجوههم الخيرُ رغداً ورضاً.

ظلّ «غايالوم» مُرتاباً مُضرباً عن الطّعام، حتّى لزم الفراش لشدّة الهُزال. عندئذ ظهر الطّبيبُ العجوز. جلس على كُرسيّ محاذٍ لفراش الأمير الذي بات شاحباً خائر القُوى. تأمّل وجهه طويلاً، ثمّ قال:
- لك أن تنهض سُمُوَّك وأن تأكل ما طاب لك. لقد انتهى اليوم أمرُ الشّيء المسموم. أنتَ اليومَ رجُلٌ حُرّ.

تحامل «غايالوم» على نفسِه بجهد كي يجلس. أطبق جفْنَيْه وقد خالجَهُ شعور لذيذ بالرّاحة.
- أحقّا ما تقول؟ هل وجدتم مكمن السُمّ؟
- علِمتَ أنّي ما جئتُ من أجل الثّوب لكنّك، رغم ذلك، تركتني أعيش. فكيف، أتركُكَ تموت وقد جئتُ فقط كي أكشفه لك فتراه.

وقع في نفسِ «غايالوم» أنّه بات يعرف ما يُريد، ولمّا استدار إلى مُحدّثِه، لم يجده. فقط لمح، من خلال نافذة غرفته قمراً فضّياً يراه للمرّة الأولى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها