من الفن التجريدي إلـى الأسلوب التصويري

لوحاتٌ فـي مواجهة العنصريـة

ترجمة: الحبيب الواعي

مقال: أليكس غرينبيرغر




من "المتآمرين"، 1930 - Conspirators. (متحف ويتني للفن الأمريكي)


في عام 1930 شرع فيليب غاستن Philip Guston في العمل على "المتآمرين"، وهي لوحة طويلة تصور ثلاثة من أعضاء الكو كلوكس كلان مجتمعين وسط عناصر معمارية غامضة. كانت رؤوسهم مطأطأة وأيديهم تلوح بالهراوات وأسلحة أخرى. بعد ثلاث سنوات عُرضت اللوحة في لوس أنجلس في مكتبة ستانلي روز، غير أنه وفي انقلاب قاسٍ للقدر، انتهى الأمر بأشخاص يرتدون أغطية مدببة مشابهة لتلك التي ظهرت في العمل إلى تدمير وتمزيق لوحة "المتآمرين"، وأعمال أخرى مختلفة لغاستن بمساعدة أعضاء من قسم شرطة لوس أنجلس، وجماعة الكلان وتنظيم الفيلق الأمريكي للمحاربين القدامى.

في وقت غير بعيد من ذلك العرض المشؤوم، سيطرت جماعة "الكو كلوكس كلان Ku Klux Klan" على مقاطعة أورانج، حيث انضم إليها مسؤولون مدنيون للدفع بالإيديولوجيات العنصرية والوطنية بطرق عنيفة. شاءت الصدفة أن شهد غاستن- وهو يهودي استهدف أهله من قبل منظمة الكلو كلوكس كلان- أنشطة جماعة الكلان هناك وأصيب بالرعب مما رآه. وفي نفس السياق، قالت موزا ماير-ابنة الفنان- لـ"مجلة أرت نيوز: "لم يكن [أبي] فقط مهاجراً يهودياً من الجيل الأول فرت عائلته من المذابح في روسيا، بل كان ملتزماً بشدة بالإدلاء بالشهادة وتوثيق الظلم والوحشية كلما تحدثوا".

خلال حياته الفنية، تنوعت وتعددت أساليب غاستن وتراوحت بين ما هو تصويري مستوحى من عصر النهضة وما هو تجريدي بشكل مكتمل ورسمي، لكن يكمن الجزء الأشد غموضاً وغرابة وصعوبة في أعماله في لوحاته ورسوماته عن جماعة الكو كلوكس كلان. إن رسالة أعمال غاستن واضحة من جهة لأنه كان ينتسب إلى جماعات يسارية في بداية حياته المهنية. (قال مايكل أوبنج - أمين المعرض الذي نظم معرضاً تذكارياً لغاستن في متحف الفن الحديث في فورت وورث في تكساس- إن غاستن: "ليس إنساناً يحاول الترويج لـ"جماعة الكلان". على العكس من ذلك، وفي اعترافها القوي بالعنصرية القائمة، كانت هذه اللوحات تميل إلى استفزاز المتلقي كما يتضح من التأجيل الذي حدث الأسبوع الماضي لمعرض غاستن التذكاري، بعد أن شعرت المتاحف الأربعة العارضة بالخوف من أن لا يفهم الجمهور المعنى الحقيقي لعمل غاستن الفني حول الكلو كلوكس كلان.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي كان فن غاستن في بدايته صادماً ومروعاً؛ لأنه هاجم الواقع بمواضيعه القوية والمهمة، مسترشداً بنفس أسلوب العمل. أبدع غاستن لوحة "المتآمرين" بتكليف من نادي جون ريد التابع للحزب الشيوعي، والذي طلب منه أن يتفاعل مع حالة "الزنجي الأمريكي". ركز هذا العمل المبتكر على فتية سكوتسبورو، وهم تسعة مراهقين من السود اتُهموا زوراً باغتصاب امرأتين من البيض في ألاباما عام 1931. في إحدى لوحات غاستن، يظهر رجل من جماعة الكلان وهو يجلد شخصية شبه عارية ربطت إلى دعامة تشبه النصب التذكاري لجورج واشنطن. (دمر هذا العمل أيضاً خلال مداهمة الشرطة للمعرض المنظم بمكتبة ستانلي روز).

في دراسة نُشرت حديثاً عن غاستن، كتب المنسق روبرت ستور: "في الحقيقة، لقد تسبب العنف الذي صوره غاستن استعارياً في اندلاع ثورة حقيقية في المناخ المنقسم أيديولوجياً لتلك الفترة، وهو مناخ توقع بشكل مخيف عداء وحزازات جناح اليمين في الولايات المتحدة والتي بلغت ذروتها في عهد ترامب". أوضح هذا الإبتلاء الأولي أنه على الرغم من أن الفن السياسي قد لا يكون قادراً على تغيير العالم، إلا أنه يمكن أن يركز على الشرور التي تهدد المجتمع ويظهرها للعلن حيث يمكن رؤيتها على حقيقتها. لقد كان درساً لن ينساه الفنان".



من أعماله المستوحاة من الحركة الجدارية المكسيكية ( المصارعون Gladiators - 1940)
 

اختفى رجال الكو كلوكس كلان من فن غاستن لفترة من الوقت عندما انشغل بلوحات مستوحاة من الجداريات المكسيكية والتجريدية المشابهة للوحات الفنانين الآخرين الذين نشطوا خلال فترة ما بعد الحرب، غير أنهم عادوا بعد ذلك بغزارة بعد ما يقرب من أربعة عقود في إحدى أشهر أعمال غاستن الفنية. بحلول ذلك الوقت، كان قد حقق غاستن شهرة كبيرة كرسام تجريدي، ولذلك خيب آمال الكثيرين عندما عاد إلى التصوير برابطة جأش واضحة، منشغلاً برسم صور غامضة تصف أكواباً كاريكاتورية ورؤوساً وحوامل ومَخايِل أخرى ذات مظهر كرتوني على خلفيات عَيساء شاغرة. قال أوينغ: "كان الناس يهمسون وراء ظهره وهم يقولون بأنه فقد عقله، وبأن ذلك لم يكن فناً. كان من الممكن أن يقضي على سمعته، وقال بعض الناس إنه فعلا قضى عليها".

بينما كان زملاؤه ينظرون بحذر، بدأ غاستن في الدفع بالتصوير إلى أبعد من ذلك وقام بإعادة رجال الكو كلوكس كلان مرة أخرى إلى لوحاته. في أعمال الثلاثينيات من القرن الماضي، قدم شخصياته المقنعة بمستوى من الواقعية، ورسم أرديتهم بشكل معقد مع إبراز الظّل والضّوء غير أنه بدءاً من عام 1968 تم تقديمهم بشكل ساخر حيث بدت أغطية رؤوسهم المدببة مخيطة بشكل سيء ومتدلية، وغالبًا ما كانت لديهم قفازات حمراء كبيرة، وكانوا يتحدثون وهم ينفثون سجائرهم ويركبون سياراتهم محتشدين.

إن أعمال غاستن لا تستحي من التعامل مع العنف، فقد أبدعت كرد فعل على حالات مختلفة من الاضطرابات الاجتماعية في الولايات المتحدة - بما في ذلك المواجهة بين المتظاهرين والشرطة في المؤتمر الوطني الديمقراطي، واغتيال مارتن لوثر كينغ الابن عام 1968. يصور عمل غاستن المعنون بـ"الأزمنة العصيبة" (1970) رجلين من رجال جماعة الكلان وهما يركبان سيارة، بينما يشير أحدهما بمسدس إلى شخص يبدو أنه قد قُتل بالرصاص، وقدماه تبرزان من وراء بناية حضرية ضخمة. يقول وكيل المبيعات الفنية ديفيد ماكي في نص أعيد نشره على موقع مؤسسة فيليب جوستون: "لقد كانت أعمال غاستن مثيرة لأنها تعكس الكثير مما كان يحدث في العالم في ذلك الوقت وفي أمريكا، بما في ذلك قلاقل الحقوق المدنية والمظاهرات وإضرام النيران والغضب واختلال كل شيء، نحن نتحدث عن اهتماماته المبكرة في اتخاذ موقف ضد الظلم الاجتماعي".

في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، كانت أعمال غاستن حول جماعة الكلان تزعج باستمرار أذهان العديد من المتلقين لأنها كانت مستعصية على القراءة والتحليل. كان الناس يتساءلون إلى أين يتجه هؤلاء الذين يركبون سيارات عتيقة ليقتلوا شخصا ما، أو يحضروا اجتماعاً، أو يقوموا بشيء مألوف مثل زيارة متجر أو حانة؟ لماذا يبدو بعض أعضاء جماعة الكلان حزينين؟ لماذا كانت أيديهم ضخمة؟ وماذا عن الأصابع الكستنائية العملاقة التي تشير إليهم أحياناً؟ أيضًا، كيف يمكن لرجال جماعة الكلان الذين يرتدون أغطية رأس دون فتحة فم أن يدخنوا سيجارة؟

اختار غاستن أن يترك هذا النوع من الأسئلة مفتوحاً بالرغم من أنه وصف هذه الأعمال في بعض الأحيان بكونها "بورتريهات ذاتية"، في إشارة إلى أنه كان يحاول في الحقيقة أن يفهم الإيديولوجيات العنصرية التي تحفز هؤلاء الأشخاص، والتي كان يعتقد أنها قد تكون أيضاً موجودة بداخله بطريقة ما. عندما طلب من أوبينغ أن يصف تفكير غاستن تخيل الفنان يقول: "الطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها أن أفهم الشر الخارجي هي أن أكتشف إن كان هذا الشر موجوداً بداخلي".

وفي سياق آخر، اقترح آخرون معاني معقدة لأعمال غاستن لها علاقة بالسيرة الذاتية للفنان. في وقت مبكر من حياته ولعقود عديدة، كان الاسم الأخير لغاستن هو جولدشتاين قبل أن يتخلى عنه في محاولة لإخفاء هويته اليهودية، غير أنه خلال الستينيات سعى إلى ربط الاتصال بتراثه اليهودي. هل يمكن للشخصيات المقنعة- يشير البعض إلى الطريقة التي أخفى بها هويته- أن تبقيها بعيداً عن أنظار الجمهور؟ لقد ذهب مؤرخ الفن دونالد كوسبيت نفس المذهب عندما كتب أن غطاء الرأس "يشير إلى إحساس غاستن وإدراكه بأنه مجهول الهوية، أي بدون هوية فنية. هل يخفي أيضاً بخجل ما يسمى بـ"الوجه اليهودي"؟ "

مهما كان المحتوى الاستعاري الغني الذي يمكن استخلاصه من اللوحات الآن، فقد كان يُعتقد أن هذه الأعمال الفنية فاشلة عندما ظهرت لأول مرة عام 1970 في معرض مارلبورو في نيويورك، مما أعطى غاستن فرصة للعرض في موسم الخريف أمام جمهور أكبر. انتقد النقاد ذلك المعرض الفني، وزعموا أن أعمال غاستن حول جماعة الكلان تمثل محاولة سيئة لجعل أعماله موضوعية ومناسبة. في إحدى القراءات الشهيرة التي نُشرت في مجلة تايم، قال روبرت هيوز إنه ربما يكون "قد تأخر الوقت قليلاً لإقامة معرض كامل حول جماعة الكو كلوكس كلان". وفي مقال آخر نُشر في صحيفة نيويورك تايمز، قدم هيلتون كرامر-ناقد ذو ميولات محافظة من الناحية الجمالية والسياسية- أقسى قراءة لمسيرة غاستن المهنية واصفاً لوحاته حول جماعة الكلان بأنها "المرادف الفني لـ"الحدث الزائف".
 

منذ ذلك الحين، دافع العديد من الفنانين عن أعمال غاستن حول الكلان، فقد كتب غلين ليغن مثلاً في كتالوج معرض غاستن الذي تم تأجيله مؤخراً قائلاً: "لقد استيقظت لوحات غاستن عن "أغطية الرأس" برواياتها الغامضة وموضوعها المثير من سباتها". وفي مقال من نفس الكتاب، كتب ترينتون دويل هانكوك قائلا: "إن غاستن يصف شيئاً يتجاوز المناسبة، شيئاً كامناً تحت القلنسوات البيضاء"، عنصرية مكتوبة بشكل بارز. وأوضحت ابنة الفنان موزا ماير مكمن القوة الراسخة للوحات من خلال اقتباس من دراسة نشرها هارولد روزنبرغ في مجلة نيويوركر حول معرض مارلبورو حيث يقول: "اليوم، لن نكون دقيقين حين نقول إنه بمجرد وصف تفاهة الحياة اليومية لجماعة الكلان؛ فسيمكننا تشخيص العنف والاستبداد من تغييب السياسة وإبقائها بعيداً".


 

رابط النص المترجم (عن مجلة ARTnews):
https://www.artnews.com/feature/philip-gustons-kkk-paintings-history-meaning-1234572056

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها