بلاد الرافدين.. أرض الأسطورة والحضارة

تأليف: د. عبد الباسط سيدا

حواس محمود


يركز المؤلف في كتابه "بلاد الرافدين أرض الأسطورة والحضارة" على أن الإنجازات الرافدية قد أسهمت إسهاماً بارزاً في عملية التجادل الحضاري، التي تمت في منطقة الشرق الأدنى القديم، ويتجلى ذلك من خلال السمات المشتركة التي تشد تلك الإنجازات الحضارية التى حققتها مختلف مجتمعات المنطقة، وقد تمثل ذلك في تجادل حضاري متميز؛ إذ أخذت مجتمعات الشرق الأدنى القديم عن الحضارة الرافدية الكثير من الإسهامات الإبداعية في مجالات وميادين معرفية عديدة، كما أن بلاد الرافدين أخذت هي الأخرى من جانبها الكثير عن مجتمعات الشرق الأدنى القديم واستفادت من تجاربها، وساهمت حصيلة هذا التجادل الحضاري في تمازج حضاري فريد، قلّ أن عرفته منطقة أخرى في العالم، كما أن الجانب المهم في حضارة بلاد ما بين النهرين -باعتباره حصل على قدر وافر من التدقيق والتمحيص البحثيين- يتمثل في التراث الأسطوري الغني الذي قدمته تلك الحضارة للبشرية.


الدراسات التي تضمنها الكتاب الحالي تهدف إلى تعريف القارئ بجوانب حضارية عديدة شهدتها أرض الرافدين، شملت العديد من المعارف في ميادين الفلك والرياضيات والتأريخ، مع تركيز خاص على الوعي الأسطوري الرافدي إلى جانب دراسته في بعده التطوري، والسعي من أجل معرفة حدود التقاطع بينه وبين الفعل الفلسفي اللاحق.

البعد التأريخي في التراث السومري

يرى المؤلف أن التاريخ هو السعي لإدراك الماضي، وهو منساب في شتى العلوم والآداب مرتبط بها متفاعل وإياها، ولكنه يتميز عنها من حيث انصبابه على الماضي بالذات، والأسطورة هي الأخرى تتناول أحداثاً جرت في الأزمنة القديمة –أو يعتقد أنها جرت– ربما سبقت التسجيل الكتابي، بل ظهور التجمعات السكنية، وهنا موضع اللقاء بين الاثنين، لكن الاختلاف بينهما يظهر مع الانتقال إلى دراسة الأحداث الماضية التي تستحوذ على اهتمامهما المشترك، فالتأريخ علاقته مع البشر على اختلاف مستوياتهم، بينما أبطال الأسطورة هم الآلهة وأنصاف الآلهة من البشر، كما أن الأحداث التي يتعامل معها التاريخ تتميز بواقعيتها، وذلك بفعل خضوعها للنقد والتدقيق والتأكد من صدق رواتها، وحتى إن شابها شيء قليل من المبالغة، أو ضعف المصداقية إلا أنها أقرب إلى الصدق والواقعية عموماً، أما أحداث الأسطورة فهي ترد مضخمة وبعيدة عن الواقع، وهذا لا يتم غالباً بدافع التضليل؛ وإنما نتيجة تضافر عوامل عدة، منها اجتماعية – اقتصادية – ذهنية – روحية – سياسية – آيديولوجية – وحتى دينية.

يشير المؤلف إلى ضعف التدوين التاريخي لدى السومريين، وهذا لا يقلل من شأن السومريين، ذلك أن المجتمع السومري ابتكر إسهامات عظيمة، وتشكلت بفضلها أسس أكيدة ساعدت على إنجاز البحوث التاريخانية التالية.

يقول المؤلف: إنه إذا كان السومريون لم يقدموا جهوداً ملموسة في التدوين التاريخي إلا أنهم قدموا أدوات للحضارة، منها الكتابة التي حظيت بمكانة مرموقة في المجتمع السومري وهذا ما يؤكده ظهور عدد من المدارس الكبيرة ذات الأهمية التي كانت تعد الكتبة في المجتمع المذكور، وهذا دليل على أهمية التدوين في جميع الميادين إذ كانت جميع المبادلات التجارية تسجل بحضور الشهود، وتحفظ وثائقها لدى المراكز المختصة، وكانت هناك الأختام خاصة الأسطوانية التي ظهرت لأول مرة في دور الوركاء الوسيط "الطبقة الخامسة" حوالي 3700 ق.م، هذه الأختام عكست أيضاً عبر مختلف المراحل التاريخية معتقدات المجتمع واهتماماته، ومستوى تقدمه وصلاته مع المجتمعات الأخرى.

الأسطورة.. دراسة في المصطلح

يقول المؤلف إن مصطلح الأسطورة هو الترجمة العربية لمصطلح myth المشتق من المصطلح الإغريقي mythos الذي يعني حكاية، أما المصدر العربي الذي اشتق منه مصطلح الأسطورة بمعناه الحديث فهو لا يزال بين أخذ ورد، وكان مصطلح الأسطورة قد ورد في القرآن الكريم بصيغة الجمع، مقترناً بكلمة الأولين في سور قرآنية عديدة، وفسرت عبارة أساطير الأولين التي وصف بها المشركون الآيات القرانية بأنها كانت تعني الأكاذيب التي كتبها الأولون؛ أي أنها عبارة عن حكايات وأقاويل لا أساس لها من الصحة، وظل هذا المعنى مواكباً الأسطورة لفترات طويلة، حتى إنه لا زال سائداً حتى يومنا الراهن.

ويشير المؤلف إلى أن الأسطورة في بداياتها لم تكن مقدسة، على الرغم من أنها كانت تؤدي وظيفة ضرورية، كما أن الحركات التي كان الإنسان القديم يؤديها لم تكن قد تحولت بعد إلى طقوس اكتسبت صفة دينية على مر العصور.

الأسطورة والخرافة

يسعى المؤلف إلى إزالة الالتباس والخلط الحاصل بين الأسطورة والخرافة؛ إذ تسود نظرة خاطئة من أن الأسطورة ما هي إلا خرافة، وأن الخرافة هي البقية الباقية من الأسطورة، فيجد المؤلف في الخرافة أنها محاولة لإحداث شيء من التوازن في حياة الإنسان من خلال تفسير بعض الظواهر في حياة الإنسان، بإدخال بعض العناصر الإلهية في سير أحداثها أسوة بالأسطورة، وتكون الخرافة عموماً ذات طابع بيئي محلي، أما الأسطورة فهي تتسم بطابعها الشمولي في تناول الظواهر الكونية، وارتباطها الوثيق بعالم الآلهة المتعددة التي تجسد القوى الطبيعية المختلفة، ومخاطبتها لأعمق المشاعر الاإسانية إلى جانب إثارتها لإسئلة كبرى تتعلق بالموت والخلود والمعرفة والقيم، وتشكل الكون وهذا ما يفسر انتشارها وديمومة تقديرها حتى في عصرنا هذا، رغم نزعته العلمية الواضحة.

الوعي الأسطوري الرافدي والفعل الفلسفي النظري

يرى المؤلف أن موضوع "الوعي الأسطوري الرافدي والفعل الفلسفي النظري" هو الموضوع المحوري في كتابه الذي بين أيدينا. الفعل الفلسفي النظري –بحسب المؤلف– هو جهد ذهني إنساني، يتخذ من الأسئلة الكبرى محوراً لنشاطه، ويعتمد المفاهيم المجردة أداة تفسيرية، يتعامل من خلالها مع مادة بحثه فيرتقي بفعل ذلك نحو مستويات تتجاوز حدود الملامسة المباشرة مع الواقع، حتى يبدو وكأنه نوع من المغامرة الاستكشافية، وهذا الجهد لا ينطبق على العقائد أو الطقوس الجامدة، إلا أن مثل هذا التحديد للفعل الفلسفي النظري لا بد أن يأخذ في اعتباره حقيقة الأسبقية التاريخية – المنطقية للوعي الأسطوري، واستمراريته عبر المراحل التي تلت ظهور الفلسفة، بمعنى أن عملية التفاصل بين الوعي الأسطوري والفعل الفلسفي لم تأخذ مداها القطعي إلا في مراحل لاحقة، تلت ظهور الفلسفة وتبلور معالمها الأساسية.

وبالاستناد إلى ما تقدم؛ يبين المؤلف أن هناك مرحلةً انتقالية شهدت تداخل الأسطوري مع الفلسفي، وهيأت في الوقت ذاته لاستقلالية هذا الأخير على الرغم من انطلاقه من مجمل ما كان قد تم الوصول إليه على صعيد التأمل الفكري في نطاق الوعي الأسطوري نفسه، ولعل هذا ما يفسر في جانب منه دوافع اعتماد أفلاطون الأسطوؤة وسيلة لشرح أفكاره.

وبالرغم من الانفصال التدريجي بين الفلسفة والأسطورة، يرى المؤلف أنهما يشتركان في خاصية كونهما يجسدان وعياً إنسانياً محوره موقع الإنسان من الكون وحدود طاقته، والمصير الذي ينتظره مع الأخذ بالحسبان أمرين أساسيين هما:
حقيقة التفاوت القائم بين مستوى الوعي الذي تحظى به الفلسفة وذاك الذي تعكسه الأسطورة، واختلاف أسلوبهما في تناول الهم الإنساني المشترك.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها