عصر الفراغ: الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة

د. سعيد عبيدي



يُعدُّ كتاب "عصر الفراغ: الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة" (L'Ère du vide : essais sur l'individualisme contemporain) أحد أهم كتب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky"، حيث قام من خلاله بدراسة المجتمعات ذات الميول الاستهلاكية المتطرفة وذات الإيديولوجية الليبرالية الجديدة، فهو يؤكد أن هذه المجتمعات دخلت في مرحلة جديدة من الرأسمالية تعرف بمرحلة "الاستهلاك العالي"، وهي التي ترتب عليها، وفق ليبوفتسكي، "بروز نموذج جديد من الأفراد المستهلكين، الذي ألقى جانباً جميع الإيديولوجيات وتوجه نحو البحث عن الرفاهية والسعادة عبر المشتريات وتحسين الأحوال الصحية ومستوى العيش والتزود بالماركات الكبيرة، وولوج عالم الاتصالات المباشرة في ظل ثورة المعلوماتية وشبكات الأنترنت. لكن "ذهنية الاستهلاك" لم تقتصر على ميادين الشراء والرفاهية فقط؛ وإنما نجحت أيضاً في التغلغل إلى العلاقة العائلية والعقائدية السياسية والنقابية، بل إنها أصبحت أحد المكونات الأساسية في الفضاء الثقافي والاقتصادي".


 

إغراء لا يتوقف

يرى جيل ليبوفتسكي أن المجتمع الاستهلاكي يُبرز بوضوح -عبر غزارة منتجاته وصوره وخدماته، والمتعة التي تترتب عنه- مدى اتساع نطاق استراتيجية الإغراء، لكن لا يمكن حصر هذه الأخيرة في استعراض التراكم، بل تعني بشكل أكثر دقة تزايد الخيارات التي تتيحها الوفرة، وحرية التصرف التي يتمتع بها الأفراد الغارقون في فضاء يقدم مزيداً من الخيارات والتوليفات على المقاس، ويتيح تنقلاً وانتقاء حرين. ولسنا إلا في البداية، فهذا المنطق سيتواصل حتماً مع تمكين الجمهور من تنوع أوسع للسلع والخدمات بفضل التكنولوجيا والسوق الحرة.

إن الإغراء هو ما ينظم عالمنا ويعيد تشكيله وفق عملية شخصنة ممنهجة يكمن عملها أساساً في تكثير العرض وتنويعه، وتقديم اقتراحات أكثر من أجل أخذ قرارات أكثر، وإحلال الاختيار الحر مكان الإكراه المتماثل، والتعدد مكان التجانس، وتحقيق الرغبات مكان التقشف. يحيل الإغراء إلى عالمنا المكون من نطاقات اختيارية وبيئة نفسية وموسيقية وإخبارية حيث يتمتع كل واحد بإمكانية تركيب عناصر حياته بحسب أفضلياته.
هذا –إذن- هو المجتمع ما بعد الحداثي الذي يتميز بتوجه شامل نحو الحد من العلاقات السلطوية والتحكمية، وبالموازاة مع ذلك زيادة الخيارات الخصوصية، وتفضيل التنوع، لكن الإغراء الذي يشكل أحد دعائمه يعد بمثابة هدم بارد لما هو اجتماعي عبر عملية عزل لم تعد تنتظم من خلال القوة أو الأطر القانونية؛ وإنما عبر "المُتعيّة" والإعلام وتحميل المسؤولية، بحث أصبح كل واحد منا مع سيطرة وسائل الإعلام والأشياء يلاحظ نفسه ويختبرها، وينكفئ أكثر على ذاته بحثاً عن حقيقته ورفاهيته، وأصبح كلنا مسؤولا عن حياته الخاصة، ومطالباً بإدارة رأسماله الجمالي والعاطفي والجسدي على نحو أمثل.

قمة اللامبالاة أن يعيش الإنسان بلا هدف ولا معنى

في هذا الباب يرى جيل ليبوفتسكي أنه في زمن الإبهار والإغراء تتلاشى التناقضات الصلبة، بين الحقيقي والمزيف، وبين الجميل والقبيح، وبين الواقع والوهم، وبين المعنى واللامعنى، وتصبح المتضادات "عائمة". لقد بدأنا نفهم حسب الكاتب أنه صار بإمكان الإنسان أن يعيش بلا هدف ولا معنى في تعاقب وميضي، وهذا شيء مستجد، فقد سبق لنيتشه أن صرح بأنّ أي معنى كائناً ما كان يبقى أفضل من غياب المعنى كلياً، وحتى هذا لم يعد صحيحاً اليوم، ولم تعد هنالك حاجة إلى المعنى، ويمكن للإنسان أن يعيش دون اكتراث للمعنى، دون شجو ولا إحباط ولا تطلع إلى قيم جديدة، وهذا في نظر الكثير من الدارسين هو قمة اللامبالاة.

ويؤكد الكاتب في هذا الباب على أن ظاهرة اللامبالاة تبرز بوضوح أكبر في ميدان التعليم حيث تلاشت هيبة المدرسين وسلطتهم بشكل كامل في غضون بضع سنوات وبسرعة خاطفة، حيث أصبح خطاب المعلم الآن منزوع القداسة ومبتذلا، وعلى قدم المساواة مع خطاب الإعلام، وأصبح التعليم آلة تم تحييدها بسبب الفتور المدرسي الذي يظهر من خلال الاهتمام المشتت والارتياب غير المتحرج تجاه المعرفة.

النرجسية أو استراتيجية الفراغ

في الفصل الثالث من هذا الكتاب يشير جيل ليبوفتسكي إلى أن كل جيل يحب أن يتعرف إلى نفسه ويجد هويته من خلال شخصية أسطورية أو خرافية كبرى يعيد قراءتها وفقاً لإشكالات اللحظة: أوديب كرمز كوني، بروميتيوس وفاوست وسيزيف كمرايا تعكس الوضع الحديث، أما الآن فأسطورة نرجس هي التي في أعين عدد كبير من الباحثين وخاصة منهم الأمريكيين، ترمز للزمن الحاضر، إذ يريد الإنسان أن يعيش الحاضر ولا شيء غيره، ولم يعد يرغب أن يعيش وفقاً للماضي والمستقبل، ففقدان معنى الاستمرارية التاريخية هذا، وتآكل الإحساس بالانتماء إلى سلسلة من الأجيال المتجذرة في الماضي والممتدة في المستقبل هو الذي يميز المجتمع النرجسي ويخرجه إلى الوجود. إننا نعيش الآن -حسب الكاتب- من أجل أنفسنا، دون الاكتراث لتقاليدنا ولا لمآلنا، لقد هجر المعنى التاريخي كما سبق، وهجرت القيم والمؤسسات الاجتماعية.

فالنرجسية إذن وعي جديد للغاية وبنية عضوية في الشخصية ما بعد الحداثية، لذلك يتحتم أن نتصورها كنتيجة لعملية شاملة تنظم السير الاجتماعي، فالشخصية الجديدة للفرد تدعو إلى الاعتقاد بأن النرجسية لا يمكن أن تنتج عن مجموعة متفرقة من الأحداث المؤقتة، وإن كان ذلك مصاحباً بشكل سحري للوعي. لقد ظهرت النرجسية في الواقع من الهجر المعمم للقيم والغايات الاجتماعية، والراجع إلى عملية الشخصنة.
ولقد صاحب هذه النرجسية ظهور ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"الفراغ" أو "القنوط الجديد" الذي أصاب عدداً متزايداً من الذوات. ويبدو أن اتفاق الاختصاصيين حول هذه النقطة هو عام؛ إذ إن الاضطرابات النرجسية هي التي تشكل الجزء الأكبر من الأمراض النفسية التي يعالجها المتخصصون في السنوات الأخيرة، في حين أن الاضطرابات العصبية "التقليدية" مثل الهستيريا والخوف والهوس التي قام عليها التحليل النفسي لم تعد تمثل الشكل الرائج للأعراض، فالاضطرابات النرجسية تكون أعراضها واضحة ومحددة تظهر على شكل شعور بالضيق يتفشى ويجتاح الإنسان، وإحساس بالفراغ الداخلي، وبعبثية الحياة، وعجز عن الإحساس بالأشياء والكائنات.
 

مجتمع الدعابة

في العصر الحديث يرى جيل ليبوفتسكي أن برامج التنشيط التلفزي والشعارات في المسيرات والموضة والدعاية وغيرها أصبحت تتبنى الأسلوب الدعابي على نحو متزايد، فالأعمال الهزلية تثير إعجاباً شديداً، ويكفي أن يقرأ المرء عناوين الصحف اليومية والأسبوعية، والمقالات العلمية أو الفلسفية ليظهر له أنه حل مكان النبرة الجامعية والأكاديمية أسلوب أكثر إثارة يعتمد الغمز واللعب بالكلمات. ولقد تجاوز الفن في هذا الاتجاه كل الانتاجات الأخرى، وأدمج الدعابة منذ زمن طويل كأحد أبعاده المكونة.
وما يجب التنبيه عليه في هذا المقام هو أن عصرنا لا يملك أن يدعي احتكار الدعابة، فلقد شغل المرح والضحك –في كل المجتمعات بما فيها المتوحشة التي أبرزت الإثنوغرافيا وجود طقوس وأساطير كوميدية بها- مكانة أساسية نميل كثيراً إلى التنقيص من قدرها. غير أنه وإن كانت كل ثقافة في الغالب تطور نسقاً كوميدياً، فإن المجتمع ما بعد الحداثي لوحده يمكننا أن نصفه بكونه مجتمعاً دعابياً، وهو وحده تأسس بشكل عام تحت كنف عملية تميل إلى تذويب التعارض الصارم بين الجاد والهزلي.

إن الدعابة التي نراها الآن تتدفق من كل حدب وصوب، ليست –حسب الكاتب- إبداعاً تاريخياً جديداً على نحو تام، فمهما بلغت حداثة الدعابة فإن هناك روابط تجمعها بروح خاصة ترجع أصولها إلى زمن سابق، وهي روح الدعابة التي انتشرت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في إنجلترا على وجه الخصوص، لذلك فالدعابة المعاصرة لها ارتباط وثيق بالدعابة الكلاسيكية، التي تعد هي الأخرى ومن نواح عدة متسامحة ومهذبة، ولكن إذا كانت الأولى قد ترتبت عن التنشئة الاجتماعية المُتعيَّة، فإن الثانية يجب ربطها بظهور المجتمعات الفردانية، وبهذا المعنى الاجتماعي الجديد للوحدة الإنسانية مقارنة بالكل الجماعي، والذي تمثل أحد آثاره في الإسهام في الحط من شأن استخدام العنف وكبح جماحه.

من العنف المتوحش إلى العنف الحديث

في ختام هذا الكتاب يرى جيل ليبوفتسكي أن العنف في المجتمعات القديمة ارتبط أساساً بقانونين متلازمين على نحو صارم هما: الشرف والانتقام، فقد شكلا ضرورتين لا يمكن فصلهما عن المجتمعات البدائية، وهي مجتمعات "شاملة" تقوم على المساواة يعيش فيها الأفراد خاضعين للنظام الجماعي، وتكون العلاقات بين الناس أكثر أهمية وقيمة من العلاقات بين الناس والأشياء.

يُعد إذن الشرف والانتقام بنى أولية في المجتمعات المتوحشة، وحيث تسود قيمة الشرف تكون الحياة أرخص مقارنة بقيمة التقدير الاجتماعي، فقانون الشرف يدفع بالناس إلى فرض أنفسهم عبر القوة، وإلى كسب اعتراف الآخرين قبل أن يضمنوا أمنهم، وإلى القتال من أجل فرض احترامهم ولو أدى ذلك إلى الموت، فالشرف في الفضاء البدائي يعد النقطة التي يرتكز عليها العنف.
وإذا كانت الحرب البدائية وثيقة الصلة بالشرف، فإنها كذلك بالنسبة إلى قانون الانتقام أيضاً؛ إذ إن العنف إما أن يكون من أجل الحظوة الاجتماعية أو من أجل الانتقام. فالصراعات المسلحة تحدث من أجل الانتقام بسبب إهانة أو قتل أو حتى حادث أو جرح، أو مرض يرجعه الناس إلى قوى شريرة يستعملها ساحر عدو. إن الانتقام هو الذي يفرض أن يراق دم العدو، وأن يعذب الأسرى وتبتر أعضاؤهم أو يتم التهامهم على نحو شعائري، وهو نفسه الذي يفرض في الأخير على الأسير ألا يحاول الفرار اعتقاداً منه أن آباءه وجماعته يملكون من الشجاعة ما يكفي من أجل الانتقام لموته.

أما في المجتمع ما بعد الحداثي فيؤكد جيل ليبوفتسكي أن الأحداث والوقائع لا تبشر بمزيد من التسامح والضوابط المرنة، حيث صرنا نلاحظ انبعاثاً مذهلاً ومدهشاً للأصوليات والأرثوذوكسيات والتقاليد الدينية، والتي بسببها وقع إحراق بعض دور السينما التي عرضت فيلم "إغراء المسيح"، ووقع تفجير بعض المصحات التي تقوم بعمليات الإجهاض، وهناك عودة للمدارس الأرثوذوكسية المتطرفة عند اليهود. ومن بعد التطرف اليساري هناك الآن تطرف "ورعي" في بعض الأوساط الإسلامية واليهودية والكاثوليكية، فالتطرف الديني الجديد يقف على النقيض من القيم الفردانية، ويرفض الحق في تكييف التقاليد، لكن رغم كل هذا هناك أصوات تتعالى كل يوم ومن كل الأمكنة تستنكر السلوكات التي تنكر الحق في الحياة وتقود إلى انعدام التعايش والتسامح.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها