الثقافةُ الثالثة.. ومبدأ التّكامل

د. سمر الديّوب

يهتمّ هذ المقال بالتكامل بين الإنسانيات والطبيعيات، منطلقين من أنّ الطرفين يمثّلان ثنائية ضدية، والعلاقة بين الطرفين علاقة تضاد، لا نفي، وفي علاقة التضاد تكامل، فالتضاد مدعاة للتكامل في النهاية، ويقوم جوهر التضاد على اشتمال كلّ ضدّ شيئاً من خصائص ضدّه، ففي الإنسانيات شيء من الفيزياء حين يتعمّق الأديب في قضايا الوجود، ويلجأ الفيزيائيُّ الحديثُ إلى الخيال والتفكير بشاعرية حين يبحث في عالم ما دون الذرّة المتناهي في الصّغر، وعالم المجرّات المتناهي في الكبر.
 

إننا في أمسّ الحاجة إلى تجديد الخطاب الفكريّ، وتقديم صورة جديدة من الحوار الثقافي بين الإنسانيات والطبيعيات، فيمكن للأديب أن يفكّر، وينتج أدباً مماثلاً لما توصّلت إليه الفيزياء الحديثة بطريقته الأدبية؛ لأنّ العالم واحد مهما تعدّدت مسالكه، ومهمّة الأديب والعالِم فهمُه وتفسيره.

ولا توجد حقائق نهائيّة في العلوم الطبيعيّة، إنّها تسعى إلى الحقيقة بطريقتها، وكذلك الأدب، ينظر إلى الحقيقة نظرة شعريّة، فلا يوجد فيه حقائق ثابتة، بل تتغيّر من رؤية إلى أخرى، وتعدّ العلوم الإنسانيّة نافذة التواصل بين الماضي والحاضر، وتعدّ العلوم الطبيعية معرفة منهجيّة للطبيعة والعالم الماديّ، ومن الخطأ الحكم على الفيزيائيين بأنّهم لا يعترفون إلا بلغة الفرضية والإثبات، المقدّمة والنتيجة، الدليل والبرهان، إنّهم يبحرون بالخيال أكثر من الأدباء، فيكمن الجمال في عالم الفيزياء في التناسب، والتناظر، والانسجام، وثمّة تناظر بين عالم ما دون الذرّة، وعالم النسبية العامة التي تتعلق بالمجرات والنجوم، وقد تمّ توحيد قوى الطبيعة: الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والنووية، وسمّوها نظرية كلّ شيء، وقد انطوت على كمّ هائل من التناظرات، إنّه الجمال الذي يستهوي الأدباء، فالثقافتان متماثلتان في الأصل في الجنوح إلى الخيال، وحركة الفكر، ومختلفتان في الطبيعة، من هنا تنشأ ضرورة التكامل بين الثقافتين، وقد شدّد ابن سينا، وأرسطو قبله، وابن رشد، وديكارت R. Descartes، وباشلار Bachelard، وكانت I. Kant، وفولتير Voltaire على ضرورة التكامل المعرفيّ، فقد كانوا موسوعيّين، لم يختصّوا بعلم واحد.

لقد كتب أرسطو في الميتافيزيقا، والمنطق، ووضع أسسه، وفي النبات والحيوان، وكان ابن سينا فيلسوفاً وطبيباً وشاعراً، ورأى الغزالي أنّ العلوم متعاونة مترابطة بعضها ببعض، وبعضها طريق لبعض في كتابه "إحياء علوم الدين"، وأكّد ابن حزم في كتابه "مراتب العلوم، وكيفية طلبها، وتعلق بعضها ببعض" أنّ العلوم كلّها متعلّق بعضها ببعض، ومحتاج بعضها إلى بعض، وكان ليوناردو دافنشي رسّاماً ونحّاتاً وموسيقياً ومتبحراً في عالم الميكانيكا، فجمع بين العلم والفنّ، ونظر إليهما نظرة تكاملية.

ونرى كتاباً لستيفن هوكنغ Stephen Hawking في الفيزياء عنوانه شعريّ: "الكون في قشرة جوز" قدّم الفيزياء الحديثة في صيغة شاعريّة.

التكامل المعرفيّ تواصل العلوم، واتّصالها بهدف الوصول إلى وحدة المعرفة الإنسانية بالتكامل بين الثقافتين، وتغذّي الثقافة الأدبية العواطف، وتغذّي الثقافةُ العلمية العقلَ، وتجمع الثقافة الثالثة المتضادّين، فيتعامل عالِم الكيمياء مثلاً مع المركبات الكيميائيّة كما يتعامل الشاعر مع قصيدة، فتشبه معادلات الكيمياء الأوزان الشعرية، والبحور بتفعيلاتها، وحين يتّحد عنصران، أو أكثر يشكّلان مركّباً، وهو ما يحدث حين تتحد ألفاظ في جملة شعرية، فللمعادلة الكيميائية، وللبيت الشعري موسيقى خاصة، وتوازن، وتعادل، ودلالات متعددة، واحتمالات كثيرة.

إنّ الثقافتين المتضادّتين: العلمية والأدبية توصلان إلى التكامل، وتقدّمان باجتماعهما ثقافة ثالثة، قد تكون بديلة من الثقافتين، فليست الثقافة حكراً على أحد، وليس العلماء محتكري الثقافة العلمية، أو الأدباء محتكري الثقافة الأدبية، إنّهم يمثلون رافداً فكرياً من جملة روافد، يثيرون الأسئلة نفسها حول الوجود، لكن الدروب للوصول إلى الإجابة تتعدّد، وتختلف.

ولا يعني التكامل المعرفيّ التداخل، فمن شأن التداخل أن يجعل علماً يتطفّل على علم، فللإنسانيات والطبيعيات منهجان، وطريقتان، والقصد من التكامل المعرفي توازي العلوم على مبدأ التضاد، واشتمال كلّ طرف من طرفي الثنائية: الإنسانيات، والطبيعيات على شيء من خصائص الطرف الآخر.

ويولّد التكامل مفاهيم جديدة عن الإنسان والطبيعة، فليس الإنسان ذا بعد واحد: ماديّ، ولا يمكن لأمة أن تقيم مدنيتها على أساس العلم وحده، فللإنسان وسعادته مكان فيها.

إنّنا في أمسّ الحاجة إلى الخروج من أحاديّة العلم، والوصول إلى التكامل؛ لتصويب مسيرة العلم، ومسيرة حضارة الإنسان، ويعني ما سبق أنّنا حين نتعمّق في العلوم الإنسانية والطبيعية نصل إلى عدم وجود قطيعة، فالحضارة أدب وعلم، لا علم فقط، وكانت العلوم الإنسانية عبر التاريخ سبّاقة في ميدان تطور الأمم، فالأمّة الراقية تؤنسن، وتفكّر، ثم تخترع، وتكتشف، وما تغليب العلم على الإنسانيات إلا تغليب للمادة على المشاعر، وليست العلوم الإنسانية منحصرة في الشعر ونظمه، إنها حضارة، وفكر، ورؤيا، والاهتمام بها اهتمام بالرقي الفكري، ولنا في تاريخنا أمثلة متعددة، والآداب بخاصة خزينة فكر ورؤيا مستقبلية، والاهتمام بها اهتمام بالروح.

ويتعيّن على ما سبق أنّ الأدب حقل أساسيّ من حقول الوعي البشري، يوازي العلم والفنّ والفلسفة، ففيه مُغايِر، ومُدهش، ولا معقول، ولا موجود، وفي عالم الفيزياء غموض، وشكّ، واحتمال، حين يسبح الفيزيائي بين المجرات البعيدة، ويغوص في عالم ما دون الذرّة، إنّه عالم بعيد عن التحديد اللا نهائي، فثمّة عدم وضوح، ولا تحديد في السنين الضوئية -مثلاً-، أو في نقاط الظلام الكونية، وغير ذلك، ويكتنف الغموض عالم ما دون الذرّة، فبين الذرّة والمجرّة حيوات، وأسرار لا يمكن كشفها مهما تطوّر العلم.

والخيال عند الفيزيائي خيال افتراضيّ، يفترض بنى جديدة، ولا يستعيد معلومات، مخيّلته مبتكرة، ويتصرّف الأديب في لغته، فيفجّر منها طاقات إبداعية كامنة، مغيّراً جوهر العلاقات اللغوية السائدة، وحاصلاً على مركّب جديد، كالكيميائيّ.

والعقل والحدس جانبان متضادّان، أحدهما مضاء، والآخر معتم، ويرود كلّ من الأدب والفيزياء الأجزاء المجهولة والمعتمة والغامضة، لكنّ الفيزياء تدخل إلى المجهول بدقة، وحسابات كثيرة مستعينة بالحدس، لا العقل، ويحوم الأدب حول ذلك المجهول محاولاً تعرّفه بالحدس، والحدس هو العقل في أعلى درجات عمله، فيرى الأديب الجزء غير المكتشف من العالم مثلما يسعى الفيزيائي إلى كشف العالم غير الماديّ بالاستعانة بالخيال؛ ذلك أنّ الكون حشد من الأسرار، فيحاصر كلّ من الطرفين المنطقة غير المكتشفة، وليس من معنى للحديث عن المعلوم.

لقد أدرك الطرفان أنّ الغموض مدهش، وأنّ الحقيقة ناقصة، وفي حين يسعى الفيزيائيّ إلى اكتشاف المجهول في قانون، أو معادلة يسعى الشاعر إلى فتح آفاق مجهولة جاعلاً إيانا نكتشفها معه بحريّة، وإثارة، فكلاهما يسعى إلى اكتشاف الحقيقة، وكلاهما فنّ غير المكتشَف.

الشعر مصدر معرفة بطريقته، يستبطن روح العصر، فيشتمل الشعريّ على الأدبيّ والعلميّ معاً، ألا ينظر الشاعر إلى الكون على أنّه بحر هائل من الطاقة؟ ألا يرى عمرَ المرء نبضةً صغيرة في عمر الزمن؟ تختفي نبضة؛ لتظهر أخرى في هذا البحر الهائل؟ ألا يرى الكون متماسكاً، منسجماً، واحداً على تعدّده؟ ألا يستطيع التحرّر من قيد البعد الفيزيائيّ الثالث إلى بعد أعلى روحياً؟

أليست المعرفة كلّها معرفة باللغة، وأعمالاً في اللغة؟ فلا فرق بين التفكير الشعري، والتفكير العلمي، والفلسفي وغيره إلا في الآلية والطريق، فالشعريّ والفيزيائيّ غامضان، جميلان، وجوهر النصّ الشعري غامض، وغموضه مصدر جماله، وهو غموض الكون من حوله ذاتاً، وطبيعةً، ولغةً، وأشكاله المتعدّدة تتمّم جماله.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها